المنظمات الأهلية بين المرتجى والواقع


25 تشرين الأول 2014

هوازن خداج

كاتبة سورية تكتب في عدد من الصحف والمواقع الالكترونية حول قضايا المرأة والمواطنة والديمقراطية

 

تشكّل المنظمات الأهلية التي لا تهدف إلى الربح روافد تنموية ضرورية في بناء المجتمعات، حتى أنّها قد تكون بديلا عن الحكومات في ظل أحوال سياسية غير مستقرة، وهذا ما تعيشه سوريا بعد أن انهارت بنية المجتمع السوري تحت وطأة الانشقاقات الطائفية والمذهبية والإثنية.

لكن المشكلة تكمن في الدور المحدود والتأثير غير الملموس للمنظمات، وذلك نتيجة العديد من نقاط الضعف والمشكلات التي تعانيها المنظمات، والتي تمثل عائقا كبيرا في انتشارها وقدرتها على إنجاز التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المرجوة.. لهذا سيتم إلقاء الضوء على بعض هذه النقاط في محاولة لإعادة النظر في بناء منظمات قادرة على المساهمة في نشر التربية المدنية والعمل على احترام وحق الرأي الآخر، لأن مسؤولية بناء الوطن هي مسؤولية الجميع.

بدأ الاهتمام بالمنظمات الأهلية والمجتمع المدني يتعاظم تدريجياً في العالم العربي كجزء من استراتيجية تقليص البيروقراطيات الحكومية، مما اعتبر مؤشراً على زيادة المشاركة والشفافية في عملية التنمية، إذ يشكل المجتمع المدني سمات جديدة تتبنى المبادئ الديمقراطية وتعلي من شأن  المشاركة والتعددية والحوار الاجتماعي في قضايا الشأن العام وعدم اقتصار تناولها على النخب، وذلك من خلال تنظيمه المبني على جملة مؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تعمل باستقلال نسبي عن سلطة الدولة وعن أرباح شركات القطاع الخاص.

تتنوّع المنظمات الأهلية وتختلف من حيث العدد وتاريخ النشاط وأنواعه والغايات والأهداف التي تسعى لها هذه المنظمات، بدءا من الجمعيات الخيرية بشكلها التقليدي التي تعتمد على الهبات والزكاة، إلى الخدمات الصحية والرعاية الاجتماعية و... إلى المنظمات الثقافية ومنظمات حقوق الإنسان وغيرها من المنظمات التي لا تهدف للربح إنما تم إنشاءها لتلبية حاجات أو مطالب اجتماعية والمشاركة في عملية التنمية.

لكن المشكلة تكمن في الدور المحدود والتأثير غير الملموس مع وجود هذا العدد الضخم للمنظمات، ورغم محاولاتها في أن تلعب دوراً فعالاً في التنمية المحلية والوطنية في معظم الدول العربية-حتى أنها في بعض الدول كانت بديلاً للحكومات في ظل أحوال سياسية غير مستقرة (مثل فلسطين و لبنان)- لم تشكل هذه المنظمات جهة ضاغطة في العملية التنموية ولم تستطع العمل بشكل موّسع ولم تحقق الانتشار المطلوب في الكثير من البلدان ومنها سوريا.

أما الآن بعد أن انهارت بنية المجتمع السوري تحت وطأة التفتّت والانشقاقات الطائفية والمذهبية والإثنية وفي ظل غياب الهيئات الموّجهة المسؤولة حكوميا، يتوجب العمل ضمن خطوات جديدة وفعالة تساهم في انتشال المجتمع  من حالة التحييد عبر تحويل المجتمع السوري إلى ميدان واسع من التفاعل، وهذا يتم بإحياء المنظمات المدنية غير الحكومية الساعية لاستعادة الوطن السوري من بؤرة النزيف المجاني والخروج من حالة الاقتتال اللامجدي.

من هنا لابد من إلقاء الضوء على نقاط الضعف والمشكلات التي تواجهها المنظمات والعمل على معالجتها حتى تؤدي الوظيفة المرجوة وتساهم بشكل فعّال في خلق حالة الوفاق المجتمعي. فهناك جملة من نقاط الضعف الهامة التي تؤثر على وجودها واتساع رقعة عملها وتتركز هذه النقاط في نمط العلاقة فيما بين المنظمات غير حكومية التي تسير إلى حد بعيد وفق الرغبات الفردية للقيّمين عليها وهو ضعف في البناء المؤسسي الذي تواجهه المنظمات، إذ أن البنية البعيدة عن الشكل المؤسساتي وتداول القرار قد تسمح للشخص المسؤول بالتسلّط والتفرّد ما يجعل المؤسسة كلها تخضع لرغباته وطموحاته الشخصية.

نقطة الضعف الثانية تكمن في عدم استقلالية هذه المنظمات بشكل فعلي فمعظم مؤسسي المنظمات أو أفرادها كانوا من المنتمين لأحزاب سياسية معيّنة وحتى لو استقلّوا عن أحزابهم فإنهم ما زالوا يحملون نفس الأفكار العقائدية التي يتبناها هذا الحزب أو ذاك، ويقعون في نفس الأخطاء التي تواجهها الأحزاب من حيث القدرة على توسيع القاعدة الجماهيرية الفعالة، والعمل في حالة من الديمقراطية الداخلية. وهذا يؤدي في بعض الأحيان إلى حالة عدم الاستقلال السياسي التي تقلّل من الإقبال الجماهيري وينتج ضعف في البنية الفاعلة لهذه المنظمة أو تلك.

نقطة الضعف الثالثة، وقد تكون الأكثر أهمية في فاعلية هذه المنظمات، تكمن في غياب التنسيق والتعاون والتنظيم لتوحيد الجهود فيما بينها، فهي بشكل أو بآخر تخضع لمبادئ المنافسة غير الفعالة في مجالات العمل وتشكل إعاقة حقيقية في عملية جلب الكوادر والمهارات والخبراء الفنيين والإداريين للقيام بنشاطات المنظمات غير الحكومية هذا كله يعيق تطورها، بالإضافة إلى عدم طرح نفسها كروافد في عملية التنمية فهي تفتقر إلى غياب التخطيط الاستراتيجي لعمليات التنمية، وانعدام الثقة فيما بينها وفيما بينها وبين الحكومة، مما يؤدي إلى انعدام الشراكة التي من شأنها تنشيط دور المنظمات. إنّ نقاط الضعف هذه تؤدي إلى تشتت الجهود اللازمة لتحقيق الأهداف المبتغاة ويضعف الدور الفعال المرتقب للمنظمات غير الحكومية كجهات ضاغطة للتأثير على السياسات العامة.

دون شك إن المنظمات غير الحكومية تواجه -في معظم الأحوال- جملة كبيرة من التحديات والصعوبات تحدّ من نشاطها وفاعليتها وتبرز هذه المشكلات في العديد من المسائل منها التمويل الذي تحتاجه المنظمة للقيام بأعمالها، ويعتبر التمويل من أهم العوامل المعرقلة لعمل المنظمات غير الحكومية ونشاطها. فالمساعدات المادية تلعب دوراً محورياً في تحديد عملها، وتتأثر فرصة الحصول على التمويل بنوعية النشاط والتوجيهات والأهداف المعلنة من قبل المنظمات غير الحكومية، وتتأثر كذلك بالاستراتيجيات والأهداف المعلنة للجهات المانحة للدعم، سواء كان التمويل من جهة محلية أو من قبل صناديق التمويل الإقليمية والدولية ووكالات الأمم المتحدة ومنظماتها التي تحرص على تقديم الدعم الفني والمادي للمنظمات غير الحكومية. بالإضافة إلى ذلك، فإن التنافس على مصادر التمويل ذاتها يشكّل عائقاً كبيراً في الحصول على التمويل اللازم، وفي الكثير من الأحيان يرتبط التمويل بشروط عديدة منها الحصول على موافقة الجهات الرسمية، جودة المشاريع المقدمة والمدروسة تقنياً وإمكانية تنفيذها وطريقة عرضها حسب المخططات المقبولة، وجود الكادر البشري اللازم لتنفيذ تلك المشاريع المقدمة إلى جهات التمويل، مطابقة نوعية الأنشطة المقدمة والمقترحة مع أهداف وأولويات الجهة الممولة.

لقد برهنت التطوّرات المعاصرة على الصعيدين العالمي والعربي على أهمية المنظمات الأهلية كآلية لتحقيق ديمقراطية المشاركة وتعبئة المواطنين في المجالات المختلفة وتأكيد الحقوق والدفاع عنها وانفتاح المجتمع المدني وتحريره من كافة القيود ومن ثم تنظيم القدرة على إنجاز تنمية اجتماعية واقتصادية وسياسية حقيقية تستند إلى آمال الناس واحتياجاتهم وأحلامهم ورؤاهم.

لكن هذا البرهان لا يمكن الاعتماد عليه دون توّفر شروط تدعم وتساعد العمل المنظماتي التطوعي ويبقى دور المنظمات متوّقف على شروط وقوانين العمل ويحتاج إلى إجراءات من أجل تفعيله، منها تخلص هذه المنظمات من نقاط الضعف التي تعانيها حتى تستطيع الاستمرار بالعمل لتصبح شريكاً حقيقياً في عملية التنمية والإصلاح الاقتصادي والسياسي فهي تحتاج إلى جهود ومساهمات كل الفئات والقطاعات المجتمعية، وهذا يتطلب دولة تتبنى قوانين أكثر انفتاحا بحيث لا يتم تقييد نشاط العمل الفعال للمجتمع الأهلي غير الحكومي، ما يعني حق الجمعيات بالتأسيس دون تدّخل مسبق من السلطة الإدارية أو من السلطة القضائية، مع السماح لها بأن تعمل بشكل واسع وبكافة الوسائل الممكنة لجلب الكوادر والكفاءات البشرية والانتشار كروافد تنموية داعمة من أجل تقوية دولة المؤسسات والقانون، وإعطاء المنظمات الحق في تنمية مواردها المالية بما في ذلك رسوم وتبرعات الأعضاء وقبول الهبات والمنح والمساعدات من أي شخص محلي أو خارجي والقيام بنشاطات من شأنها أن تحقق لها دخلا وتدر عليها ربحا يستخدم في أنشطتها التي تقدمها للإنماء المجتمعي بحيث تكون هذه الموارد معفية من الضرائب والرسوم. بالإضافة إلى السماح بأن تدار المنظمات أو الجمعيات أو المراكز بواسطة هيئاتها المنصوص عليها في أنظمتها الخاصة ولا يحق للجهات المختصة في الدولة التدخل في عملية تسيير اجتماعاتها أو انتخاباتها أو نشاطاتها أو التأثير عليها. لكن حرية المنظمات لا تعني غياب المساءلة والرقابة فعلى الجمعيات أو المنظمات أن تكون مسؤولة تجاه قوانينها الداخلية التي تبرر الرقابة من قبل أعضاء الجمعية في جميع شؤونها، ومن قبل الرأي العام والمجتمع في حال وجود مصلحة عامة مشروعة بنشاط الجمعية، وقد تكون هناك رقابة مالية فقط من قبل الإدارة العامة في حدود تستفيد منه الجمعية من مزايا أو أنظمة الدولة الضريبية الخاصة. كما لا يحق للجهات المختصة في الدولة حلّ الجمعيات ولا يمكن أن تخضع الجمعيات للحل إلا بقرار صادر عن هيئاتها الخاصة أو بحكم قضائي بعد أن تكون قد استفادت الجمعية من حق الدفاع في محاكمة علنية وعادلة وفى حالات يجب أن يحددها القانون صراحة وحصرا.

في النهاية بعد أن سقط قناع تماسك المجتمع السوري وخرجت إلى الضوء حالة من التصدع الذي لا يمكن رتقه صار لابد من العمل الجاد من أجل بناء مجتمع مدني قادر على المساهمة في تعزيز قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والفعاليات والإبداع الاجتماعي، وهذا يتطلب إعادة النظر في كافة المسائل ومنها النشاط الأهلي التطوّعي الذي يساهم في نشر التربية المدنية والعمل على احترام وحق الرأي الآخر حتى لو كان مختلفا، ويسعى للتواصل مع الجميع على اختلاف انتماءاتهم وتكاتف جهود كل الفاعلين من منظمات وأحزاب وجمعيات ومراكز بحث من أجل المساهمة والعمل معا لرسم مستقبل البلاد بعيداً عن العنف والاستبعاد والتهميش واحتكار القرارات بالشأن العام، لأن مسؤولية بناء الوطن هي مسؤولية الجميع.

 

الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد