الجماهير والفرد: إعادة النظر في كيفية مناقشة القضايا المعقدة على وسائل التواصل الاجتماعي


ثمة حاجة قصوى لتغيير طرق تواصلنا مع بعضنا البعض. هذه العجالة تخاطب بالتأكيد الأصوات الرائدة التي تعبر عن قضايا هامة (الجنوسة والطبقة وغير ذلك) وتدعوهم لتحمل مسؤولياتهم في شرح مواقفهم ونقاط اختلافهم، وللسعي لإقامة تحالفات وشبكات تضامن واسعة وقابلة للبقاء. من شأن مناقشة هذه القضايا والتعبير عنها بشكل جماعي أن يكون فرصة لا تقدر بثمن لتأسيس ذوات وكتل سياسية جديدة.

16 كانون الثاني 2018

انريكو دي انجيليس

باحث مستقل متخصص بالاعلام في العالم العربي. يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة سالرنو، ايطاليا. لديه العديد من المقالات في مجال الاعلام والتواصل في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا بالاضافة إلى كتاب عن الاعلام والنزاعات. هو أحد مؤسسي حكاية ما انحكت وعمل كباحث مستقل مع عدد من المنظمات غير الحكومية. يعمل حاليا كباحث مع مؤسسة Free Press Unlimited ويقيم في برلين.

يزن بدران

باحث دكتوراه في جامعة بروكسل الحرة في بلجيكا وزميل في المجلس البحثي الفلمنكي (فلاندرز). بحثه يتمحور حول المؤسسات الاعلامية الجديدة في العالم العربي بعد ثورات ٢٠١١.

Translated By: ياسر الزيات

(ينشر هذا النص ضمن تعاون مع أوبن ديموكراسي شمال أفريقيا-غرب آسيا (نوى)،)

في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أثارت مناقشة على الإنترنت بين اثنين من الكتاب السوريين البارزين موجة من المهاترات مع وضد كل منهما. وقد جددت الاتهامات والاتهامات المضادة بين الناشطة النسوية، رزان غزاوي، والمعارض اليساري، ياسين الحاج صالح، مناقشات سابقة حول دور النضال النسوي في انتفاضة السوريين والطابع الأبوي السائد بين نخبهم. جرى التركيز على التوازن والشرعية وموقع مختلف الصراعات المتقاطعة في الانتفاضة: تحديداً (وفوق كل شيء) الصراعات المتعلقة بالجنوسة والطبقة.

بدأ كل شيء بمنشور فيسبوكي شائن كتبه ناشط وكاتب سوري معارض شاب، دعا فيه لاغتصاب امرأة موالية للنظام في مدينة غازي عنتاب التركية. كان المنشور مثالاً صارخاً على تغلغل الثقافة الأبوية في ما يسمى الفضاء السوري المعارض العلماني، وعلى تفشي العنف الرمزي (وكذلك الجسدي) ضد النساء السوريات بشكل عام. التعليق نفسه، فضلاً عما يمثله من محمولات ثقافية، مرفوض ويستحق الإدانة، ولعل التلكؤ في إدانته بشكل قاطع وفوري مسألة تستحق النقاش بحد ذاتها. إلا أن النظر إلى هذا العنف من زاوية جنوسية حصراً يُفقد القضية تعقيدها وتشابكها العسير بالطبقة والثقافة وبمجمل السياق العنيف الذي يجتاح البلاد. ثمة بالفعل نقاشات جادة وراهنة وشاقة حول تقاطع هذه الصراعات في السياق السوري، وعلى ذلك التعقيد أن يؤخذ بعين الاعتبار في حال كان الهدف إحداث تحول ثقافي جادّ في هذا المجال. من المؤسف أن فرصة هامة لإثارة نقاش مثمر (وإن يكن صدامياً) أفسحت المجال لسلسلة من المهاترات والاتهامات الشخصية والمضادة التي عزّزت أساساً ذلك الاستقطاب. ينبغي أن نكون واضحين بشأن هذه النقطة: الصمت فعلاً ليس بخيار. أكثر من ذلك، نحن نتأمل أن يكون ما يبدو اليوم كمعترك مسموم ومحكوم بالانقسامات والاستقطابات قابلاً للترجمة، في مرحلة ما على الأقل، إلى نقاش يتم فيه توضيح مختلف المواقف والعثور على أرضية مشتركة بشأن قضية المرأة في سوريا، ولا سيما في دوائر المعارضة.

ليست هذه محاولة لاستعادة تلك النوبة العنيفة، بل للتفكير بشكل نقدي في الديناميات الكامنة وراء شبكات التواصل الاجتماعي التي تقودنا إلى مثل هذه النتائج، وذلك على أمل احتواء مشكلات مماثلة أو تجنبها جزئياً في المستقبل. فالواقع أن ما حدث لم يكن سوى الحادثة الأخيرة من أصل سلسلة حوادث جرت على مواقع التواصل الاجتماعي السورية، حملت سمات متشابهة إلى حد كبير.

قد يبدو تركيزنا على عمليات التواصل تافهاً للبعض بالنظر إلى المسألة الكبرى التي على المحك. إلا أننا نعتقد أن لكيفية خوض تلك المناقشات وللفضاء الذي تجري فيه وللأشخاص المشاركين فيها تأثيراً كبيراً على نتائجها، وبالتالي على خلق إجماع أوسع، أو كما جرى في الحادثة المذكورة، إدراك أكبر لما تعايشه وتصارعه النساء السوريات بشكل يومي.

من بين العديد من الحوادث المشابهة، تسلط الحادثة الأخيرة الضوء على مفارقة كبرى في كيفية استخدامنا لشبكات التواصل الاجتماعي وأثره على الصراعات الاجتماعية الملموسة. فمن ناحية، تشير نوبة المهاترات المذكورة إلى تحول هائل في القوة الخطابية التي يتمتع بها المثقفون السوريون قبل وبعد انتفاضة 2011.

يعود ذلك في جزء أساسي منه إلى المكانة التي احتلتها منصات مثل الفيسبوك وتويتر كمواقع أساسية للنضال الخطابي في المجال الثوري، وكذلك للتعبير عن السياسات المثيرة للجدل. وقد قامت شبكات التواصل الاجتماعي بتزويد النشطاء والمثقفين، مثل غزاوي والحاج صالح، بميادين غير مسبوقة لطرح القضايا المهمة بالنسبة لجمهورهم الرئيسي والشبكات التي تدور في فلكهم. وفي سياق النزاع العسكري الوحشي، وتشرذم ونفي النشطاء والمثقفين السوريين، يمكن القول إن هذه المساحات الناشئة تلعب دوراً مهماً في تشكيل كتل وفرص وذوات سياسية جديدة.

من ناحية أخرى ليست المشاركة في هذه المناقشات على وسائل التواصل الاجتماعي بلا ثمن، وهي تثير العديد من القضايا:

الفردانية المتأصلة في هذا الشكل من التواصل. فوسائل "الإعلام الاجتماعي" تصبّ تركيزها على الأصالة الشخصية والفردية، وليس على التجمعات والجماعات. هكذا تصبح المناقشات عاطفية للغاية ومتمحورة حول الشخص. هذا النمط التواصلي يرفع السائل فوق السؤال، ويمحو المسافة اللازمة بين شخص الفاعل السياسي والأفكار (الجمعية) التي تمثلها أو يمثلها. وهو بالتالي يسرّع تحويل أي اختلاف إلى شجار بين أفراد، بحيث يتضاءل الخلاف السياسي الكامن وراء الشجار ويصبح أقرب إلى مناسبة له. في المثال أعلاه، عنى ذلك تنشيط الشبكات المعنية لدى كل من الطرفين (دوائر الأصدقاء والمتفقين في الرأي) للدفاع عن كل من الطرفين بشكل قائم إلى حد كبير على المحبة والولاء الشخصي. لا يهم إن كان ذلك استراتيجية واعية أم عملية أقرب إلى التلقائية، فالأهم أن كثيرين لم يعبّروا عن تضامن أو هجوم على أساس الأفكار التي يفترض أن تكون في صميم النقاش، بل على أساس علاقاتهم الشخصية مع طرفي النقاش.

ثم إن الإيجاز والفورية اللذين يحكمان المنشور أو التغريدة يسهّلان سوء التفسير وسوء الفهم، حيث يندفع كثيرون لاتخاذ مواقف على أساس التعاطف وليس المعرفة بموضوع النقاش. وقد كان الأوان قد فات بالفعل حين جاءت بعض التوضيحات الأطول والأقل عاطفية، حيث كانت ماكينة التعليقات والإهانات وقتها في ذروة نشاطها وكان النقاش قد تحول إلى خطوط دفاع وهجوم.

مما يعزز استقطاب النقاشات أيضاً، ديناميات التكتّل في شبكات التواصل، التي تقود لإنشاء "غرف صدى" من الأفراد متماثلي التفكير والمعزولين إلى حد كبير عن غيرهم من الجماعات. تمنحنا الشبكات وهم الوصول إلى أي شخص، لكننا لا نصل إلا إلى أشخاص يشاركوننا قناعاتنا. فالشبكات تكاد لا تتقارب أبداً لتشكل مزيجاً أقل تجانساً، فالاستثمار في عملية كهذه بحاجة لأشكال أخرى من الحوار والتنظيم. من المثير هنا على سبيل المثال تفرّع النقاش حول الحادثة المذكورة إلى مجالين متوازيين: واحد يُخاض بالعربية والآخر بالإنكليزية.

بعبارة أخرى، من العسير على الشبكات المؤيدة للنسوية على الفيسبوك أو تويتر الوصول (وإقناع) الأشخاص الذين يفكرون بطريقة مختلفة. الأسوأ من ذلك أن المرء حين يكثر التردد على من يشاركونه خلفيته الثقافية يكاد ينسى ما هو مطلوب للتواصل مع آخرين يخالفونه في عناصر أساسية من تلك الخلفية.

ثمة مشكلة أخرى تتمثل في تطاير وفورية الردود والأدوات المتاحة على هذه الشبكات: إذ لا يمكن للإعجاب والتعليق والمشاركة والإعراب عن التضامن وغير ذلك إلا أن يتراوح بين الهجوم على الخصوم أو التعبير عن التضامن، لكن فقط لفترة قصيرة. بعد ذلك يُترك المرء وسط العاصفة معزولاً لمعاينة أضرار ما قد يكون مجرد نوبة مأسوية صادمة. الإيجاز والفورية اللذان يميزان هذه الأدوات يعطيان أفضلية للرد العاطفي القصير المدى دون أن يتركا أي مجال للتفكير أو التنظيم، أي إنهما يشدّان عضد الجماعة داخلياً لكن دون أن يتيحا أية آليات لإنتاج خطابات بديلة قابلة للبقاء، أو للتعاون والتضامن العابر للشرائح؛ ما يجعل كلا الجماعتين أشدّ هشاشة في وجه التحديات المستقبلية.

توضح الباحثة السياسية جودي دين في كتابها "الجماهير والحزب" هذه النقطة بوضوح شديد: الانتماء إلى تجمع (حزب أو أي جماعة منظمة) هو أيضاً مسألة عاطفية، فوجود تجمع حولك يمنحك درعاً حين تنفضّ الحشود (الافتراضية أو غيرها) وتختفي. لا توفر تعبيرات التضامن الافتراضية (اللايكات والتغريدات.. إلخ) مثل هذا الدرع، بل تترك الناشط الفرد وحيداً في وجه العواقب (الاتهامات والإهانات والتخوينات). وقد يكون من الصعب للغاية في هذا السياق تحمل الضغط النفسي والإحساس بالعزلة، الذي يمكن لتضامنات "السوشل ميديا" أن تخفف منه لكن دون أن تقضي عليه.

ينبغي النظر في جميع هذه العوامل أثناء الخوض في نقاشات معقدة وهامة عبر الوسيط الأثير المسمّى عالم التواصل الاجتماعي. الوعي بهذه العواقب مسألة تعني السوريين أكثر من غيرهم، نظراً للأهمية الكبرى التي اكتسبتها تلك المنصات في تبادل الآراء والتشبيك فيما بينهم في ظل شتاتهم الجغرافي وافتقارهم غالباً لأشكال أقوى من التنظيم الجماعي.

البدائل متوفرة دائماً، لكنها تتطلب جهداً جماعياً آخر، هو غالباً أكثر خفاءً: بيانات جماعية وحملات إعلامية منظمة؛ التداول مع الأطراف الأخرى والتفاوض معها قبل رفع النقاش إلى العلن؛ تكوين شبكات أكثر مركزية واستقراراً؛ وبالتأكيد إنشاء مجموعات أكثر تنظيماً. في جميع هذه الحالات، على استخدام وسائل الاعلام الاجتماعية أن يأتي بعد التنظيم الاجتماعي المتأني، ولا ينبغي أن يكون الخطوة الأولى.

بالنظر إلى ضعف وتشرذم دوائر المعارضة العلمانية السورية في الوقت الحاضر، ثمة حاجة قصوى لتغيير طرق تواصلنا مع بعضنا البعض. هذه العجالة تخاطب بالتأكيد الأصوات الرائدة التي تعبر عن قضايا هامة (الجنوسة والطبقة وغير ذلك) وتدعوهم لتحمل مسؤولياتهم في شرح مواقفهم ونقاط اختلافهم، وللسعي لإقامة تحالفات وشبكات تضامن واسعة وقابلة للبقاء. من شأن مناقشة هذه القضايا والتعبير عنها بشكل جماعي أن يكون فرصة لا تقدر بثمن لتأسيس ذوات وكتل سياسية جديدة. الثقافة الأبوية، وإن كانت غالباً مخفية ومستنكَرة، هي واقع قائم في دوائر المعارضة السورية، ولا بدّ لتغيير هذا الواقع وغيره من تجربة استراتيجيات أخرى، ولعل الحادثة المذكورة أعلاه تسعفنا كدرس.

[الصورة الرئيسية: غرافيتي في القاهرة (Zoé Carle/بإذن صاحب حقوق النشر. جميع الحقوق محفوظة للمصور)].

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد