الحقيقة هي ما نجده أثناء بحثنا عن شيء آخر


عادت لارا إلى البيت كمن صحا فجأة من سكرةٍ كبيرةٍ، بدأت سنوات زواجها الست تمر أمامها كصورٍ غريبةٍ، هل يعقل أنّ كل ذلك كان كذبةً؟ حياتهما كذبة، حبهما كذبة، ابنتهما كذبة. هل كانت عمياء طوال تلك الفترة أم أنها اختارت أن تكون عمياء؟ لقد تخلت عن كل شيء من أجله، بعد أن كانت الصبية اليافعة الحالمة المستقلة في حياتها أصبحت في بيته زوجةً نمطيةً مستعدةً لتحمل كل شيء باسم الحب.

30 آب 2017

(ينشر هذا النص بالتعاون مع شبكة الصحافيات السوريات، وهو يأتي ضمن مشروع “حكواتيات .. قصص نساء سورية خارج الظل”)

الانتظار ثم الانتظار، إنّه السر الذي كان يجمع تلك الجماهير الغفيرة في ذلك اليوم الثلجي البارد. متوّزعين في كل مكانٍ أمام تلك البوابة. عيونهم تتطاير في جميع الاتجاهات علّها تلتقط اللحظة، تلك اللحظة التي ستغتال ألم الانتظار.

كانت معهم تنقل عينيها بين أعينهم، تنشد الخلاص الذي ينشدون. بعد ساعاتٍ من الانتظار رأته من بعيدٍ يقترب ككهلٍ كسولٍ، قالت لنفسها إنّها اللحظة، وهمّت بالوقوف لكن يداً عجوزاً أمسكتها، وصوتٌ منهكٌ خاطبها قائلاً :

ـ ارجعي يا بنتي مو هاد باص المعتقلين

ـ بس ... خالة كيف عرفتي؟

ـ ما في دم عالشبابيك

لا يمكن للارا (35 عاما) أن تنسى اليوم الذي قلب حياتها رأساً على عقبٍ، وأدخلها دوامة البحث التي لم تعرف  من أين تبدأ وأين تنتهي. في ذلك اليوم مرّت الساعات مثقلةً بالخوف والقلق والترقب، إلا أنّها أدركت أخيراً أنّ كل ما كانت تخشاه قد وقع بالفعل.

آخر اتصال تلقته منه كان حوالي الرابعة بعد الظهر، ليخبرها بأنّه سيتأخر أكثر من المعتاد، لكن الساعة قاربت السابعة، ولم يصل، ولا حتى عاود الاتصال. قبل سنة من الآن لم تكن السابعة بالوقت المتأخر أما اليوم فهي أكثر من وقتٍ متأخرٍ. بيدين مرتجفتين أمسكت هاتفها محاولةً الاتصال به. كل ما كانت ترجوه سماع صوته، وليس صوت تلك الآلة المضجرة التي لا تنفك تعيد نفس العبارة "الرقم المطلوب قد يكون مغلقاً أو خارج نطاق التغطية... الرجاء المحاولة لاحقاً". ولكن ما الذي يعني ذلك؟

تضاعفت المحاولات والرد ذاته، لم يرق قلب الآلة مرةً واحدة.ً بصوتٍ مخنوقٍ مختلطٍ بالدموع كلّمت ابنة خالتها، رولا، التي تسكن في ذات الحي: "تعي لحقيني قبل ما جن

مخطوفٌ أم معتقلٌ، أيهما الأسهل؟".

بدأتا تفكران معاً، لكن قدرة لارا على التركيز كانت أقل، فلم يكن سهلاً بالنسبة إليها استيعاب ما يحصل بعد. حاولت رولا تهدئتها من خلال شرح كلا الحالتين بتروٍ. إن كان مخطوفاً فلا بد أن يتصل الخاطفون طلباً للمال، والمال موجودٌ.. إذاً لا مشكلة كبيرة، أما إذا كان معتقلاً، فالأمور أسهل بكثيرٍ لأنّهم سيطلقون سراحه حتماً حين يكتشفون أن لا نشاط سياسي لديه. لم يكن ذلك مقنعاً بما فيه الكفاية بالنسبة للارا، لأن الخطف قد يكون لأسبابٍ أخرى وكذلك الاعتقال، لكنها حاولت أن تضبط نفسها قليلاً خوفاً على طفلتها الصغيرة التي لم تتجاوز الخامسة من عمرها، والتي بدأت تحس بأنّ أمراً غريباً يحصل.

تمنت لارا في تلك الليلة أن يكون كل ذلك مجرد كابوسٍ بشعٍ سوف تصحو منه صباحاً، ولكنها لم تنم لكي تصحو. عيناها ذابلتان، ووجهها شاحبٌ، لكن عقلها مشغولٌ بمراجعة وتحليل كلّ تحركات زوجها السابقة لتتمكن من تحديد السبب المحتمل. إنّه معارض ضمني بالرأي فقط ليس له نشاطٌ سياسي فعلي، لكنه يجاهر بموقفه أحياناً أمام الغرباء. تذكرت حين روى لها سؤاله لجندي الحاجز: "ألا تشعر بالذنب لرؤية أطفالٍ يموتون من قصف دبابتك" جمدت لبرهةٍ، ترى هل يكون ذلك هو السبب؟ ولكن هذه القصة حصلت منذ ثلاثة أشهر، فلماذا يعتقل الآن؟ لا بدّ أنّ السبب مختلفٌ إذاً. انتفضت من مكانها صارخةً: "إذاً ربّما خطف من قبل المعارضين لأنه لم يشارك بالمظاهرات". لكن هناك الآلاف ممن لم يشاركوا فلماذا هو؟

رحلة البحث في بلاد الاستبداد

كانت تلك الليلة بداية رحلةٍ طويلةٍ أخذت من لارا الشيء الكثير. كان عليها أولاً أن تعرف إن كان معتقلاً أم مخطوفاً. بعد مرور يومين على الحادثة، دون أي اتصال من خاطفين أصبح من البديهي بالنسبة إليها أنه معتقلٌ. ومن هنا تابعت رحلتها اليومية لتعرف أي شيء عنه، وكأي غريقٍ متعلّقٍ بقشة كانت تتعلق بأي خيطٍ من الأمل، قابلت الكثيرين ممن وعدوا بالمساعدة، ولكن الأمور كانت أعقد مما تخيّلت. مرّت الأيام، والشهور وهي مواظبةٌ على البحث كل يوم من الصباح حتى المساء، تلّقت معلوماتٍ كثيرةً من جهاتٍ مختلفةٍ دون أن تستطيع التأكد منها، لكن قلبها المتلهف كان يجبرها على تتبع كلّ معلومةٍ صغيرةٍ ولو كانت موضع شكٍ. حتى أنّها قامت بإحدى المرات بدفع مبلغٍ كبيرٍ من المال لشخصٍ ادّعى معرفته بمكانه، وقدرته وعلى إخراجه بكفالةٍ، ولكنه لم يفعل شيئاً في النهاية.

بدأت أوضاع لارا تزداد سوءاً بعد أن أخذت إجازةً من عملها لمدة سنةٍ دون راتبٍ، وبدأت تصرف مما جمعته سابقاً، كما كان مكتب زوجها قد توقف طبعاً عن العمل في غيابه. ابنتها الصغيرة بدأت تفتقدها... حتى في لحظات وجودها في البيت كانت غائبةً. لم تعد تطعمها بيدها، أو تلبسها أو تتحدث معها. ابنة خالتها رولا كانت مدركة تماماً لما تمرّ به، ولكن لم يكن من السهل عليها أن تحل مكانها، سيما مع أسئلة الطفلة الملحة والمحرجة: "وين بابا؟ وين سيارته؟ هو حتى اذا سافر بيترك السيارة قدام البيت"، "ليش ماما بتروح كل يوم من الصبح للمسا وما بتاخدني عالروضة؟".

يوماً بعد يومٍ كانت الضغوط تزداد حول لارا، الضغوط المادية، وكذلك الضغوط الاجتماعية. عشرات الاتصالات كانت تصل خلال الأسبوع من أهلها وأقاربها في اللاذقية: "ليش قاعدة بالشام لحالك؟ تعى اللاذقية أحسن إلك ولبنتك.. ما بتخافي تضلي مرة (إمرأة) لحالك بهالظروف؟ رجعي لعند أهلك". لكنها لم تكن تصغي لكل تلك الكلمات كل ما كان يشغلها فكرة أن يخرج زوجها ويجدها وابنته في انتظاره في البيت.

(منحوتة للفنانة علا الشيخ حيدر. والمنحوتة صمّمت خصيصا لهذه اللوحة)

يذكر جميع السوريين/ات كما لارا تلك الأيام المثلجة التي لطالما انتظروها حين أعلن عن نجاح المفاوضات بشأن قضية تبادل الأسرى الإيرانيين لدى الجيش الحر بالمعتقلين السوريين لدى النظام، 2136 معتقل سوري مقابل 48 أسير إيراني. لارا التي مضى على اعتقال زوجها ما يقارب السنة والنصف شعرت أنّ فرصته بالخروج كبيرة ولا بد أن يكون أحد أولئك الألفين. لمدة ثلاثة أيامٍ واظبت على الحضور أمام المقر من الصباح حتى المساء برفقة آلاف الأشخاص الذين ينتظرون أحباءهم أيضاً. تلك العجوز التي همست في أذنها "موهاد باص المعتقلين" كانت تنتظر ثلاثةً من أبنائها دون أن تعرف حتى، إن كانوا مازالوا أحياءً أم لا، ويبدو أنها اعتادت الانتظار.

في اليوم الأول خرج المئات من السوريين معظمهم شبه عراة وحفاة في ذلك اليوم الثلجي، بعض باعة الملابس المستعملة القريبين من المقر تجمهروا حاملين أكياساً من الملابس، والأحذية، بدؤوا يقدموها للخارجين ليكسوا بها أنفسهم ريثما يصلون بيوتهم. مرّت الأيام الثلاثة، وخرجت الدفعة الأخيرة ولم يكن واحداً منهم. من جديد عادت لارا لرحلة البحث المستمرة منذ عدة أشهر قبل أن تتلقى صدمتها الجديدة.

الصدمة..

كانت إجازتها الثانية قد قاربت على الانتهاء وعليها أن تقوم بتجديدها، أو سيتم فصلها بشكلٍ نهائي. وصلت إلى المؤسسة لتقوم بتقديم أوراق التجديد، وهناك كما العادة بدأت تتلقى الأسئلة: "شو صار؟ انشالله عرفتي شي؟.. شفتي محامي؟.. معقول ما بتعرفي شي حدا طايل تحكي معه!"... إلى آخره من الأسئلة المتكرّرة من جميع الناس. لكن إحدى الموظفات اقترحت عليها اسماً بدا مألوفاً لديها، بحثت في ذاكرتها حتى وجدته، نعم إنه اسم صبية ذكرها زوجها سابقاً. قالت لنفسها: "هي بتعرفه معناها أكيد رح تساعدني". لم تنتظر لارا طويلاً أخذت العنوان واتجهت إلى مكان عملها.

ـ مرحبا، حضرتك الآنسة نوال؟

ـ إي مدام تفضلي كيف بقدر ساعدك؟

ـ أنا زوجي معتقل من سنتين تقريباً، وبعتقد إنك بتعرفيه منيح، وفي أشخاص قالولي إنك بتقدري تساعديني.

ـ  اي تفضلي ارتاحي وعطيني التفاصيل حتى أعرف اذا بقدر ساعد أولا.

جلست لارا وبدأت تروي ما حصل بالتفصيل، ثم كتبت اسم زوجها وتفاصيله الكاملة على ورقة وقدمتها لنوال. سرعان ما لاحظت لارا الدهشة الكبيرة في عيني نوال، حاولت الاستفسار لكن نوال ردت على السؤال بسؤال:

ـ عفوا مدام، بس حضرتك مرته أو طليقته؟

ـ لا مرته طبعا

ـ عندك صبي؟

ـ لا عندي بنت، خير آنسة نوال، شو القصة؟

ـ والله يا مدام ما بعرف شو بدي قلك، بس أنا فعلاً بعرفه لزوجك منيح بس بعرف إنو عنده صبي وحيد، ومطلق مرته.

أخبرت لارا نوال بأنّ زوجها كان متزوجاً في السابق من امرأة أخرى ولديه صبيٌ وحيدٌ، ولكنه طلّق زوجته قبل زواجه منها. في حين أكدت نوال بأنه لم يخبرها أنه تزوج مرةً أخرى، أو أنّ لديه ابنة، وإنما قال إنه منفصلٌ عن زوجته منذ زمنٍ طويلٍ، وليس لديه سوى طفلٍ واحدٍ. ثم روت لها بأنها اتصلت به مرةً، وظل هاتفه يرن طويلاً حتى أجابت امرأة وأخبرتها أنّه في الحمام، وعندما سألته في اليوم التالي قال بأنها كانت المربية. تذكرت لارا تلك الحادثة تماما لأنهما تشاجرا في ذلك اليوم بعد أن علم بأنها أجابت على هاتفه الشخصي بينما كان يستحم. بابتسامة المذهول قالت لارا: "هي المربية هي أنا، أنا يلي رديت عليك".

شعرت نوال بالحرج وبدأت تروي للارا كيف تعرّفت على زوجها، وبماذا أخبرها، وكيف عرض عليها الزواج لاحقاً. ثم بدأت تعتذر، وتلوم نفسها لأنها صدقته، ولم تحاول التأكد مما قاله لها. كما أخبرتها أنّ عرض الزواج جاء قبل فترةٍ قصيرةٍ من اعتقاله ولم تكن قد اتخذت قرارها النهائي بعد، وأنّها حاولت البحث عنه بالفعل لكن المعلومات التي وصلتها تقول بأن التهم الموجهة إليه خطيرةٌ.

عادت لارا إلى البيت كمن صحا فجأة من سكرةٍ كبيرةٍ، بدأت سنوات زواجها الست تمر أمامها كصورٍ غريبةٍ، هل يعقل أنّ كل ذلك كان كذبةً؟ حياتهما كذبة، حبهما كذبة، ابنتهما كذبة. هل كانت عمياء طوال تلك الفترة أم أنها اختارت أن تكون عمياء؟ لقد تخلت عن كل شيء من أجله، بعد أن كانت الصبية اليافعة الحالمة المستقلة في حياتها أصبحت في بيته زوجةً نمطيةً مستعدةً لتحمل كل شيء باسم الحب.

بدأت تشك في كل ما كان يقوله ويفعله. جمعت كافة أوراقه الرسمية التي في البيت وكذلك فعلت مع أوراق المكتب واتصلت بمحامٍ صديق لتستشيره. قراءة المحامي القانونية للأوراق كانت تختلف تماماً عن معلومات لارا، فمعظم ما أخبرها به زوجها لم يكن حقيقياً بالفعل، وأهمه زواجه الأول الذي كان لا يزال مستمراً دون علمها. تحوّل خط رحلة لارا من البحث عنه للبحث حوله، وعلى الرغم من أنّ جميع الطرق كانت مظلمةً وقاسيةً، إلا أنّ الخوض بها كان ضرورياً لمعرفة الحقيقة.

وأخيرا أسدلت لارا الستارة عن قصةٍ كانت مستعدةً أن تتحمل كل مآسيها كي تثبت لنفسها أولاً، وللمجتمع ثانياً بأنها لم تسئ الاختيار، وأنّ جميع تنازلاتها كانت بدافع الحب، لكن تضحيتها تلك لم تكن تجدي نفعاً، بل كانت تزيد من غطرسة وتجبّر زوجها. ويبدو أنّ الجميع كان مدركاً لحقيقة الأمر إلا هي.

ماما لا تخافي أنا معك.. الأمل

صحت لارا من كابوسها المظلم على يدين صغيرتين تجاهدان كي تعانقانها وكلماتٍ ممزوجةٍ بنغماتٍ طفوليةٍ:

ـ "ماما لا تخافي أنا معك".

كيف لهذه الطفلة الصغيرة أن تدرك حالة أمها؟ هل هي كما الآخرين أيضا كانت ترى ما لم تستطع عينا أمها رؤيته أم أنّها التقطت حزن أمها بحساسيتها الطفولية. المهم في كلام الطفلة أنّه كان طوق النجاة الذي تمسّكت به لارا كي تخرج من دوامة الألم والحيرة والحزن. حزمت حقائبها ومضت مع طفلتها إلى اللاذقية، خلال الرحلة استعادت ذكريات السنوات الست مع فرق بسيط، وهو أنّها اليوم كانت تجلس مع جمهور المشاهدين خارج المشهد.

بدأت لارا بتأسيس حياةٍ جديدةٍ مع ابنتها، وتمكنت من نقل وظيفتها إلى مكانٍ قريبٍ من سكنها الجديد، ولكن عليها الآن أن تبدأ رحلةً جديدةً في المحاكم الشرعية كي تحصل على الطلاق وحضانة الطفلة، تلك الرحلة التي قد تسرق المزيد من سنوات شبابها دون أن تمنحها الأمان، فحتى القانون يقف مسانداً للرجل صاحب السلطة المطلقة.

(الصورة الرئيسية: لوحة للفنان عبد الحميد سليمان. نشرت على الفيسبوك بتاريخ 23 أيار 2012، واللوحة تنشر بموجب سياسة الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد