الروسي في الوعر.. شر أقل (3)


كيف ينظر أهالي حي الوعي الدمشقي إلى الروس اليوم؟ وكيف يتعاملون مع الجنود الروس في سورية؟ هل تغيرت نظرتهم للروس أم ماذا؟ تحقيق من حي الوعر الدمشقي يجاوب على هذه الأسئلة وغيرها.

25 تشرين الثاني 2017

جود مهباني

صحافية وناشطة في مجال العمل المدني (الاسم مستعار)

(ينشر هذا النص ضمن ملف يتناول تداعيات التدخل الروسي في الحرب السورية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في كلا البلدين، وهو ينشر بالتعاون مع أوبن ديموكراسي روسيا، والنص متاح بالانجليزية)

(الوعر، حمص) تتباين الانطباعات حول التواجد الروسي في حي الوعر المعارض غربي مدينة حمص بين الترحيب به بحكم حسن معاملة جنود موسكو مع الأهالي، مقارنةً مع الجيش النظامي والفصائل الشيعية الحليفة له، وبين الرفض المطلق لوجودهم حسب شهادات سكان المنطقة.

 لعل تزامن التدخل العسكري الروسي في سوريا عبر سلاح الجو بتاريخ 30 أيلول 2015، مع التصعيد العسكري شهري أيلول وتشرين أول في العام نفسه على حي الوعر، والذي بقي آخر معاقل المعارضة المسلحة في حمص، أدى إلى مزيد من جرعات الكره والرفض للوجود الروسي، ليأخذ التدخل في حمص شكلاً مختلفاً، إذ جرت مفاوضات متكررة بين الجانبين المتنازعين في الحي برعاية روسية، انتهت إلى اتفاق التسوية بتاريخ 13/3/2017. هذا الاتفاق الذي جاء بعد تعرّض الحي لغارات جوية مكثفة، يرافقه تضييق وحصار مستمر عليه، ما دفع الفصائل المقاتلة إلى القبول بالتسوية التي تنص على خروجهم من الحي على دفعات.

وقد بدأ مسلسل خروج الدفعات تحت الحماية الروسية في الفترة الممتدة بين آذار 2017 وحتى أواخر  أيار 2017. ويقدر عدد الخارجين من الحي بأكثر من عشرين ألفا من سكان الوعر بين مدنيين وعسكريين توّزعوا في مناطق جرابلس وإدلب وريف حمص الشمالي، وبذلك تكون قد طويت صفحة الوعر بسبب التدخل الروسي.

حقيقة الدور الروسي في التهجير

أعقبت موجات الخروج من الحي صيحات استنكار من قبل معارضين في الخارج، محمّلين الطرف الروسي مسؤولية التهجير القسري للمدنيين في الوعر. ولكن وبحسب أحد أعضاء لجنة التفاوض، الممثلة عن قادة فصائل المعارضة والمجلس المحلي الحاكم للحي وقتها، أبو هاشم (اسم مستعار)، أنّ هناك مبالغة في هذا الاتهام وبأن الروس، وإن كان جلّ همهم إعادة الحي إلى حضن النظام بأي ثمن، لكن ليس معنى ذلك أنه تعمّد تهجير الأهالي من الحي. ويضيف لحكاية ما انحكت "الطرف الروسي تعمّد الإقصاء السياسي وإجلاء كل من يستمر بالمعارضة للنظام هذا صحيح، لكنه للأمانة أراد للمدنيين الذين يقبلون بفرض سلطة النظام أن يبقوا في الحي".

ويؤكد أبو هاشم أنّه منذ أن تم تكليف العقيد سيرغي مندوب مركز حميميم للمصالحة في حمص آنذاك، برعاية سير المفاوضات بين جانبي النظام ولجنة التفاوض، طلب مراراً من أعضاء اللجنة، خلال الأسبوعين الذين سبقا توقيع الاتفاقية، عقد لقاءات مع أهالي حي الوعر في الساحة المحاذية للحي (ساحة الفرن) التي تفصل بين قوات النظام ومنطقة سيطرة قوات المعارضة، وذلك لطمأنة الناس وحثهم على البقاء والقبول بخيار التسوية بدلاً من الخروج، حتى أنّ الجانب الروسي كان يحبذ أن يقوم المسلحون بتسليم سلاحهم والبقاء في الحي. وهو ما عاد وأكده العقيد سيرغي نفسه لموقع جريدة العروبة.

ويعترف أبو هاشم أن لجنة التفاوض تعمّدت انتقاء شخصيات موالية لقيادات الفصائل المسلحة على أساس أنهم يمثلون المدنيين في الحي لمقابلة الجانب الروسي، إذ "حجبنا طلب الجانب الروسي عن الأهالي، لم نرغب أن يستغل الروس ضعف وانهيار الناس للتأثير بهم وتحقيق نصر إعلامي على حساب أوجاعهم" يقول أبو هاشم. ويضيف "عرف الروس أنّ في الأمر مكيدة، وأننا خدعناهم واكتفوا بالتذمر والتوقف عن مقابلة الشخصيات التي اخترناها على أساس أنها تمثل الأهالي، ولكنهم عجزوا حقيقةً عن الوصول للأهالي الفعليين وطمأنتهم، وذلك بسبب سمعتهم السيئة واعتبار الناس لهم أنهم طرف شريك في قتلهم وقصفهم".

ونتيجة لذلك فشل الروس في تلك المرحلة إلى حد كبير في الوصول إلى شرائح الناس وطمأنتهم وتشجيعهم للبقاء وعدم مغادرة الحي مع المسلحين. فخلال تلك المرحلة الحرجة التي تخللت جلسات التفاوض المكثفة، نجحت بقوة دعاية لجنة التفاوض بين المدنيين على حساب الدعاية الروسية، خصوصاً أنها أعقبت أعنف فترة مرّ بها الحي، وبقيت الناس في الملاجئ من خوفها.

ومما زاد من خوف الناس الغموض الذي لفّ مصير المفاوضات، وبالتالي مصيرهم. وفي هذا السياق، يقول الناشط الإعلامي عبد الرحمن (31 عام)، وهو أحد الشبان الذين خرجوا مع الدفعات إلى إدلب، "مرت جلسات التفاوض دون أن تكلف اللجنة نفسها عناء شرح أي تفصيل أو طمأنة الناس بما يخص مستقبلهم في الحي، وهذا ما زاد من حيرة وهلع المدنيين واستعدادهم لتقبل أي خيار إلا عودة القصف الجوي من جديد".

وفور إعلان اتفاق تسليم الحي بعد أسبوعين عصيبين مرّا على المدنيين في الملاجئ، سارعت الفصائل المسلحة المسيطرة على الحي على تشجيع الناس على خيار الخروج، بحسب عبد الرحمن، وإشاعة أخبار تقول أن من يبق في الحي فهو يبقى على مسؤوليته وعليه أن يتحمل أي انتقام محتمل، بل ومتوقع على حدّ تعبيرهم، من قبل النظام وحلفائه الروس والإيرانيين. ونتيجة لذلك تهافت الناس ومن بينهم الشاب عبد الرحمن لتسجيل أسمائهم على لوائح الخروج إلى مناطق المعارضة في إدلب أو جرابلس أو الريف الشمالي. وكان من المنطقي جداً أن يفكر الناس آنذاك بهذه الطريقة لأن روسيا تساعد النظام في حربه ضدهم بل هي شريك أساسي له.

"راح يقتلوكن، راح يقطعوكن وينهبوا أملاككن، الروس والإيرانيون إذا بقيتوا". عبارة تكرّرت بشدّة بين الناس ونشرت الفزع والهلع بين صفوفهم. ومنهم أم خالد، أم لثلاثة أولاد، التي قرّرت الرحيل إلى جرابلس لأنها خافت أن تبقى في الحي مع العدد القليل الذي اختار البقاء، ففضلت على مبدأ السلامة الرحيل مع أولادها خوفاً عليهم من أي "عمليات انتقامية من الروس والشيعة" بحسب قولها.

بداية تقبل وتباين في الانطباعات

يظهر من العبارة السابقة أنّ نظرة الأهالي في الحصار إلى النظام السوري والأطراف الحليفة ككيان واحد أو حلف متماسك دون تمييز بين حليف وآخر.. فروسيا ، إيران، النظام.. جميعهم شركاء في القتل والترويع وبنفس الدرجة.

ولكن مع بدء خروج أولى دفعات أهالي الوعر الراغبين بالخروج بتاريخ 18/3/2017، وبوجود الطرف الروسي العسكري بشكل ملحوظ لأول مرة على الأرض في حمص، باعتباره طرفاً ضامناً وراعياً للاتفاق شكل ذلك فرصة استثنائية للروس ليقدموا للناس نموذجاً منضبطاً وملتزماً للجندي الروسي على خلاف الانطباعات السلبية السابقة عنهم، بسبب معاناة الناس سابقاً من تجربة سلاح الطيران.

(لحظة صعود المهجرين على متن إحدى الحافلات في نقطة التجمع في ساحة مدينة المعارض في حي الوعر. تاريخ الصورة: 27/3/2017. تصوير: ماهر الخالد/ خاص حكاية ما انحكت)

 فقد بدى الجنود، رغم حذرهم الواضح، ودودين ومقربين من الناس أكثر بكثير من عناصر قوات النظام السوري المتواجدة عند الحواجز، وقاموا بتوزيع حلوى وبسكويت للأطفال الخارجين مع أهاليهم، وما شكّل صدمة للجميع هي رؤية بعض جنود روس يقومون بأداء طقوس الصلاة علناً على الطريقة الإسلامية، إذ لم يتوقع أحد ذلك ولا حتى عناصر النظام السوري أنفسهم، حيث تمنع الصلاة أو أداء أي طقوس دينية ضمن الخدمة الإلزامية في الجيش السوري. عندها ارتاح كثير من الناس لمعرفة أنّ قسم كبير من المجندين الروس هم مسلمون مثلهم ومسموح لهم ضمن فرقهم العسكرية بأداء طقوسهم الدينية بحرّية.

يقول د.رامي (45 عاماً طبيب وأب لثلاث أطفال)، وهو أحد الأشخاص الذين عدلوا عن قرار الخروج من الحي برفقة المسلحين، "كنت قد سجلت على لوائح الخروج إلى إدلب وكانت خطتي الهجرة منها إلى تركيا، فقد عشت مع عائلتي أصعب أيام حياتي في الملجأ خلال القصف الأخير، فصوت الطيران مرعب وما زال يطنّ بأذني، وبمجرد التوقيع على الاتفاقية تهافتت مع غيري من الناس على مراكز التسجيل لاختيار الوجهة للخروج، كنت بحالة يأس ومستعد للقبول بأي خيار إلا خيار الموت". يتوقف قليلاً عن الحديث، وينظر لأطفاله الذين يلعبون الكرة في الساحة المقابلة للبناء الذي يقطن فيه ثم يردف بهدوء "الحمد لله أن اسمي أدرج على لوائح متأخرة زمنياً، شكل ذلك فرصة لي لمراجعة خياراتي بعد زوال صدمة الخوف وتوقف القصف، تفاجأت بودية الجنود الروس عند الحاجز، لم أتوقع أن يكون مسموحاً لهم بالصلاة علناً! كانوا يصلون بشكل طبيعي في الطريق!! لم نألف هذا المشهد أبداً بين عناصر الجيش السوري!!"

 ويشرح د.رامي كيف أنه غير رأيه بعد أن شاهد سلوكيات المجندين الروس ومعاملتهم الودية للناس عند الباصات وخصوصاً مع الأطفال "شعرت وكأن القدر أرسل لي إشارة ألا تخرج من الحي، وفعلاً عدلت عن خيار الخروج بآخر لحظة والحمد لله لم يمسني سوء أنا أو أطفالي".

ومع تكرار خروج الدفعات أسبوعياً حتى الأسبوع الأخير بتاريخ 20/ 5/2017 ووصول الدفعات تحت الحماية الروسية بأمان إلى الأماكن المتفق عليها، وكذلك دخول الحي بهدوء ودون حدوث أي عمليات مداهمة قد تسبب ترويع لمن تبقى فيه من المدنيين،  فخلص كثير من أهالي الحي، حتى من خرج منه لأسبابه الخاصة، إلى نتيجة مفادها أن طرفاً غير "مؤدلج" يسعى خلف مصالحه الخاصة، ولو كان حليفاً للنظام، أرحم بكثير من طرف "مؤدلج" يسعى لفرض إيديولوجيته بالقوة بين الناس ويتعمد التغيير الديمغرافي للمناطق التي يسيطر عليها. "الروس أرحم بكتير من الإيرانيين، ياريت يبقوا بالحي" يختم د. رامي حديثه لموقع حكاية ما انحكت.

ترسخ شعور الناس بالارتياح أكثر بعد الخطوات الإيجابية التي اتخذها النظام عقب الخروج الأخير، فقد بادر بفتح معبر المهندسين، الذي بقي مغلقاً خلال سنوات الحصار ويفتح استثنائياً فترة الهدن للزيارات، لدخول وخروج من يرغب من الأهالي دون حتى طلب أي إبراز للهوية الشخصية كما درجت العادة عند الحواجز، وتمّ تخصيص عناصر روس عند المعبر للمراقبة. ولم يشهد الحي حينها أي عمليات مداهمة أو اعتقال. تلك الخطوات الإيجابية التي قام بها النظام تجاه الحي والتزام الطرف الروسي بمراقبة الاتفاق، شجعت عائلات كانت قد خرجت مع المسلحين إلى إدلب وجرابلس للتسجيل على طلب العودة إلى حمص. وفعلاً تم ترتيب عودة 150 أسرة برعاية محافظ حمص طلال برازي.

تقول أم علي، إحدى العائدات إلى الحي وهي أم لخمسة أولاد، "عدت مع زوجي وأربعة من أولادي، تركت علي في جرابلس لأنه في عمر الخدمة الإلزامية، وعدت بالباقي". ولدى سؤالها حول سبب رحيلها والأسباب التي أدت إلى عودتها تجيب "كان لدي ولد سادس توفي جراء القصف الأخير، وخشيت إن بقيت أن يتم اعتقال أو قتل باقي أبنائي، لا يمكنني احتمال تكرار خسارة أحدهم". وتشرح أم علي أنّ سبب خوفها نابع أساساً من حملة التخويف والإشاعات التي روجتها القيادات المعارضة في الحي "خوّفونا وقالوا لنا مصيركم القتل أو الاعتقال لذلك ننصحكم بالخروج معنا، وأكدوا لنا أن الحياة ستكون مريحة في جرابلس وسوف تكفل لنا السلطات هناك عيش حياة كريمة". تنطق أم علي جملتها الأخيرة بازدراء ثم تردف غاضبة "بعدين بعد ما ورطونا معن بالرحيل لجرابلس ما قدمولنا أي مساعدة، تركونا بالخيم وهنن دبروا حالن". وتضيف مبينة الأسباب التي دعتها للعودة "عندما تأكدنا أن الروس التزموا بالاتفاق وأنهم يراقبون فعلاً مدخل الحي، وبسبب الظروف المعيشية المتردية في المخيم قررنا العودة".

ورغم اتساع دائرة المرحبين بالتواجد الروسي، بين مؤيد لهم أو بداعي أنهم أفضل البدائل المتاحة، إلا أنه ما زال هناك انقسام بين الناس على تقبلهم وكثير منهم ما زالت لديه تحفظات عليهم. ومنهم الناشطة المدنية، ريما العمر (34 عام/ اسم مستعار)، فهي لا تشاطر الانطباع الجديد الإيجابي الذي تكون عند الكثيرين تجاه التواجد الروسي في حمص "لا أنكر أني أشعر بارتياح كبير لتواجد المجند الروسي على الحاجز، مقارنة بعنصر للنظام أو عنصر ينتمي لحزب الله، لكنه يبقى جندياً ينفذ أوامر قيادته.. تلك القيادة التي دعمت النظام في كل أعماله العدائية ضد الحي من قصف وحصار على مدى سنوات، كل طيارة حربية تمر من فوقي تذكرني بأن الروس، مهما بدوا لطفاء على الأرض، لكنهم كانوا يوماً ما شركاء في إذلالنا وقصفنا" تقول ريما.

قد تكون تصرفات الجنود الروس بودية مع الأهالي دافعها إدراك القيادة الروسية أن صورة روسيا لدى الأهالي سلبية، لذا تعمل على تحسينها، ولأنها أيضاً تفكر ببقاء طويل الأمد، والأفضل لها إيجاد بيئة آمنة بالحد الأدنى، وقد يكون هذا مجرد حيلة روسية لحين تمكن روسيا من الإمساك بعناصر اللعبة جيداً.

(الصورة الرئيسية: شرطة عسكرية الروسية تقوم بدوريات في حي الوعر، حمص 8 نيسان 2017 (حساب M Green تويتر/ تستخدم الصورة وفق سياسة الاستخدام العادل، والحقوق محفوظة لأصحابها)

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد