أفلام الكيماوي: قاتلٌ واحدٌ هو العالم


21 آب 2014

 

كان لمجزرة الكيماوي الصدى الأكبر في تاريخ الثورة السورية، إلى درجة أنها تحوّلت إلى علامة زمنية فارقة، ففيها تمّثل الوجه الوحشي الأشنع لنظام الأسد المستعد لارتكاب فعل الإبادة الجماعية دون أية حسابات، وفيها أيضاً كشف المجتمع الدولي عن قناعه الزائف، بعد ما حمّى الوطيس لـ"الضربة الأمريكية"، وتبيّن بعد قليل من الوقت أن الأمر برمته لا يرمي إلى أبعد من تجريد النظام لترسانته الكيماوية، وهو ما حدث وانتهى الأمر.

تلك حسابات الدول الكبرى، والمصالح الكبرى، لكنّ حسابات الشعوب في مكان آخر، وهي لا تتعلّق بأية مصلحة غير الحياة، وهذا ما أراد السوريون تثبيته.

قُدّم، منذ السنة الماضية، العديد من الأفلام السورية التوثيقية التي ترصد وتوثق لمجزرة الغوطة في ريف دمشق، والتي استخدم فيها نظام الأسد السلاح الكيميائي ضدّ أناس عزّل، جلهم من الأطفال.

توقفت "سيريا أنتولد" عند أبرز هذا الأفلام، لتستكشف كيفية قيام السوريين بالتعبير عن هذه التراجيديا الكبرى التي تنافس السينما والأدب والخيال. وإن كان ثمّة الكثير مما يقال في هذا الباب، لا سيما وأن الوقت يمنحنا المزيد من الاكتشافات والمفاجآت، إلا أن هناك حصيلة لا بأس بها، يمكن أن نتوقّف عندها ونفحص الفكرة في إطار "الآن وهنا".

ولعلنا إذ نذهب باتجاه السينما التسجيلية فإننا نذهب أولاً باتجاه البحث والاستقصاء من جهة، والفن والتعبير والرؤيا من جهة أخرى. وهذا ما يمنحنا إياه فنّ الكتابة بالكاميرا، أو قدرة الفن السابع على تحويل الحدث السياسي والإنساني إلى حكاية مبوبة، متسلسلة، متتابعة.

https://www.youtube.com/watch?v=cRZn8avHqZs

العمل الأول هو فيلم "ذبح بلا دم"، وهو من إنتاج "قناة الجزيرة الفضائية". بلاغة العنوان وشعريته تصيب عمق فكرة الإبادة الجماعية التي انتهجها النظام في هذه المجزرة.

الفيلم يرصد الحادثة قبيل وأثناء وقوعها، كما يستعرض الروايات الإخبارية المتعددة التي صاحبتها بعد وقوعها، ويقف عندها بالتحقيق والتحليل والتدقيق، دون الانسلاخ عن مفاهيم العمل الصحفية التي أرستها "الجزيرة"، سواء بالأخبار والأسلوب التحريري المتتبع في تقديمها، أو من خلال التفنيات المعمول بها في الفيلم، وكلها باتت معروفة كبصمة وعلامة، لا يحتاج المشاهد إلى عناء ليعرف أن العمل الذي يطالعه من إنتاج هذه القناة.

طوال عشرين دقيقة لم تكف المجزرة عن الظهور، ولم تتوقف عملية ملاحقة المتسببين بها، بحيث نجح طاقم الإعداد، إضافة إلى المخرج والمصور، من خلال تتبع القواعد الكلاسيكية المعروفة في إنتاج الأفلام التوثيقية، في إنقاذ المجزرة من النسيان، فكان "دم بلا ذبح" أشبه ما يكون بتقدم رواية الضحايا حول الجلاد المعروف، والذي لا زال ينكر مسؤوليته عنها، بل ينفي وقوعها من الأساس، ويعتبرها صورة زائفة أو مصنّعة لأغراض دعائية.

الفيلم الثاني "مجزرة الكيماوي" الذي يرصد، خلال دقيقتين من الزمن، ردات الفعل الأولى على الحدث الجلل، سواء كان ذلك من مكان المجزرة لحظة وقوعها، أو من المستشفيات الميدانية التي استقبلت الضحايا. يبدأ الشريط بصرخة "الله أكبر" لطفل سوري نجا بتواطئ الحظ مع القدر، ثم ينتقل إلى الشهادات التي نقلتها وسائل الإعلام العالمية والعربية عن ما حدث.

صرخات الضحايا الناجين حاضرة في الفيلم، إلى جانب صرخات الأطباء برفقة الأطفال والآباء، في مشهد لا يستطع أي مخرج هوليودي، مهما بلغ خياله وإمكانياته التقنية، تجسيد قوة الصورة التي كانت بلاغتها تكثيفاً لعذابات الإنسان عبر التاريخ، وتصويراً حياً لصراع الإنسان المهمّش والفقير مع قوى الشر التي تريد أن تسلبه حياته، لا لشيءٍ إلا لأن أصحابها يعتقدون أنهم قادرون على منح الحياة وسلبها ممن يشاؤون.

هي إذاً سينما الواقع، تكتب السيناريو والحوار بنفسها، وتصنع كوادرها وديكوراتها، وتؤثث لمؤثراتها الصوتية؛ تفعل كل ذلك دون أن تفعل شيئاً، فالأمر ببساطة يتعلّق بتفوق الواقع على الخيال، بل بهزيمة الخيال كلياً.

https://www.youtube.com/watch?v=2x_5UnYE0Bk

الفيلم الثالث هو "الموت القادم من قاسيون"، وهو أقرب إلى الأفلام الوثائقية بصورتها التقليدية. لم يكسر الفيلم أياً من القواعد الإخراجية، على صعيد التعليق الصوتي أو أسلوب الإلقاء، أو استخدام الموسيقى التي تغيب عن الفيلم بشكل كامل لتنوب عنها الصرخات الصادرة عن الألم أو الخوف أو الحيرة.

قدّم الفيلم رواية الناجين، لا صورة للموت مثل الأفلام السابقة، بل الصورة التي يبقيها الموت بعد حدوثه، آثار الموت، ظلاله. هذا ما نراه في 26 دقيقة. المفقودون حاضرون عبر روايات ذويهم. الأمهات المثكولات والآباء المفؤودون يحكون قصص الشهداء، يروون لنا ماذا يحبون وماذا يكرهون. هكذا إذاً يستعير الفيلم آلية الشعر الرثائي العربي في أعلى تجلياته لدى المتنبي وأبي فراس وابن الرومي وابن زريق البغدادي، حين يجعل الموت سبباً لرواية الحياة، وفي الوقت نفسه يجعل إدانة القتلة مضاعفة.

يبدو الفيلم الوصفة الجاهزة للخطاب الإعلامي الناجح، عيبه الوحيد هو صوت المعلق الذي يحيل إلى بصمة عُرفت بها إفلام الـ"بي بي سي"، غير أن ذلك لا يقلل من أهمية الشريط سواء على صعيد الإخراج، أو لجهة تقديم الرواية والشهادات حول المجزرة، أو بالتوثيق لأحداثها، فالفيليمان السابقان وإن قدما عرضاً للمجرزة إلا أن الرواية والشهادة كانت غائبة، حيث حلت مكانها صورة المجزرة كبديل عن الرواية التي يجب أن تروى.

المجزرة لم تنته ما دام القاتل حراً، ولأنه حرّ طليق يواصل موته، كانت الكاميرات تشير إلى قاتل واحد هو العالم.

تجدون في الداتا المرفقة مع هذه المادة عدداً من الأفلام الوثائقية التي لم يتطرق لها النص، وعدداً من التقارير الإعلامية التي قامت "سيريا أنتولد syriauntold" بتوثيقها مع ذكر مصادرها أصولاً.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد