روح لا تدري بها البشر


23 آب 2017

(ينشر هذا النص بالتعاون مع شبكة الصحافيات السوريات، وهو يأتي ضمن مشروع “حكواتيات .. قصص نساء سورية خارج الظل”)

ـ ليش ما فكرتي تحكي من قبل؟

ـ شو كانت الفائدة؟

ـ سؤالك بيعني إنك شايفة فائدة اليوم؟

ـ مو فائدة خاصة، وإنما ممكن تكون عامة، أنا عم شوف إن تجربتي خرجت عن الحدود الشخصية

ليس باستطاعتي أن أنكر دهشتي بقرارها المفاجئ بعد خمسة وعشرين عاماً. ترى ما الذي استجد؟ هل هي اليوم إنسانةٌ مختلفةٌ عن الأمس؟ وماذا تنشد من هذا القرار؟ كنت قد التقيتها بالصدفة بعد غياب عدّة سنوات بينما كنت أحضر لمشروعي هذا، حدثتها عنه وسألتها:

ـ بتعرفي شي صبية أو ست عندهن تجربة بيحبوا يشاركوها؟

ـ والله ما في حدا ببالي هلق، بس طلع شي أكيد بخبرك.

لم يخطر في بالي أنني سأتلقى رداً سريعاً منها، لم يكن سريعاً فحسب، بل ومفاجئاً أيضاً. في صباح اليوم التالي للقاء وبينما كنت أتصفح بريدي الإلكتروني وجدت رسالةً بسيطةً تقول:

ـ مرحبا، مبارح سألتيني اذا بعرف صبية بتحب تشارك قصتها. بتعرفي شو؟ طلعت بعرف وحدة كتير منيح. أنا.

لقد كنت في شوق لأسمع قصتها، فليلى لم تكن مجرّد صبيةٍ عاديةٍ أرادت مشاركة تجربتها بل كانت زميلتي في الكلية، ولم يسبق لي أن شعرت، ولو لمرةٍ واحدة أنّها تخفي جرحاً كبيراً في قلبها. كانت طالبةً طبيعيةً جداَ، وتملك الكثير من الأصدقاء والصديقات.

اتفقنا أن نلتقي في غرفتي في بيروت. في البداية بدت طبيعيةً للغاية، ومع ابتسامة خفيفةٍ بدأت تروي قصة تعود إلى ما يقارب الخمسة وعشرين عاماً.

 في ذلك اليوم كانت ما زالت طفلةً غير مدركةٍ لمعنى الجسد الغض الذي تمتلكه. كانت في السابعة من العمر، لا علامات أنثوية ظاهرة على جسدها لكنها أنثى بكل الحالات. أنثى طفلة، أم أنثى بالغة غير مهمٍ، إنها أنثى في نهاية المطاف.

 وكما الجلاد الذي لا يعنيه متى، وكيف تموت ضحيته أمام لذته بتعذيبها، كذلك كان جلادها ينشد لذته دون أن يهتم لما يخلفه من آثارٍ، سواءً على جسدها أم على روحها الغضة البريئة.

كأي طفلةٍ في مجتمعنا كانت قد تلقت الكثير من تعليمات الحماية من أهلها: لا تكّلمي الغرباء، لا تذهبي مع أحد لأي سببٍ كان، لا تسمحي لأحدٍ أن يبدّل لك ملابسك، وغيرها الكثير.. لكن هل استطاعت هذه التعليمات أن تحميها؟ وممن كان يجب أن تحميها!؟ على عكس ما يتخيّل معظم الآباء، فالخطر المحدق بالأطفال ليس من الغرباء فقط، وإنما قد يكون من الأقرباء أيضاً، وهنا تكمن الخطورة الأكبر، فمعظم النار من مستصغر الشرر، وذلك ما حدث مع ليلى تماماً.

في قريتها الريفية الصغيرة تتداخل العلاقات الأسرية بشكلٍ كبيرٍ، حتى لتبدو القرية كلّها كأنها أسرةٌ واحدةٌ، ولا حواجز تذكر بين الأقارب، فابن العم مثلاً هو بمثابة الأخ لأنه قريب الدم. وتلك كانت النقطة التي استغلها الفتى ليسلب طفلة يكبرها باثنتي عشر عاماً إحساسها بالطفولة، لقد كان يدرك تماماً أنّ طفلةً بهذا العمر لن تعرف ما يحصل لها، لكنه نسي أو ربّما تناسى أنّ ذاكرتها ستحتفظ بكل صورةٍ وكلمةٍ كأرشيف عتيق يأبى الحذف.

كم كان يملك من الجرأة حتى يصطحب الطفلة إلى إحدى غرف بيت أهلها الكبير، وينتهك جسدها الصغير، ثم يهدّدها إن نطقت بأي كلمةٍ لأحد سيدّعي بأنه وجدها مع أحد أولاد الجيران، وبأنّ الجميع سيصدق كلامه لأنه الأكبر سناً. كان الخوف يعشش في قلبها الصغير، فهي لم تكن تفهم ما يحصل، أو حتى ما سيحصل إن علم أحدٌ بالأمر. كل ما كانت تحسه هو أن ما يحصل يزعجها، ويؤلمها دون أن تعرف السبب.

تكرّرت تلك الحادثة عدّة مراتٍ على مدار سنةٍ كاملةٍ، كلّما سنحت له الفرصة لاقتناص الضحية، إلى أن جاء يومٌ شعرت فيه برغبةٍ قويةٍ بإيقاف ذلك الكابوس المزعج مهما كلفها الثمن. في ذلك اليوم استغل وجوده وحده مع إخواتها الصغار، وناداها عدّة مرات لكنها لم تأتِ، عاد إليها مرةً أخرى، فصرخت في وجهه مهدّدةً بأنها ستتكلم دون أن تهتم لما قد يحصل. أي ألمٍ هذا الذي حوّل تلك الطفلة الهادئة إلى سيلٍ من الغضب، صرخت، وصرخت دون أن تهتم لمن قد يسمع، حتى تركها وغادر المنزل على الفور.

الأمر لا ينتهي بسهولة

تقول ليلى بأنها لم تبك في ذلك اليوم، بل كانت سعيدةً لأنّها اعتقدت بأن كل شيء قد انتهى، وأنّ الحياة لا بد أن تعود إلى مسارها الطبيعي. لم يكن ذلك صحيحاً تماماً، فالكابوس الذي توقف جسدياً لم يتوقف نفسياً، وبدأت آثاره تظهر، وتتحكم بحياتها. وُلد داخل ليلى رعبٌ حقيقيٌّ من جميع الرجال، أو يمكننا القول من جميع الذكور حتى الصغار منهم. كبر هذا الرعب، ولازمها منذ الطفولة حتى المراهقة والشباب، كان مجرّد جلوس شابٍ بقربها في الحافلة، أو سيره خلفها لفترةٍ معينةٍ كافياً لزرع الرعب في قلبها حتى وإن لم يُبدِ أي سلوكٍ شاذٍ. وأكثر ما كان يؤلمها أنه حتى والدها لم ينج من ذلك الخوف. تجربتها المؤلمة بدأت تزرع الشك في داخلها تجاه أي شخصٍ، على الرغم من إيمانها الضمني بأنّ والدها كان أباً طيّباً، وحنوناً إلا أنّ جداراً تشكل بينهما، منعها من موازنة الأمور بشكلٍ منطقي، كانت تراه ذكراً ككل الذكور الآخرين.

ـ كنت طفلة وما قدرت ميز إن هاد أبي مارح يؤذيني، كنت خاف قرب منه، ولما يضمني حاول بعّد بأي حجة.

حتى بعد أن كبرت لم تتمكن من هدم ذلك الجدار. كانت تجد صعوبةً في التواصل معه، في شرح مشاعرها، أو في مناقشة أي موضوعٍ شخصي حيث كانت دموعها حاضرةً دائماً لتختتم أي حديثٍ. كانت نادراً ما تخبره عن حياتها أو نشاطاتها، أو حتى ما تخططه لمستقبلها.

ـ أبي ما انتبه لشي، وببساطة كل شي خطر بباله هو إني انطوائية، وأنا فعلاً كنت عم ألعب هالدور بس مو معه لحاله، مع الكل لأني كنت ارتاح بس كون لحالي، ويمكن لهيك هو ما حس بالفرق.

أما علاقاتها مع الصبية الآخرين في فترة المراهقة، فكانت عدائيةً نوعاً ما، كمن يقول في نفسه: "رح أتغدى فيهن قبل ما يتعشوا فيني". لكن انتسابها إلى جامعة دمشق لاحقاً بدأ يدخلها مرحلةً جديدةً، ربما لم تكن الأسهل، ولكنها كانت مختلفةً. هناك شعرت وكأنّ حملاً ثقيلاً قد انزاح عن صدرها. فهي بعيدةٌ عن مسرح ذلك الكابوس، وذكرياته. بدأت تشعر بأنها تشتاق لأسرتها، ولوالدها بشكلٍ خاصٍ، وتفتقده وتشعر بالذنب تجاهه لأنها لم تتمكن من تأسيس علاقةٍ طبيعيةٍ معه طوال السنوات الماضية من الطفولة إلى المراهقة. لطالما خطّطت خلال وجودها في دمشق لمشهد لقائهما، ولطالما رتبت كلماتها بشكلٍ متوازنٍ كي تعوّض عن كل سنوات البرود، لكن المفاجأة كانت تحصل عندما يتوجب عليها التنفيذ. فما إن تعود إلى قريتها بإجازةٍ، وترى والدها حتى تعود كلّ المشاعر الحارة إلى البرود السابق العهد، وكأنّ كميةً هائلةً من الماء البارد قد انسكبت على جسدها. كانت تكتفي بالسلام والقبلات الترحابية المعتادة ثم تجلس دون أيّة تفاصيل تذكر. خمس سنواتٍ من الدراسة مرّت دون أن تتمكن، لو لمرةٍ واحدةٍ من تنفيذ ما حلمت به.

(لوحة للفنانة علا الشيخ حيدر. والمنحوتة صمّمت خصيصا لهذه الحكاية)

علاقاتها مع شباب الجامعة كانت شبه طبيعيةٍ، طالما أنها لم تتجاوز حدود الصداقة. ولكن ما إن كان يتجرأ أحد ما على التعبير عن مشاعر خاصةٍ حتى تنقلب الصورة تماماً، وتدخل في مرحلة من الغموض والانعزالية. كان كابوسها القديم يعمي عينيها عن كل ما هو جميلٌ وصادقٌ، ويصوّر لها الرجال كوحوشٍ لا يرون النساء إلا بعيني الرغبة والغريزة. وليلى لم تكن تريد من يقول لها "كم أنت جميلة!"، كانت تريد من يقول "يا له من قلبٍ جميلٍ ذلك الذي تحملين" عندها فقط ستطمئن إلى أن عينيه تريانها كإنسانةٍ وليس كجسدٍ.

هل يمكن النسيان؟

ولكنها طيلة تلك الأيام لم تكن تملك صورةً واضحةً عما يحدث، ولم تكن قد أدركت بعد أنّ ما يحصل معها ليس سوى بقايا كابوسٍ يعشش في الذاكرة، إلى أن التقت بمن فتح عينيها، ومهّد لها الطريق بكلماتٍ بسيطةٍ.

كانت منشغلة بتحضير لوحات التخرج، لم يتبقَّ سوى اللمسات الأخيرة عندما توقف بقربها شابٌ وبدأ يراقبها عن كثبٍ، توترت، بدأت يداها ترتجفان، لكن الشاب لم ينطق بكلمةٍ واحدةٍ، واستمر بالمراقبة. أخيراً جاءها الصوت من الخلف:

ـ إنت بدك تعقديني!

ـ شو؟ عفواً عم تحكي معي؟

ـ إي آسف ما عرفت بحالي بس هاد بسبب الصدمة

ـ صدمة شو؟

ـ "أنا عمار طالب ماجستير علم نفس، وعم حضر لمشروع التخرج، وفكرت زور الكلية عندكن لأن موضوعي عن الفنانين، بس تفاجئت بالشي يلي شفته

ـ شو شفت؟

ـ شفت فنانة عندها حس عالي وجرأة وقوة بالخطوط والتشكيل، بس متخباية ورا حاجز زجاجي كبير لا حدا بيقدر يتجاوزه ولا حدا بيقدر يشوفه.

بعد حديثٍ طويلٍ مع عمار عادت عند المساء إلى غرفتها. بدأت تفكر بكلماته هل حقاً تعيش خلف حاجز زجاجي؟ وكيف لشخصٍ لم يلتقيها مسبقاً أن يقرأ كلّ ذلك من خلال تلك الخطوط؟ لكن قد يكون محقّاً، فهي لم تتمكن يوماً ما من إقامة علاقةٍ متوازنةٍ مع أي شخصٍ، حتى الشاب الذي أحبّته لسنواتٍ لم تستطع أن تكون قريبةً منه.

قرّرت في ذلك اليوم أن تكسر الحاجز بنفسها، وتجد لحياتها طريقاً جديدةً، لكن الصدمات المتوالية التي تلقتها أفقدتها العزيمة ثانيةً. فالشخص الأول الذي أحبته رحل، ببساطةٍ رحل قبل أن تتمكن من ترميم روحها. بعد ذلك بثلاث سنواتٍ التقت غيره، لم تكن له حباً، لكنها أحسّت بأنه شخصٌ لطيفٌ، وواعٍ قد يساعدها في المضي قدماً، فقررت أن تكون أكثر صراحةً، وتخبره بقصتها. فاجأتها ردة فعله الحادة، حين وصفها بالمريض النفسي الذي يحتاج لطبيبٍ حالاً. وبعد عدّة أيامٍ بدأ يحاول إجبارها على رؤية مشاهد جنسيةٍ كي تتجاوز عقدتها، وحين رفضت، وبشدّةٍ صرخ بها قائلاً بأنها لن تتمكن يوماً من إقامة أية علاقةٍ مع رجلٍ، ببساطة... لأنها تملك صورةً رومانسيةً عن الجنس في حين هو بالواقع غريزةٌ مطلقةٌ لا علاقة لها بالحب. والرجل المثار لن يعاملها إلا من خلال غريزته. ربما أراد معالجتها بالصدمة لكن النتيجة كانت إشعال ذاكرتها من جديدٍ، وبقوةٍ مما جعلها تبتعد عنه بشكلٍ نهائي.

ها هي تكاد تستعيد عافيتها قليلاً بعد مرور سنتين على تلك التجربة القاسية لتلتقي بشخصٍ جديدٍ. إلا أنّه لم يكن من تنتظره. فردة فعله لم تكن أفضل من سابقه على الرغم من أنها كانت معاكسةً تماماً.

ـ لا تكبري الموضوع وخليك قوية، ٩٥٪ من السوريات تعرضوا لشغلات من هالنوع سواء اغتصاب أو أي نوع من أنواع التحرش. لازم تكوني قوية وتنسي.

النسيان كلمةٌ سهلة النطق عصيةٌ على التنفيذ، هل كان يعرف حقاً ما مرت به حتى يقول عليك (أن تنسي)؟ بالتأكيد لا، فهي لن تنسى لا اليوم ولا بعد عشرين سنة.

ـ بهداك اليوم قلي افتحي الكاميرا، محتاج شوفك هلق فوراً، بدي منك طلب. وأنا ما وافقت لأن كنت بدي أفهم كل شي بالأول، بس هو فجأة عصب وقلي خلص سكري، خربتي كل شي.

كان ذلك في مساء اليوم الذي حدثته فيه عمّا يقيد روحها منذ سنوات طويلة. أغلق الخط، وتركها تغرق في دوامتها الجديدة. ماذا حدث للتو؟ وماذا سيحدث غداً. الغد لم يكن باليوم البعيد لكن الأحلام هي التي كانت بعيدةً. في نفس المكان وعلى نفس الطاولة كانت البداية والنهاية.

في لقائهما الأخير في ذلك الغد لم تكن تنصت لحجج هروبه بل كانت تقرأ ما بين السطور. هو مسافرٌ للعمل في الخليج، لكن ذلك لم يكن بالجديد، قد يطول السفر لسنواتٍ، ذلك تعرفه أيضاً، لا يمكن أن تنشأ علاقة حبٍ إلكترونية، لكن ذلك كان اقتراحه قبل أيام، جميع تلك الأمور تكلّما عنها منذ البداية ولم تكن المشكلة، ما المشكلة إذن؟

ـ يلي صار مبارح هو السبب، خليك صريح.

ـ بصراحة إنت مانك قادرة على إقامة علاقة سليمة مع رجل.

إنه السبب الحقيقي إذن، ألقاه أمامها على الطاولة كورقة اللعب الأخيرة، وصمت. دقائق من الصمت الثقيل مرّت كأنها العمر كله. حملت ألمها ومضت، لم يكن ألم الفراق، وإنما ألم السنوات الطوال التي تأبى أن تفارقها.

إذا كان عليها أن تدفع ثمن ما لا ذنب لها به فلتختَرْه هي. قالت لنفسها: "لن أكون جسداً لأحد، لن أكون تابعاً لأحد، سأدفن ألمي في قلبي، لكن لن أسمح له بتحطيمي".

 بدت مقتنعة أكثر أنّ الغريزة وحدها من يحرّك عقول الرجال، وأنّ النساء سيما في مجتمعنا العربي لسن سوى أدوات تلك الغريزة. ولأنها لا تريد أن تكون إحدى تلك الأدوات بدأت رحلتها لمحاربتها بكل الوسائل. سلاحها الوحيد كان ريشتها وفنها، بدأت تركز على تصوير النساء، يصرخن بكلّ ما أوتين من قوةٍ، صرخاتٍ اعتقدت ليلى أنّ عليها أن تحرّرها من حدود اللوحة في هذه الجلسة.

الحب.. ليس بالجسد وحده يحيا الإنسان

أخيراً تمكن أحدهم من احتضان صرخاتها بعد كل ما مرّت به من خيباتٍ. كان لقاؤهما صدفةً حاولت ألا تبني عليها أحلاماً، إلا أنها كانت ما انتظرته منذ زمن. تكرّرت اللقاءات والأحاديث، ومن ثم تحولت إلى رسائل يوميةٍ، بدأ قلبها يشتعل من جديد، في الوقت نفسه الذي كانت فيه الشوارع خارجاً تشتعل بالمظاهرات. صرخات للحرية توازي صرخاتها التي طالما عملت على تحريرها.

التطوّر السريع للأمور أقلقها، ليس فقط لأنها مقدمةٌ على علاقةٍ مع شاب أوروبي قد يرحل في أيّة لحظةٍ، وإنّما لأنها لا تزال تعيش في دوامة الماضي. كان الحل الوحيد بالنسبة إليها هو أن تخبره بكل ما لديها دون أن تهتم لردة فعله، فتجاربها السابقة قد أكسبتها نوعاً من المناعة. إلا أنّ رده جاء بغير ما توقعت لكن بما تمنت منذ زمن.

ـ لن يحصل إلا ما ترغبين به، وفي الوقت الذي تختارين، فما يجمعنا لا يبنى على الرغبات فقط.

تكرّرت اللقاءات اليومية لعدّة أشهر، شعرت خلالها بأنّها أخيراً التقت بمن يبحث عن روحها، وليس عن جسدها، من يراها كإنسانةٍ قبل أن يراها كأنثى. بعض تلك اللقاءات كانت تتم في بيتها، أو بيته، وكثيراً ما كانا لوحدهما إلا أنّه لم يحاول مرة أن ينكث بعهده حتى أحسّت ليلى بأن لا قدرة لها على التخلّي عنه بعد الآن.

لاحقاً اضطر لمغادرة سوريا بسبب الوضع الأمني، ولكنه لم يعد إلى بلاده، وإنما بقي في لبنان منتظراً لحاقها به. بعد عدّة أشهر تمكنت أخيراً من الانتقال إلى بيروت حيث تزوّجا وأمضيا عدة أشهرٍ قبل أن تحصل على فيزا إلى فرنسا.

اليوم انتقلت ليلى مع زوجها إلى فرنسا لتبدأ رحلةً جديدةً، ولكن ليس رحلتها الشخصية فحسب، فهي ما تزال تؤمن بأنّ عليها أن تدعم صرخات النساء ولا سيما في سوريا، فهي ما تزال تؤمن بأنّ قضيتها هي قضية جميع النساء اللاتي ما زلن يعشن تحت ظل العقلية الذكورية السلطوية، سواء القانونية أو المجتمعية، تلك العقلية التي منعتها لسنواتٍ طويلةٍ من أن تبعد الضرر الذي طالها فقط لأنها ولدت أنثى. كانت على استعداد أن تتحمّل الأذى النفسي لوحدها على أن تحمله لأسرتها التي سيكون عليها حينئذٍ أن تواجه التبعات المجتمعية من لومٍ للضحية، ودرءٍ للفضيحة بداعي السترة وعدم تشويه العلاقات الأسرية.

(الصورة الرئيسية: لوحة للفنانة علا الأيوبي. المصدر: الصفحة الرسمية للفنانة على الفيسبوك بتاريخ 23 يونيو 2012)

الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد