التربية والتعليم.. وتساؤلات المستقبل


01 تشرين الأول 2014

غيث الحلاق

(كاتب سوري مقيم في إيطاليا)

في دراسة أجرتها منظمة رعاية الطفولة (اليونيسيف) في أوائل 2014، ذكرت المنظمة تراجعاً للمستوى التعليمي في سوريا رافقه توقف ما يقارب 3 ملايين طفل عن التعليم بسبب ظروف الحرب الدائرة في البلاد.

قد يبدو رقم 3 ملايين طفل مثيراً للفزع للوهلة الأولى، وهو كذلك بالفعل. غير أن نظرةً سريعةً إلى الواقع الحالي تضعنا أمام واقعٍ مفزعٍ آخر وهو قابلية هذا العدد للازدياد في الأيام القادمة كلما طال أمد الصراع في سوريا. وهو ما يطرح سؤالاً مهماً حول إمكانية تصحيح ما حدث مع هؤلاء، وكيفية إعادة حقهم الذي فقدوه في التعليم.

لو نظرنا إلى الموضوع من ناحية نظرية لوجدنا الأمر بحاجة إلى كثير من الدراسات حول ما يمكن فعله في هذا الشأن، وبالانتقال إلى الجانب العملي يزداد الأمر تعقيداً، ففي سوريا اليوم مدرسة من بين كل 3 مدارس توقفت عن تقديم الخدمات التعليمية إما بسبب تهدّمها أو بسبب سيطرة الميليشيات المقاتلة من جميع الأطراف عليها وتحويلها إلى مقرات عسكرية. إلا أن ما يمكن جزمه هو استحالة استمرار الوضع الحالي إلى أمد طويل. ومع اقتراب أي حل ممكن للوضع الحالي، سيكون هناك ولا شك مسؤولية كبيرة على عاتق من سيحملون عبء قيادة السلك التعليمي ووضع استراتيجيات التعليم للمرحلة المقبلة.

عندما أُطلق إسم وزارة التربية على المؤسسة التعليمية في سوريا، كان القصد هو الإيحاء بأن للتربية والأخلاق المكانة الأولى في التعليم، غير أن الأيام والوقائع أثبتت خللاً في الجانب الأخلاقي والتربوي لدى شريحة واسعة من الطلاب، وهو ما يعطي للعلوم الأخلاقية والإنسانية دوراً أساسياً في المرحلة التعليمية المقبلة. فمن غير تعليم واقعي صحيح يدعو إلى الإنسانية أولاً ويدخُلُ إلى عقول الطلاب ويخاطب تفكيرهم، لن يكون هناك أي تقدم منشود في المستوى التعليمي. لا يمكن أن نتجاهل عدداً لا يستهان به من أطفال سوريين غرست في عقولهم لأكثر من سنتين أفكار التطرف الديني والأفكار التي تحرض على كراهية الآخر على أساس التوجه أو الدين. كما لا يمكن نسيان أولئك الفتية الذين حملوا السلاح وهم في الثانية عشر من عمرهم. التركيز على هذه الشريحة يجب أن يُولى لها الاهتمام الأكبر في الناحية التعليمية، فانتزاع الأفكار الخاطئة من عقل الفرد هو أصعب ولا شك بمئات المرات من تلقينه أفكاراً صحيحة جديدة، خصوصاً حين تكون هذه الأفكار المغروسة في العقول قائمة على التطرف، العلوم الإنسانية هي البداية والمدخل السليم لإعادة هؤلاء إلى الطريقة الصحيحة في التفكير، يقول أحد الحكماء: "التعلّم دون فكر هو عمل ضائع". وهذا بالضبط ما يجب تطبيقه لتكوين جيل سليم فكرياً وتربوياً، ونقصد هنا الفكر المنفتح على الغير والمتحرر من جميع القيود والموروثات البالية. الفكر الذي يُمكّن من فكرة قبول الآخر، ويرفض التعصب بأي شكل من أشكاله، سيكون ولا شك الضامن لتنشئة جيل يؤمن بالإنسانية قبل كل شيء.

حين نقول "تربية"، فإن ذلك لا يعني تلك الأنماط التي عرفناها منذ الصغر في مدارسنا بدءاً من التربية الدينية ووصولاً إلى التربية القومية، الإنسان بطبعهِ يولدُ أنانياً، ولا يمكن تغيير هذه الصفة إلا عن طريق التربية المنزلية أولاً ثم التربية المدرسية الحقيقية الهادفة إلى زرع الأخلاق الإنسانية في نفوس المتعلمين وعقولهم، ومن هنا يجب الاهتمام بالتوعية المستمرة للأهل ومن الأهل بنفس الوقت، وتلك هي المسألة التي يجب أخذها بعين الاعتبار كأولوية مستقبلية في المجال التعليمي. 

عقود من التجربة التعليمية في سوريا تضعنا أيضاً ولا شك أمام نقطة هامة أخرى تتعلق بالجمود والنمطية في أساليب ومناهج التدريس، لا يتحمل الموضوع مزيداً من التقوقع المنهجي في مستقبل التعليم في سوريا، الانفتاح على التطورات العلمية والأبحاث الجديدة الأدبية والفكرية وحتى جديد المؤلفات العالمية هو ولا شك أمر جوهري ومسألة ملحة، فمن غير المعقول مثلاً أن نعيد أطفالنا إلى زمن كان فيه الطلاب يطالعون طوال ست سنوات وربما أكثر قصائدَ فارغة المضمون لشاعرٍ واحدٍ تم تنصيبه ملكاً على عرش المناهج المدرسية الإبتدائية، وهنا، لا نستطيع إغفال موضوع أساليب وطرائق التدريس، ونقصد ولا شك ترك أسلوب التلقين المعتمد على القراءة دون الفهم، القرن الحادي والعشرون هو عصر التحليل والتأويل العلمي، والإصرار على طريقة إيصال المعلومة بشكلها البدائي المتمثل بالتلقين، هو أمر عانى منه التعليم في سوريا كما عانت منه معظم الأنظمة التعليمية العربية. ولا خلاص من ذلك إلا بطرح أساليب حركية من خلال بيداغوجيا جديدة تركز على الأسلوب الحركي والتمثيلي والمشهدي الذي يكون شعوراً إيجابيا لدى المتلقي يساعد على التعلم، وأيضاً على علم السيكودراما أكثر من التركيز على الأسلوب الجمودي التلقيني الذي استمر لعقود في المدارس السورية.

الانفتاح يعني طرح مفاهيم تعليمية جديدة وآفاق منهجية أخرى في جميع الاختصاص والمواد، وليس طرح مواضيع تتماشى مع السياسات العامة والحكومية بقوالب جاهزة غير قابلة للتطوير. ومن هنا نستطيع القول أن خلط السياسة بالتدريس هو خطأ تاريخي، وتكراره سيكون الخطأ الاكبر دون شك، تحزيب المدارس والمتدرسين وربط المستقبل التعليمي للطلاب بخلفيات سياسية ومذهبية هو تهديم لهذا المستقبل وتحويره بما لا يتماشى مع مهارات الطالب ورغباته وقناعاته، وتجاوز هذا الخطأ سيكون له بلا شك أثر مهم في تكوين عملية تدريسية صحيحة وسليمة.

سوريا المستقبل أساسها الأوّل والأخير هو التربية والتعلّم، ومن دون الإهتمام بالجانب التعليمي والأخلاقي لن يكون هناك رقي في وطننا، فجيل بلا أخلاق لن يتمكن من بناء المستقبل الذي يطمح إليه الجميع. والحرب وكوارثها ليست دليلاً على فقدان أي أمل بالنهوض من جديد بجيلٍ مثقف ومتعلّم وواعٍ قادر على الارتقاء ببلده، ومن يمتلك هذا التفكير عليه فقط أن ينظر الى اليابان أيام الحرب العالمية الثانية وكارثتي هيروشيما وناكازاكي ثم يقارنها باليايان اليوم.

الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد