الصحافة السورية.. سلطة الرصاصة


03 أيار 2017

ياسمين نايف مرعي

صحيفة وشاعرة سورية، من فريق حكاية ما انحكت، عملت ونشرت في عدد من وسائل الإعلام السورية والعربية

كانت البداية ما تزال غير مدركة بالنسبة لي أواخر ٢٠١١، مع بعض الجوالات المرفوعة عند كلّ مظاهرة وقصف على مدينتي، لتأخذ ملامحها في ذهني في ٢٠١٢، حين كنت أبحث عن عمل بعد نزوحنا من حمص إلى السويداء، إذ اقترح عليّ أحد الأصدقاء أن أعمل في جريدة خاصة محلية. لم تكن لي أيّة تجربة سابقة في الكتابة أو النشر، وكنت أعرف أنّ فرصة العمل تلك كانت من باب مساعدة شابة نازحة تعمل على إنجاز أطروحة ماجستير في اللغة العربية.

 كنت أحاول على مدى قرابة ستة أشهر كتابة أيّ شيء عنّا نحن النازحين، من باب التعبير عن الامتنان لمضيفينا. كان مضحكاً ومخيفاً أنّ عملاً على هذا القدر من البساطة كان كافياً لاختلاق التهم وبدء الملاحقة الأمنية. الخوف من احتمال الاعتقال، المبني على حكايات الكثيرين والكثيرات من النشطاء، كان دافعاً للهروب من سوريا بلا عودة.

الخوف كان وما يزال عائقاً كبيراً وتحدّياً أمام كلّ من وضع توصيل وجه من وجوه الحقيقة أمام عينيه وسعى في سبيله، إذ كانت الروايات عمّن اعتقل وبات مصيره مجهولاً، قادرة مع تكرارها وفظاعتها على توليد الهلع، فكان اللجوء إلى الأسماء الحركية والتخفّي أحد الحلول حتى مغادرة سوريا إلى دول الجوار.

لبنان.. العيش مع الموت افتراضيا

في لبنان، انضممت إلى "لجان التنسيق المحلية، تنسيقية حمص". وباتت العلاقة بالخبر ذات طبيعة مختلفة، حياة افتراضية كاملة أقضيها طوال اليوم خلف شاشة الكمبيوتر، مجموعات سكايب تتوارد إليها عشرات الأخبار بين دقيقة وأخرى، مجموعات سرية على فايسبوك لتحرير الأخبار وضبطها لغوياً، ثم صفحات للنشر، وفي منتصف اليوم ونهايته، تقريران شاملان عمّا وقع في حمص من قصف، وعن عدد من سقط فيها من قتلى.

بالطبع لم يكن عملاً احترافياً، الجميع متطوّعون، تجمعهم الرغبة في نقل ما يجري على الأرض من انتهاكات بوجهات نظر مختلفة، ومبالغات في بعض الأحيان بقصد لفت الأنظار، أفقدت هذه المجموعات الكثير من مصداقيتها مع مرور الوقت، وكانت سبباً في التراجع عن نشر أخبار حقيقية في الكثير من الأحيان، خشية أن تكون مجرّد أخبار مختلقة. ربّما كان من الطبيعي أن يحدث ذلك في الجزء غير الاحترافي من الحراك الإعلامي، فارتجال المهنة، غياب النواظم لها، تغييب الكثير من المتخصّصين اعتقالاً أو سجناً، فضلاً عن عمق النزعة العاطفية في نقل الخبر.. كل ذلك ولّد حالة إخبارية غير منضبطة.

لكن الأقسى في تلك المرحلة، كان المسؤولية عن متابعة صفحة التنسيقية، والتنبّه لأيّ فيديو ذي محتوى تحريضي (طائفياً). كان عليّ أن أشاهد جميع الفيديوهات، والذي راج منها تلك الفترة، هي فيديوهات القتل تعذيباً، والتهكّم على الانتماء الديني.

كانت هذه الفيديوهات كفيلة بتهشيم الوعي والمخيّلة، في كلّ يوم، نتأرجح عشرات المرّات بين فيديوهات المظاهرات التي تدفعنا للحماس والإفراط في الأمل بسقوط سريع للنظام السوري، وفيديوهات الموت الوحشي، وما ولّدته فيّ على الأقل من خوف ونقمة، وتحوّل إلى حالة من اللاتوازن في التفكير بأطياف الشعب السوري، ثم التجرؤ على محاكمتها وتصنيفها استناداً على مواقفها ومواقعها من هذه الفيديوهات.

لم تتوقف القضية هنا، فالعديد من الشخصيات التي خرجت للتحدّث باسم الثورة علّى قنوات عربية معروفة كان لها عندي رد فعل سلبي، فكلّ ذلك مجتمعاً دفعني للتوّقف عن متابعة الأخبار منذ ذلك الوقت، لكن أيضاً إلى الغرق في دوامة مواقع التواصل الاجتماعي التي فرضها الربيع العربي كأحد الأدوات الأساسية لجلبه، وهي بقدر ما شجعت على حرية التعبير عن الرأي، وإن على مستويات شخصية، لكنها أغرقتنا في فوضى الآراء وجعلتنا جزءاً من هذه الفوضى.

تركيا.. صدمة المناطق المحرّرة

عام ٢٠١٣، وبعد الانتقال إلى تركيا، بات العمل الصحفي بالنسبة لي كما للكثير من الشباب الهارب، نافذة لكسب متواضع، كان تحدّياً أن تجد فكرة لافتة تلاقي قبولاً من مدراء تحرير الصحف والمجلات، كان علينا تصيّد الأفكار والشخصيات في غازي عنتاب، التي باتت فضاءنا الوحيد. قد لا أستطيع تقييم تجربة ما سمي بـ"الإعلام البديل"، لخضوع هذه التجربة لتأثير العديد من العوامل، تبدأ من شكل المنتج الصحفي الذي يمكن أن يقنع المانح دون الاضطرار لتحوير الهدف أو ادعائه، ولا تنتهي عند صعوبة التعاطي مع "الجمهور" الموّزع على مناطق مختلفة في سوريا، تحتكم للفوضى.

لكن أحد أبرز المواقف وأكثرها تأثيراً فيّ قبل البدء بتجربة "سيدة سوريا" كان خلال دخولي الأراضي المحرّرة صيف ٢٠١٣، ولقائي بأحد قياديي حركة أحرار الشام. كانت المواجهة أشد مما توّقعته "صحفية" غرّة، في مخيلتها صورة مثالية عن "المناطق المحررة"، وصورة مثالية كذلك عن القيادات المسلحة فيها.

لم يتم توقيفنا يومها (زميلي الذي أوصلني وأنا)، نتيجة احتدام الجدل بيني وبين من التقيتهم، و"تطاولي" كـ"سنية" على حركة يفترضون ولائي لها لمجرّد تماثل انتمائنا الطائفي.

لم تكن سلطة الطائفة، تماماً كما أنّها لم تكن مع النظام سلطة "السيادة والحكم". كانت سلطة الرصاصة فقط، كان الهلع في نفس مستوياته ونحن نغادر مقرّهم، كما كان يوم عبرت حواجز النظام من السويداء إلى الحدود اللبنانية.

تلت ذلك تجربة العمل في "سيدة سوريا". مواجهة فكرة العمل على منتج صحفي متخصّص، موّجه للنساء في الداخل، كانت أكثر من مجرّد تحدٍّ، في ظل فوضى السيادة التي تحكم الراهن السوري، وتأرجح الناس بين قبول الأفكار المحتواة في المجلة ورفضها، استناداً على مستوى تعصّب الفئة المسيطرة.

فُرض علينا في كثير من المرّات حذف مقال أو أكثر من العدد المرسل للطباعة، لا سيما في الغوطة وإدلب وحلب. كان التعرّض لبعض القضايا ذات الارتباط الوثيق بالدين الإسلامي (كالإرث والحجاب والقوامة والزواج المبكر…) قراراً علينا التفكير مطوّلاً فيه. كنت وما أزال أتطلّع إلى هذه المواقف كإشارات فاقعة على القمع، تحت مسمّى جديد، هو الدين بدلاً من السياسة.

كان التفكير باحتمال منع المقال من جهة، الأثر الحقيقي الذي تحدثه المجلة أو سواها من مشاريع إعلامية من جهة، ومحاولة نشر كلّ ما يرد للمجلة، ليقيني أنّ الكثيرات والكثيرين يعتاشون من نشر مقال هنا وآخر هناك من جهة ثالثة، كان التفكير بهذه النقاط مبعث تساؤلات يومية لا منتهية عن جدوى هذا النوع من العمل، والأهم هو عدم القدرة على الإجابة على أيّ منها.

لكن كلّ ما ذكر، لا ينفي أنّ الصحافة السورية تمرّ في مخاض، يعتبر رغم تعسّره مبشّراً. الكثير من المشاريع الإعلامية شقّت طريقها باتجاه الاحترافية. وإذا كان الكثير منّا قد قصّر علاقته بما أتيح من إعلام في سوريا ما قبل الثورة على حلّ الكلمات المتقاطعة وقراءة الأبراج في الصحف الرسمية، والاستماع (مع الكثير من عدم التصديق) إلى نشرة الأحوال الجوية في نهاية نشرة الأخبار، فمن الطبيعي أن تحتاج إعادة الثقة بالصحافة وقتاً وجهداً، ويحتاج بلوغنا الموضوعية والحياد وقتاً كذلك، طالما أنّ البلد بأكمله (والصحافة زاوية صغيرة في مشهده العام) يمرّ في مخاض عسير. الأكيد فقط أنّ العودة لا يمكن أن تكون إلى نقطة البداية، وأنّ السعي سيكون (ولو من قبل أقلية صحفية سورية) باتجاه القدر الأكبر من الحقيقة.

(تنشر هذه المواد ضمن حملة اليوم العالمي لحرية الصحافة، بالتعاون مع شبكة الصحفيات السوريات).

(الصورة الرئيسية: لوحة بعنوان رماد للفنان تمام عزام. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على الفيسبوك 21/10/2012، واللوحة تستخدم بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة للفنان)

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد