الساحل السوري: هل وقع في فخ التشييع السياسي؟


11 نيسان 2017

حازم مصطفى (اسم مستعار)

كاتب وصحفي سوري مقيم في اللاذقية

قدم السوريون تفسيراً لأزمة الوقود التي ضربت البلاد الشهرين الماضيين وشلّت الاقتصاد والعباد، بأنّ "الإيرانيين قطعوا الإمدادات عن البلاد للضغط على النظام لتسليمه أحد المرافئ السورية أسوة بتسليم مرفأ طرطوس للروس، مما استدعى سفراً عاجلاً للحكومة إلى طهران لتوقع خمسة اتفاقات، من بينها تسليم منطقة البسيط (شمال اللاذقية) ومناجم الفوسفات شرقي تدمر وأراض زراعية في منطقة الغاب للإيرانيين"، وذلك وفق ما يتداوله السوريون في الشارع في الساحل السوري، والتي تم رصدها من قبلنا، الأمر الذي يعكس وعياً بطبيعة التدخلات الدولية وأثمانها.

أتاح "كسر العظم" هذا فرصة مراجعة الموقف من قضية التشييع السياسي لسكان الساحل السوري، والطائفة العلوية أولها، التي يعمل عليها النظام الإيراني بشكل مخفي وعلني منذ عقود، موضحاً أنّ الشراكة الاستراتيجية معه والمبنية على ديماغوجيا المقاومة والممانعة "لا تمانع" وجود فواتير لا بدّ من دفعها، وأنّ هذه الشراكة ليست بتلك الصورة "الزاهية" التي يحاول النظام تقديمها، وأنّها تتعدى إلى سباق مصالح قوي بين شركاء الخراب السوري وعلى حساب السوريين طبعاً، شاء النظام ذلك أم أبى، متوسمة أدوات تتخفّى في لباس ديني وباحثة عن موطئ قدم تاريخي على شواطئ المتوسط.

مصطلح التشييع السياسي:

في قضية التشييع الحاصلة منذ عقود، لا بدّ من التأكيد دوماً على أنّ الطوائف ليست كيانات مجرّدة ذاتية النمو، وهي لا تكون "طوائفاً إلا بالدولة، لا بذاتها، والدولة هي التي تؤمن ديمومة الحركة في إعادة إنتاج الطوائف كيانات سياسية، هي بالدولة وحدها، مؤسسات" 1، من هنا نفهم أنّ "العلوية" كما "السنية" و"الشيعية"، في راهنها السوري، كما في غيره، هي بنية سياسية قبل أن تكون دينية يقع فضاؤها في قلب الإسلام السياسي وحركيته، وأحد تمظهراته في المنظومات المتقاتلة على الأرض السورية، وهي من أهم أدواته الفاعلة.

نميز بين التشيّع والتشييع، فالأول تحوّل ديني (روحي) إلى المذهب الشيعي لأسباب دينية عقائدية، وعادة ما يكون فردياً، بمعنى أنّه اختيار ذاتي، أما الثاني فهو يضيف إلى التشيع حواملاً سياسية، مثل الأحزاب والتنظيمات ومنها المسلحة (حزب الله)، أو الجمعيات، أو أفراد، ممن يتبنون (مثلاً) قدسية ولاية الفقيه2، والتعصب والمذهبية وثقافة الطقوس الشكلية، عدا عن التدخلات المؤكدة في الشأن العام والسياسي من منطلق مذهبي، ولذلك يعرف "بالتشييع السياسي"3، وهذا يعني أن مواطناً / دولة / حزباً ما [قد] يتبع وينفذ سياسات [دولة أخرى] وتوجهاتها بناء على اتفاق المذهب، وهو ما يمثل خرقاً كبيراً لأية سيادة وطنية في ظل "التربية على التوحش وإعادة التنشئة الاجتماعية لهذه الفرق الخلاصية ولسيناريو الفتن والملاحم"4، وبدلاً من أن تكون معايير علاقات الأفراد والجماعات والدولة بعضها ببعض مرتبطة بعقدهم الاجتماعي الخاص ببلدهم، تصبح عابرة للحدود ومبنية على سياسات دولة أخرى تتخفّى في الإطار المذهبي، والأهم أنّ التشييع السياسي يكاد يكون جزءاً من المشروع الاستبدادي العربي بالتضافر مع نظام ولاية الفقيه الاستبدادي هو الآخر.

إنّ ثقل وقوة مشروع التشييع السياسي في سوريا هو في الطائفة العلوية، فاستمراره في المناطق الأخرى (وأوسعها كان في الجزيرة السورية حتى 2009)5 محكوم بعوامل مقاومة دينية وسياسية واجتماعية تكاد تنتفي في الساحل السوري، فالعلويون تاريخياً من مشتقات الشيعة، وهم غالبية سكان جبال الساحل ومدنه (بدرجة أقل) وبنسبة تقترب من 12% سورياً (تقديرياً 2.1 مليون إحصاءات 2011)، وثالث الأسباب الأقوى: الأمية الدينية العلوية الكبيرة الانتشار والتشقّقات التي تضرب المجتمع العلوي منذ العام 2012 للآن.

 

استثمار المظلومية التاريخية:

يشكل الشيعة أقلية إسلامية كبرى  (100 مليون من مليار) ظهرت للوجود في القرن التاسع الميلادي6 نتيجة لخلاف سياسي حول مسألة حكم الدولة الجديدة بعد وفاة النبي7، ولاحقاً انقسم الشيعة أنفسهم إلى فرق متعدّدة ارتبطت كلّ منها باسم أحد الأئمة أو أبنائهم، ويشكل الاثني عشريين غالبيتهم8، ومن فرقهم الكبرى الإسماعيليون والزيديون والعلويون، وجميعهم تعرّضوا إلى الملاحقة والقتل من قبل السلطات الحاكمة العربية (الأموية والعباسية)9 والأجنبية (مماليك وصليبيين وعثمانيين)، بفتاوى أصدرها فقهاء السلاطين لغايات سياسية، لذلك فقد كان إعلان الشاه إسماعيل الصفوي إيران دولة شيعية عام 1501 بمثابة ولادة جديدة في العصر الحديث أتاحت لهم دولةً تجسد رؤيتهم السياسية والدينية للعالم ومركزاً ثابتاً لممارسة طقوسهم، ولنشر التشييع بوسائل مختلفة (عسكرية، مادية، تبشيرية10.

لوحة فنية بالخط العربي كتب عليها "لا للطائفية "للفنان منير الشعراني.

 

العلويون: الأندلس المفقودة!

أما العلويون، فقد ظهروا في العراق أولاً، كفرقة، عرفت باسم النُصيرية، نسبة إلى مؤسسها (محمد بن نُصير، ت 873م)، الذي كان باباً11 للإمامين علي الهادي والحسن العسكري، ثم لمّا لم يكن للحسن العسكري أولاد يقومون بمهامه بعد غيبة ابنه محمد في سرداب سامراء (على قول الشيعة) فإنّ المرتبة انتقلت لابن نصير الذي تبعه عدد من الأتباع، ثم أكمل مهمة التأسيس للجماعة كلّ من محمد بن جندب، والجنبلاني، والحسين بن حمدان الخصيبي (874-961م) وهو المؤسّس الفعلي لفقه الجماعة ذي الطابع الصوفي السري12.

تشكل مسألة البابية أحد أركان الخلاف الشيعي ـ العلوي القوية، فالبابية في العلوية ركن ديني مهم من المذهب، أما الشيعة، فقد رفضت ادعاء ابن نصير وكفّرته مستندة إلى نظرية الوكلاء، ولم يعترف أيّ مصدر شيعي كبير، مثل (الطوسي وابن أبي الحديد)، بالنصيرية على أنّها من فرق الشيعة، بل اعتبروها من فرق الغلاة (ممّن قالوا بتأليه الإمام علي)، ويوّضح التدقيق فيما كتبوه أنهم يخلطون بين النصيرية والإسماعيلية وفرق أخرى13.

بالمقابل فإنّ مشايعي ابن نصير بعده اتهموا الشيعة (الاثني عشريين) بأنهم (قصّروا في حق الإمام علي وأبناءه) وسموهم (المقصّرة)، وذهب الخصيبي إلى السخرية من طقوس البكاء واللطم في يوم عاشوراء (ذكرى مقتل الحسين بن علي)، كما يقول في ديوانه: [وباك يبكي على ربه] / [لست بحمد الله من حزبه] ـ [يبكي على المقتول في كربلا] / [لا خفّف الرحمن من كربه14.

تعرّضت الفرقة إلى مجازر ومضايقات عديدة من قبل المماليك15 (الشيعة) والصليبيين (المسيحيين) والعثمانيين (السنة) أشهرها (فتوى ابن تيمية ونوح بن حامد الحنفي16)، دفعتهم للهجرة المتتالية من حلب وبغداد إلى جبال الساحل السوري، وأدّت ظروف العزلة التي عاشوها طويلاً بين القرنين العاشر والتاسع عشر الميلادي في جبالهم إلى افتراقهم عن غالب الفرق الإسلامية ومنها الشيعة، وتأثروا ببيئتهم الجديدة، فلم تعد هناك تكاليف شرعية على أيّ منهم بعد هدم السلطات العثمانية لبقية مساجدهم17 ولم تعد نساؤهم تتحجّب الحجاب الإسلامي، وتوقف الاجتهاد والتبشير نهائياً.

لم يعد للعلوية بعد كل تلك الأهوال أيّ مشروع سياسي، فتحوّلت إلى طريقة "صوفية"، طوّرها عدد من المتصوفين اختصّت بالنخبة فقط (العارفين)، دون الناس العاديين الذين يحق لهم التعليم الديني الأولي فقط، وانقسم المجتمع العلوي طيلة قرون بين النخب الدينية ذات الامتياز، والفلاحين. وقد ظلّ اسم "النصيرية" متداولاً لحقبة طويلة حتى تم تغييره رسمياً إلى "العلويين" بعد تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية عام 1920 على يد الفرنسيين18، كما تغيّر اسم جبالهم التي سمّيت باسمهم لفترة طويلة من النصيرية إلى (العلويين) ثم إلى جبال (الساحل السوري) في المناهج الدراسية الرسمية بعد التسعينيات من القرن الماضي.

يأخذ العلويون فقه حياتهم عن الإمام السادس جعفر الصادق، لذلك فقد كان أهم عوامل إعادتهم للحضن الشيعي كونهم (جعفريون إماميون)، فمثلاً، تتشابه عند كليهما شروط الزواج والطلاق والنفقة والميراث، ولكن العلويين لا يقرون زواج المتعة الشيعي ويرفضونه رفضاً قاطعاً.

العودة إلى الحضن:

تسبّبت صوفية العلويين بصراع مستمر لليوم بين مشايخ الطائفة حول عودة الفرع العلوي إلى أصله الشيعي، إلا أنّ عراب الحركة الإصلاحية العلوية وأبوها الروحي العلامة سليمان الأحمد (1869ـ 1942)19 حسم الأمر بضرورة الخروج من كهف العرفان في شؤون الحياة، فأعلن مراراً وتكراراً أنّ الطائفة جعفرية إماميه، وانفتح منذ العام 1914 على علماء المسلمين كعلماء "دمشق" (ومنهم محمد كرد علي) ثم علماء "النجف وكربلاء" و"جبل عامل" (ومنهم عبد الحسين الموسوي وأحمد الزين) دون تخلٍ عن الطريقة الصوفية، كما تعيّن (قاضياَ جعفرياً) وكان أول عضو "علوي" في مجمع اللغة العربية بدمشق20.

أدى تقسيم البلاد إلى كانتونات طائفية، وإعلان الدولة العلوية (بين عامي 1920ـ 1936)21، وإنشاء محاكم مذهبية علوية، إلى الحاجة لمنهج فقهي يراعي الأوضاع الجديدة للعلويين، وهي مسألة عمل على حلّها العلامة الأحمد مع السيد محسن الأمين (العاملي)، وهو شخصية بارزة في تاريخ الشيعة السوريين الأصليين والمؤسّس الفعلي للعلاقات مع الساحل، ولعب دوراً مهماً في تبرئة ساحة (ابن نصير) و(النصيرية) واعتبرهم من الشيعة في موسوعته الكبيرة (أعيان الشيعة).

 في العام 1936 أصدر عدداً من مشايخ العلويين بياناً يؤكدون فيه أنّهم يصرّون على الاندماج مع سوريا رداً على محاولات الإقطاعيين الانفصاليين العلويين، ويؤكدون على "إسلامية وشيعية الطائفة"22، وفي عام 1950 أسّس آل الفضل الأشراف والشيخ عبد الرحمن الخير (1903ـ1986)23، وآخرون، الجمعية الإسلامية الجعفرية في اللاذقية، وبعد عامين أصدر وزير الأوقاف السوري محمد شكري الأسطواني قراراً حمل الرقم (3) يقضي بتشكيل لجنة لتعيين كفاءة المتزينين بالكسوة الدينية على المذهب الجعفري24.

العمامات السوداء إلى الساحل:

أوّل عمامة سوداء وصلت إلى الساحل حملها الشيخ محمد جواد مغنية عام 1961، الذي التقى مشايخ العلويين وسجل وجود "الإيمان الصحيح" و"المصلين والمؤمنين" في الجبل25 ثم لحقه في العام 1972 السيد حسن مهدي الشيرازي (1935ـ 1980) مؤسس الحوزة الزينبية26، وقد كان وصوله انطلاقاً لمرحلة جديدة من تشييع العلويين، إذ أنه عمل بوضوح منطلقاً من مشروعه القائم على "إجلاء الهوية الدينية للعلويين"، وصدر بجهده بيان في طرابلس (لبنان) تموز 1973 وقعه مجموعة مشايخ من سوريا ولبنان (80 شيخاً منهم 74 سوريون) أعاد من جديد التذكير "أنّ التسمية الشيعي والعلوي تشير إلى فئة واحدة هي الفئة الجعفرية الإماميه"27.

أدى البيان إلى تصاعد الصراع المشيخي العلوي ـ العلوي بين مؤيدي عودة الفرع إلى الأصل ومناصري البقاء خارج التجاذبات السياسية التي بدا واضحاً أنّها في طريقها للظهور مع انطلاق الحرب اللبنانية، ظهر ذلك باتهام الشيخ عبد الرحمن الخير بالتشيّع، على أنّ الخيّر لم يتشيّع بالمعنى العقائدي بقدر ماكنت محاولاته إصلاحية تتوّسم الشيعية لفك العزلة والدخول في المجتمع السوري الإسلامي (بما فيه السني) فبقيت عمامته أقرب إلى شيوخ الشام (السنة) منها إلى العمامات السوداء28.

 

بين عهدي الأسد الأب والأسد الابن:

أدى انقلاب الضابط العلوي حافظ الأسد على رفاقه عام 1970 إلى إضافة جديدة في العلاقة بين الطرفين، فغداة ترشحه للرئاسة ورغم الاعتراف الرسمي بالمذهب الجعفري إلا أنّ أصواتاً "إسلامية" شكّكت بأنه مسلم29، وزادها علواً خلو نسخة الدستور السوري المستحدثة وقتها من مادة أن الإسلام دين رئيس الجمهورية، مما أطلق تظاهرات في مختلف المناطق السورية (أشدّها في حماة)، فأصدر الإمام موسى الصدر30 بطلب من الرئيس الأسد في تموز 1973 فتوى أنّ العلويين مسلمون وشيعة31، وكانت المرة الأولى التي يدخل فيها اللفظ "شيعي" الفضاء السياسي السوري بهذه الحمولة.

وضعت سياسات حافظ الأسد، طيلة عهده، خطوطاً حمراء أمام التشيّع في المجتمع وفي أجهزة الدولة (ومنها الأوقاف)، فالرجل العلماني غير المتدين بقي مصراً أنّ علاقته مع إيران تخضع لمعايير السياسة ومصالحها فقط، ولا شك أنّه لم ينس أنّ الخميني قد أسقط نظاماً علمانياً  وكفّر نظام البعث العراقي معتبراً إياه "عدو الإسلام والقرآن الحقيقي، ولن يمضي وقت قبل أن يدمر أضرحة الإسلام ومشايخ وأئمة الشيعة والسنة"، ورغم تعاون الأسد الوثيق مع نظام الملالي الأصولي إلا أنّه بقي حذراً جداً منهم ومن امتداداتهم، فلم يسمح لقادة حزب الله بدخول دمشق حتى التسعينيات، فضلاً عن إغلاقه المتكرّر لمختلف المؤسسات الإيرانية (الخيرية في الظاهر) متى شاء ودون تقديم أي سبب لذلك.

لعبت جمعية المرتضى، التي أنشأها (جميل الأسد) في اللاذقية لنشر الأفكار العلوية ملبسة بثوب شيعي محدث، دور رئيسياً في خلق موجة التشييع السياسي في الساحل ومناطق أخرى، ورغم أنّ (الإمام المرتضى) كما أطلق (جميل) على نفسه، أنشأ عشرات الحسينيات في الساحل إلا أنّ النظام وشخصية جميل الفاسدة والانتهازية لم يسمحا بالتأسيس الفعلي لمراكز تشييع ذات أثر، فمع إغلاق الجمعية بقرار رئاسي عام1983 واعتقال مشايعيها وما تسبّب به من توتر بعد إحراق جماعته عدد من المزارات العلوية32، انطفئ مشروع المرتضى، على أنّ محاولات التشييع ستتابع تسللها بهدوء حتى عهد الرئيس الجديد.

في عهد الأسد الابن: من التشيّع إلى التشييع:

لقد أخذ التشييع في عهد بشار الأسد منحىً جديداً، متحوّلاً إلى عمل مؤسساتي شمل البلاد كلها وبغطاء علني، فبدأت وزارة الأوقاف إنشاء مدارس فقهية تدرس رسمياً فقه المذهب الجعفري غطت الساحل ريفاً ومدناً، مثل (كرسانا، القرداحة، جبلة، طرطوس، الدريكيش، بانياس، رأس العين ـ جبلة، والبهلولية آخرها) ويقدر عدد طلابها بحدود 10 آلاف طالب وطالبة33.

من حيث المبدأ، فإن المدارس الفقهية المتنوعة كانت خطوة يفترض تنفيذها منذ عقود قياساً ببقية المكونات السورية، إلا أن توقيتها وتنفيذها بدعم وضغط إيراني وصمها بالتشييع السياسي، مضيفاً عناصر قلق جديدة لمكونات المجتمع السوري نتيجة التدخل الخارجي في مكوناته.

في عهد الأسد الابن، وفقاً لدراسة حديثة نشرت نتائجها في لندن فقد تم إنشاء 12 حوزة علمية (منها اثنتان في اللاذقية) و3 كليات شيعية، ورُخصت أول جامعة إسلامية (شيعية) عام 2003. ثم أحدثت في العام 2005 مديرية خاصة في وزارة الأوقاف للإشراف على الحوزات العلمية (الشيعية).

 

واقع التشييع اليوم في الساحل:

هناك تياران رئيسيان في الموقف من القضية، فالبعض (خاصة المثقفين) يرفضون الوجود الإيراني من منطلق الخوف من مشروع مذهبي ذي مدى سياسي دون أن يرتقي الموقف إلى مرتبة احتجاج معلن، والموقف الثاني يرحب بالإيرانيين من منطلق ما يعيشه (العلويون) من ضياع بعد توريط النظام لهم في المقتلة السورية وحاجتهم إلى (سند قوي) في قادم الأيام، في ظل ما يشاع عن عدم تمسك الروس بالرئيس الحالي.

وفق الدراسة السابقة، فإن أعداد السوريين المتشيعين بين (2000-2007) بلغت 22.3 ألفاً، 70% منهم علويين و21 % سنة و9 % إسماعيليون34 وبفرض دقة الإحصائية، فإنّ الأرقام بين (2007-2014) وبنفس المعدل السابق ستكون قد تضاعفت، وبتجاهل مفاعيل الحرب السورية، فإنّ العدد تقديرياً 50 ألفاً منهم 33 ألفاً في الساحل وحده، وهو رقم لا يعد للآن كبيراً في ظل تضخم عدد سكان الساحل إلى قرابة الأربعة ملايين نسمة وتفوق نسبة الوافدين (السنة) على المقيمين، والمشكلة ليست في الأثر العددي بقدر ما هي في مكوناته البشرية وفي عموم توجهاتها المستقبلية.

بأخذ مفاعيل الحرب السورية في الساحل وما تركته من أثر كبير على البنية الاجتماعية والديمغرافية، فالرقم على الأرجح سيكون حتى نهاية ولاية الرئيس الحالي قرابة المائتي ألف، دون نسيان أنّ متوالية التشييع هنا ليست حسابية بل هندسية بمعنى أنّ الزيادات العددية قد تصبح في لحظة ما كبيرة بسبب "فتوى من مرجع معين تدعمه السلطة"35.

الحاج مقابل الشيخ؟

لم يعد لرجال الدين العلويين سلطة مؤثرة على مجتمعهم كما كانت سابقاً، فقد تفكّكت سلطتهم بحكم التغيرات الطبقية التي حكمت سكان الجبال وانتشار التعليم المكثف (محافظة طرطوس خالية من الأمية من العام 2010) وظهرت طبقة فلاحين متملكة، كما ساهمت الهجرة إلى المراكز في اختفاء سلطة العوائل التقليدية فأقصيت العائلات الكبرى والشخصيات النافذة دينياً (الخيرّ، الأحمد، مخلوف وغيرها) وحلّ محلها طقم جديد من المشايخ (من متقاعدي الجيش والأجهزة الأمنية) لا يعتد بدورهم الديني كثيراً، عدا عن أنّ النظام منذ 1970، لم يسمح بظهور أيّة شخصية علوية بارزة إلا تلك التي تتبنى مشروعه وتدور في فلكه مثل الشيخ الراحل فضل غزال، مغيباً معارضيه عن كل النشاطات المرتبطة بمنظومة النظام36.

في الوقت نفسه، اعتمدت إيران مبكراً على الجسم المشيخي المؤيد للتشيّع، فاستضافتهم لديها وقدّمت لهم أموالاً وبعثات ودورات دراسية، وتقسو هذه الدورات والمحاضرات على المذهب العلوي وتجعله منافياً للإسلام الصحيح، ولا بأس من إعادة ترتيب أفكار هؤلاء الشيوخ ليتحولوا قانعين إلى الشيعية ويحوّلوا معهم "تلاميذهم السابقين"37.

يعمل التشييع على مختلف الشرائح الاجتماعية، ففي جانب الأطفال، خاصة أبناء ضحايا الحرب من مدنيين وعسكريين، هناك مؤسسة تعنى بدعم "أسر الشهداء وأولادهم" في مجمع الرسول الأعظم، تتيح لهم بعثات تعليمية إلى إيران ونظام حياة سلوكي شيعي وهناك وقت لهم للقيام بنشاطات اجتماعية عصرية يقوم بها فوج كشافة الولاء للإمام المهدي وهو أول فوج كشفي طائفي في سوريا.

وفي عالم النساء، اعتمد على زوجات الشيوخ اللواتي يرافقن أزواجهن إلى تلك الدورات، فزوجة الشيخ العلوي تعود (محجبةً) لتمارس دورها الجديد وسط مجتمع نسوي مغيّب كلياً عن شؤون الدين، مما يسهل عملهن وخاصة في الأوساط الجامعية ذات الحساسية الأكبر من (المشايخ)38.

بالطبع هناك أموال تضخ لصالح التشيّع دون القدرة على التقاط مصادرها غالباً في ظل وجود صناديق إيرانية داعمة (الخمس منها) توزع بأشكال مختلفة، منها لطباعة الكتب ومنها لبناء الجوامع والحسينيات وغيرها، وتتوفر الكتب الشيعية في الساحل بأسعار تشجيعية وبانتشار مديني وريفي، فهناك على سبيل المثال مكتبة شيعية في الدريكيش (ريف طرطوس).

 

الحرب السورية:

أدت الحرب السورية لإضافة دفعات لقضية التشييع غداة تشكيل جماعات مسلّحة خارج المؤسسة العسكرية الرسمية (سنية وشيعية) وهذه الميليشيات ضمّت بداية عناصراً شيعية من الداخل السوري، ثم افتتحت مراكزاً للتطويع في الساحل تولى أمرها ضباط سابقون (متشيعون غالباً) ويفضلون العمل مع الميليشيات الشيعية لأسباب عقائدية ومالية (تتراوح الرواتب بين 100 إلى 300 دولار) وهو ما لا يحصل عليه العسكري النظامي.

خضع مقاتلو هذه الميليشيات إلى دورات تدريبية في إيران شكلت اصطداماً أولاً مع الثقافة الشيعة واقعياً، خاصة أنّ غالبيتهم ينتمون إلى القاع الاجتماعي العلوي (غير متعلمين وعاطلين عن العمل) وليس لديهم أيّة حصانة دينية، هذا الأمر غذّى بعد عودتهم انتشار الظواهر الشيعية في الجبل مثل العصائب التي توضع على الرأس وصور القادة الإيرانيين ومنهم الخميني.

أضاف الاحتكاك اليومي مع المقاتلين الشيعة (ومنهم إيرانيون) أثناء الأعمال العسكرية صدمة مضافة، فالجهادية العالية والمناقبية هي سمة ملموسة لدى كلّ الجهاديين والإيمان بالقضية (ومنها ظهور المهدي آخر الزمان)، جعلت للأثر التشيعي حضوراً كثيفاً في ذاكرة لا تمتلك مثل هذا البعد الرؤي والاستشهادي.

https://www.youtube.com/watch?v=SsGi2CeSFWc

اليوم، لا نعدم انتشار ثقافة شيعية في الأوساط العلوية، فلفظ (الحاج) بات منتشراً، والأغاني الشيعية متداولة على الأجهزة الخليوية وفي وسائل النقل العام وفي التعازي أيضاً، وهو ما يلاحظ غداة (استشهاد) عنصر (علوي سابقاً) من عناصر الميلشيات الشيعية المسلحة، وهو تقليد غير علوي.

 

ماذا عن المستقبل؟

رغم كل المحاولات التي ذكرناها سابقاً، فإنّ تيار التشييع يصطدم بنوع من المقاومة غير المعلنة يقودها شيوخ علويون، وآخرون من علمانيين (بعثيين ويساريين وتشكيلات أخرى) يدركون خطورة المشروع لجهة كونه مشروعاً إيرانياً مسلحاً قبل أن يكون شيعياً، وقد كانت أقوى تلك المحاولات ما ظهر في الوثيقة المسماة (الابتدارية): "العلوي في المجتمع، إعلان وثيقة إصلاح هوياتي"39، وتضمنت عدداً من المواد أوضحت أنّ العلويين (لا ينتمون إلى الإسلام السني ولا إلى الشيعي) بل هم من الإسلام العرفاني، والوثيقة التي لم يعرف من أصدرها ولا من وقعها من الواضح أنها تنتمي إلى التيار الوطني الديمقراطي وتعلي قيم المواطنة والاندماج الوطني وتركز على الاستقلالية العلوية عن الصراعات السياسية الجارية بما في ذلك عن النظام الحالي.

إحدى صفحات وثيقة "العلوي في المجتمع، إعلان وثيقة إصلاح هوياتي" التي لم يعلن مطلقوها عن أسمائهم. المصدر: الأنترنت، وتستخدم الصورة بموجب حقوق الاستخدام العادل والصورة محفوظة للمصور.

بتصوّرنا، إنّه يقع على الطائفة العلوية بمن فيها من عاقلين إعلان موقف واضح من قضية التشييع السياسي أسوةً بغيرهم من السوريين إذا أرادوا أن يكون لهم دور حقيقي وفاعل في صناعة المستقبل السوري خارج منظومة الاستبداد والتبعية، سواء عبر العمل المكثف لإجلاء غموض موقفهم مما يجري أو عبر التأكيد على أنّهم لم ولن يكونوا حاضنة لمشروع طائفي مذهبي قد يتسبّب بانتحار الطائفة على مذبح التصارع السياسي الدولي.

تحتاج الطائفة كما كلّ الأديان السورية الأخرى إلى إصلاح جذري يعيد موقعتها من الحقل السياسي بحقوق المواطنة نفسها التي تحدثت عنها الوثيقة السابقة، وتبدأ العملية بالتأكيد على إبعاد السياسة عن حقل الدين في هيكلية الدولة التي كانت هي البادئ منذ الخمسينيات في إحلال ثقافة التشريعات الدينية بدل المواطنية في بنيتها وعلاقتها بالمجتمع40 دون شك لقد نما الإسلام السياسي ككل في كنف ديناميات دولتية إلى حد كبير خاصة بعيد الانقلاب الكهنوتي في إيران دون أن يلغي ذلك الدور الذي لعبته العربية السعودية هي الأخرى في هذا الصراع.

(الصورة الرئيسية: منظر مـأخوذ من بلدة العنازة قرب بانياس في الساحل السوري. المصدر: ويكيبيديا)

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد