هل يفقد الفنانون السوريون هويتهم في الخارج؟


ماذا يحدث لهويتك السورية الآن وأنت تعيش في بلد جديد؟ كيف تتأثر هويتك بسياسات الاندماج الخاصة بهذا البلد؟ تنطوي هذه الأسئلة على مفهوم للهوية متجانس ومرتبط بالجنسية. لكن الواقع ليس بهذه البساطة أبداً.

24 آب 2017

آلفرد نداف

طالب دراسات عربية وعلوم سياسية، ويعمل معلماً للغة الفرنسية وباحثاً مساعداً في مركز الدراسات العربية في كلية ديفيدسون. ويعمل حالياً على كتاب يوثق أعمال الفنانين السوريين في الشتات (من مختلف الفنون) ورد فعلهم الثقافي على الثورة وعلى الحياة خارج الوطن.

Translated By: ياسر الزيات

(باريس، فرنسا) غالباً ما تثير الهجرة إلى بلد جديد أسئلة متعلقة بالهوية. ينطبق ذلك بصفة خاصة على الفنانين والمثقفين، وغيرهم من أبناء المجتمع الراقي الذين تحظى آراؤهم العامة بقدر واسع من الرفعة والتقدير.

ثمة ما لا يحصى من الأسئلة التي تدور حول سؤال الهوية في السياق السوري، نتيجة نزوح شريحة واسعة من الفنانين السوريين إلى خارج البلاد. ماذا يحدث لهويتك السورية الآن وأنت تعيش في بلد جديد؟ كيف تتأثر هويتك بسياسات الاندماج الخاصة بهذا البلد؟ تنطوي هذه الأسئلة على مفهوم للهوية متجانس ومرتبط بالجنسية. لكن الواقع ليس بهذه البساطة أبداً.

كتب الكاتب السوري العالمي الشهير خالد خليفة عبارة مثيرة للجدل حول الهوية كمفهوم ثابت بعد سنة زمالة قضاها في جامعة هارفارد. لدى لقائه مع سوريين في مختلف بقاع العالم، اعتبر أن "اللاجئ يخسر هويته لكنه لا يكتسب هوية جديدة ... (اللجوء) عيش في الفراغ. لكنه عيش وحياة مؤلمة مهما حاولنا تجميلها".

في النهاية فضّل خليفة العودة إلى سوريا، بغض النظر عن مدى صعوبة الحياة هناك، فالعيش في الخارج كان شاقاً للغاية بالنسبة له.

لكن قراره بالعودة إلى دمشق أثار فضول "حكاية ما انحكت" لاستقصاء المزيد من آراء الفنانين الذين لا يتمتعون بإمكانية العودة أو بترف البقاء "الاختياري" في الخارج. كثير منهم لا يتفقون مع "خليفة" في فهمه للهوية، والذي يدور حول فقدان الهوية نتيجة العيش في الخارج واستحالة اكتساب هوية جديدة، وحول مفهوم العودة كسبيل وحيد لاستعادة الهوية الأصلية.

تحدث "حكاية ما انحكت" مع مجموعة من الفنانين السوريين المكرّسين الذين يعيشون في باريس، حيث طرح عليهم تحديداً سؤال الهوية في الأرض الجديدة.

في حين تختلف الدول كثيراً في كيفية تعاملها مع المهاجرين، تشكل فرنسا حالة تستحق الدراسة في سياق تعريف خالد خليفة للهوية، ففي نهاية المطاف يقوم مفهوم المواطنة الفرنسي تقليدياً على الاستيعاب، وعلى احتضان الرموز الفرنسية والثقافة الفرنسية، "وليس في توسيع معنى بما هو فرنسي ليشمل الثقافات والأعراق والأديان والقيم الأخرى" حسب تعبير غوردون آدمز، أستاذ السياسة الخارجية الأمريكية. على السطح، يبدو أن السياسات الفرنسية تجعل الاحتفاظ بـ"الهوية الأصلية" أصعب على السوريين إن كانوا يهدفون إلى الاندماج في وطنهم الجديد.

سأظل سورية حتى تتحرر بلادي

تنتقد المخرجة السورية البارزة هالة العبدالله بشدّة فكرة خليفة حول فقدان من يعيشون خارج سوريا هويتهم السورية، حتى في بلد مثل فرنسا. بالنسبة لها، الهوية تتحوّل وتتطور دون توقف؛ فهي ليست أبداً ثابتة أو معلبة أو مرتبطة بالجنسية.

تتذكر "العبدالله"، التي انخرطت في السياسة منذ سن مبكرة، كيف كانت تحضر أفلاماً ومناقشات بشكل سري في نادي السينما في دمشق. نتيجة لأنشطتها السياسية السرية ضد نظام حافظ الأسد (1971-2000)، سجنت العبدالله مرتين في سن العشرين، قبل أن تفرّ إلى باريس بصحبة زوجها الرسام الكبير يوسف عبدلكي.

بقيت العبدالله لمعظم حياتها تحلم بثورة تقوم في سوريا. وهي تميّز بين الناشطين الشباب والمصطلح الفرنسي "المناضلين" الذي ينطبق على جيلها. "أولاً، أعتقد أن هناك اختلافاً كبيراً بين جيلي والجيل الذي ظهر في أعقاب الثورة. خلال ثورة 2011، كان هناك شباب منخرطون بعمق ومستعدون للموت في الشوارع، ولكن انخراطهم ثبت أنه كان فعلاً ارتجالياً. ما إن يصل بعض هؤلاء إلى أوروبا، مثلاً، حتى تنتهي معركتهم من أجل سوريا، لأسباب مفهومة".

حتى بعد 35 عاماً خارج سوريا، تواصل العبدالله توجيه مستقبلها نحو وطنها: "لدي شعور بأنني لم أفعل شيئاً في فرنسا. أنجزت جميع أفلامي في سوريا. سافرت ما لا يقل عن 15- 20 مرة إلى سوريا مع مواطنين فرنسيين أقنعتهم بالذهاب إلى سوريا. عندما تدخل بيتي يتولد لديك انطباع أنك في سوريا، بسبب الطبخ والديكور. ابنتي مرتبطة بسوريا أيضاً. قلبي وعيناي وعلاقاتي وكل روحي مع سوريا".

على الرغم من كل المصاعب التي عانت منها في سوريا، فهي تشعر بارتباطها بهويتها السورية "لأن سوريا بحاجتي، فرنسا ليست كذلك. في غضون عشر سنوات تقريباً، أو في الوقت الذي تتحرّر فيه سوريا وتنشأ فيها ديمقراطية، سأصبح مواطنة عالمية ولن يحتاج فني للقيام بدور سياسي من أجل سوريا".

كان للعبدالله دور محوري في تأسيس مجموعة سوريا حرية التي تأسست قبل ست سنوات لدعم الحراك اللاعنفي السوري ورفع الوعي بالشأن السوري بين الجمهور الفرنسي. عندما اندلعت الثورة، شعرت بالغربة عن فرنسا لأنها لم تجد فيها ما يكفي من التضامن ووحدة الحال مع السوريين.

في الوقت نفسه، العبدالله متكيّفة جيداً في باريس وتتحلى بالانفتاح مع الآخرين. كما أنّها تنتقد التمييز الطويل الأمد الذي تمارسه الدولة الفرنسية بحق العرب. "قبل الثورة، لم تكن سوريا شيئاً يذكر. عندما كان الناس يلاحظون لهجتي ويسألون عن أصلي، كنت أجيب "أنا عربية"، وذلك لزعزعة الصورة النمطية لديهم. كانوا يردون: "أوه لا تبدين كذلك". الآن أقول إنني سورية لأنني أريد زعزعة كل شيء. يمكنك ملاحظة كيف تتغير الهوية وتتطور وتتلون وتتغير أشكالها".

(تشعر المخرجة هالة العبدالله بارتباطها بهويتها السورية "لأن سوريا بحاجتي، فرنسا ليست كذلك. في غضون عشر سنوات تقريباً، أو في الوقت الذي تتحرر فيه سوريا وتشنأ فيها ديمقراطية، سأصبح مواطنة عالمية ولن يحتاج فني للقيام بدور سياسي من أجل سوريا". - هالة العبد الله في مقهى بالقرب من منزلها في باريس، بتاريخ - 23 حزيران 2017 (آلفرد نداف/ خاص حكاية ما انحكت))

 

قد تغادر سوريا لكن سوريا لن تغادرك

محمد عمران نحات شهير غادر سوريا إلى باريس عام 2010، قبل عدة أسابيع من انطلاق الثورة. خلال هذا الوقت، تخلّى عن النحت لصالح أسلوب في الرسم المجرد يتيح أكثر للّاوعي أن يسترسل في التعبير عن الوحشية الجارية في بلاده. يفهم عمران مشاعر خليفة حول الهوية، ويقرّ بأن هويته تغيرت كثيراً خلال العقد الماضي. ولكن قبل كل شيء هو يشعر بأنه سوري، مضيفاً: "أنا سوري أياًّ يكن. إنه بلدي. جذوري سورية. عائلتي تعيش هناك".

عندما اندلعت الثورة في عام 2011، كانت سوريا حاضرة في كل أعمال ومعارض عمران. يظهر وجه الحاكم الراحل حافظ الأسد في العديد من رسوماته، حيث يحاول تفكيك ما مثله الأسد من طغيان وعبادة شخصية. لكن شيئاً فشيئاً أصبح موضوع سوريا أقل مباشرة. "بعد ولادة ابنتي قبل عامين، أشعر أنّ كل ما أقوم به اليوم هو من أجلها ومن أجل مستقبلها. لذا انحرف موضوع سوريا بعض الشيء"، يقول ذلك بشيء من الاعتراف. "من المحزن أن أقول ذلك، وأعتقد أنّ سوريا حاضرة في البال بكل تأكيد طوال الوقت. ولكنّني لا أعبّر عن ذلك بالشكل المباشر الذي كنت قد اعتدت عليه من قبل. ربما لأنني أريد تجنّب كلّ العنف الحاصل هناك؛ لا أستطيع أن أبقى حبيس هذا الحنين. لأني إذا بقيت هكذا لن أتمكن من بناء حياة مستقرة يعول عليها هنا".

عام 2014 تصالح عمران مع واقعه: لا لنسيان سوريا لكن نعم لتأسيس حياة جديدة في فرنسا. يقول عمران لـ"حكاية ما انحكت": "سيظل مستقبل سوريا غير واضح. ليس لدي أمل في العودة. ليس لدي في سوريا سوى والديّ. كلّ أصدقائي المقربين غادروا. أخواتي وإخوتي أيضاً. ليس لدي أي قريب سوى أبي وأمي في سوريا. سوريا بالنسبة لي هي الأصدقاء والعائلة. طبعاً هناك لحظات يملؤني فيها الحنين، مثلي مثل الجميع، هذا مؤكد. ولكن ربما أنا أجبر نفسي على عدم التفكير في سوريا اليوم بخلاف ما كنت أفعل من قبل".

يعمل عمران اليوم على رسومات تتناول موضوع الانتظار. "نحن ننتظر وننتظر، ولكن ماذا ننتظر؟ هل ننتظر نهاية الحرب؟ لا أعرف…"

("طبعاً هناك لحظات يملؤني فيها الحنين، مثلي مثل الجميع، هذا مؤكد. ولكن ربما أنا أجبر نفسي على عدم التفكير في سوريا اليوم كما كنت أفعل من قبل". - الفنان محمد عمران في مرسمه في باريس. بتاريخ 11 حزيران 2017 (آلفرد نداف / خاص حكاية ما انحكت))

 

لست سورية أو فرنسية فحسب، أنا كلاهما وأكثر

المغنية رشا رزق، التي أدّت العديد من شارات أفلام الكرتون التي لا تنسى بالنسبة للأطفال العرب، كانت تبلغ من العمر 19 سنة عندما قامت بتجارب الأداء ونجحت في العمل في قناة سبيستون الفضائية منذ حوالي عشرين عاماً. وقد صعدت إلى النجومية بسرعة بعدما صار لها مئات آلاف المعجبين في جميع أنحاء المنطقة، بعد أدائها أغاني مثل: (الكابتن ماجد، المحقق كونان، دروب ريمي، بابار، أنا وأخي، أنستازيا، سندريلا، عهد الأصدقاء، تويتي، بوكيمون، الضاحكون، أبطال الديجيتال) وغيرها الكثير.

كانت رزق فنانة متعددة الجوانب، فخارج سبيستون كانت متخصصة في موسيقى الأوبرا، كما أنتجت مقطوعات جاز عربي خاصة بها، وقد درّست الغناء في المعهد العالي للموسيقى في دمشق.

مع مرور السنين، وبعدما كبر معجبوها وأصبحوا مراهقين، شاهدوا رزق تتفاعل علناً مع ثورة بلادها. لقد تحوّلت رسالتها؛ لم تعد تنتقي كلمات أغانيها حسب رقابة السلطة وباللجوء إلى الترميز والاستعارات، بل أصبح انتقادها للقمع الديكتاتوري مباشراً. غادرت رزق سوريا إلى فرنسا عام 2012 للدراسة في المدرسة العليا للموسيقى في باريس. كان آخر إصداراتها بعنوان "ملاك"، وهو اسم إحدى أغاني الألبوم وتتكلم عن الأطفال الذين لقوا حتفهم في البحر.

تعليقاً على مفهوم خليفة للهوية، ترد رزق: "لا أشعر أنني أبحث عن هويتي ولا أشعر بأنني فقدتها. هويتي، وكذلك هويتي الموسيقية، تتجمع في عالمين، فقد كان لدي دوماً تنشئة غربية-أوروبية وأخرى عربية-شرقية. لكنني أشعر أنّ الهوية هي السؤال الخطأ أصلاً. [...] أتفق مع أمين معلوف بأن الهوية شيء يتطور كل يوم. الهوية معقدة. بلى ولدت في سوريا، في الشرق الأوسط، في دمشق من آباء دروز، وأتكلم العربية. لكني تربيت في مدرسة كاثوليكية، وتعلمت الفرنسية، واستمعت إلى الموسيقى العربية، وكذلك إلى فرقة البيتلز، وموسيقى الجاز، والأوبرا، وسائر الإرث الكلاسيكي. هذه هي هويتي".

("لا أشعر أنني أبحث عن هويتي ولا أشعر بأنني فقدتها. هويتي، وكذلك هويتي الموسيقية، تتجمع في عالمين، فقد كان لدي دوماً تنشئة غربية-أوروبية وأخرى عربية-شرقية". رشا رزق في مقهى بالقرب من منزلها في باريس، بتاريخ  28 حزيران 2017 (آلفرد نداف / خاص حكاية ما انحكت)).

 

الهوية عنوان ندوة

تحولت الهوية إلى كلمة تجارية تستعمل لتنظيم الندوات حول السوريين الذين يعيشون خارج بلادهم.

من ناحية تعزّز فكرة الهوية المتميزة التضارب الثقافي الزائف الذي يستعيد أطروحة صموئيل هنتنغتون عن "صراع الحضارات" (1997)، ما يخلق سردية "نحن" مقابل "هم".

من ناحية أخرى، فهم خالد خليفة البريء للهوية يستحضر "الحميمية الثقافية" لدى مايكل هرتسفيلد. هنا تعبر الهوية عن علاقة حميمة مع الحياة اليومية السورية، بالرغم من المصاعب التي يواجهها الناس في ظل الحكم الشمولي، والذي تفاقمه الاضطرابات والدماء. الهوية مفهوم عضوي، متصل بالعادات والحواس والأعراف اليومية التي يألفها الناس في الوطن، والتي لا يمكن استنساخها في أي مكان آخر مهما حاولوا. رغبة خليفة في عدم الابتعاد عن هذه التقاليد مفهومة، لكن سوريين كثيرين محرومون من ترف العودة لأسباب لا حصر لها، من بينها قمع النظام الذي يهدد حياتهم.

لكل فرد تعقيداته، والتشابه الوحيد الذي يربط السوريين معاً هو أنّهم اعتبروا سوريا، ذات يوم، وطنهم، والآن تفرّقوا. يجد الكثير من الناس أوجه شبه بين الثقافتين المتوسطية الفرنسية والسورية، كما يندهش البعض من نجاح السوريين في الانصهار في بلدانهم الجديدة. وكما يؤكد كلّ من العبدالله وعمران ورزق، أنّ الهوية مفهوم ديناميكي. إنّ إجاباتهم تدحض أسطورة الهوية "السورية" المميّزة المعرّضة للخطر بمجرّد التّماس مع المجتمع الفرنسي.

(لصورة الرئيسية: الفنان محمد عمران في مرسمه في باريس، بتاريخ 11 حزيران2017 (آلفرد نداف / خاص حكاية ما انحكت)

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد