هكذا وثقت المظاهرة داخل المعتقل


بسام وليد، أحد النشطاء الذي عاصر أحداث الثورة في مدينة بانياس لحظة بلحظة، منذ أول مظاهرة وحتى نهايات الحراك المدني فيها. في هذه الشهادة المفعمة بالأمل يروي الناشط تفاصيل الثورة، ويتحدث عن أحداث عايشها في الشارع والمعتقل، وعن نشاطات شارك فيها، ليضعنا داخل الحكاية، حكاية مدينة صرخت حرية لتضيء لنا الدرب الطويل.

20 تشرين الأول 2016

بسام وليد

ناشط مدني من مدينة بانياس، الاسم مستعار.

منذ أن كنت في الإعدادية اًصبحت من عشاق السياسة والتحليل السياسي، حيث كنت أنتظر برنامج "الاتجاه المعاكس" وحصاد اليوم اللذان يبثان على قناة الجزيرة كي أرى ما يدور حولنا من أحداث، وأتأثر كثيراً بأخبار فلسطين وأحوال الناس في العراق، ولم يكن لدي نضوج سياسي كاف لأحلّل الصحيح من الخاطئ، كنت أرى بشار الأسد رجلاً شهماً، واقفاً في وجه إسرائيل، وكنت أتبنى أفكاره القومية، وكنت أشعر بالخوف عليه عندما كان "توني بلير" وأمريكا يخططان لضربة عسكرية على سورية عقب غزو العراق.

صدمة المعرفة

عندما أصبحت في الصف العاشر تعرّفت على علي (اسم مستعار)، وهو رجل كبير في العمر، عاصر أحداث الثمانينيات واطلع جيداً على خبايا هذا النظام، وبدأ رويداً رويداً يفهمني حقيقة عدّة أمور، أهمها أنّ الجولان إبان حرب تشرين في 1973 تم بيعها إلى إسرائيل، وأنّ النظام السياسي متواطئ مع إسرائيل وما إلى هنالك من معلومات جديدة عليّ، أحسست بالصدمة آنذاك، إلا أنّ الصدمة بدأت تتلاشى عندي مع المعلومات التي كان يلّقنني إياها علي، لأنني تابعت البحث والاستقصاء عن تلك المعلومات.

أكثر ما كان يشعرني بالغضب حينها (بين عامي 2007 و2009) عندما أرى مظاهرات في اليمن تنديدابالغلاء أو مظاهرات في مصر تنديداً برفع أسعار المحروقات. كنت أخاطب نفسي حينها: أليس عندنا غلاء وفساد؟ لماذا لا يحدث عندنا مثل تلك التحركات أو التنديدات؟ لم أكن أدرك المعنى الحقيقي لخطورة وبطش الأجهزة الأمنية التابعة لهذا النظام حينذاك، إلى أن أصبحت في الثالث ثانوي وجاءنا مدير المدرسة بقرار خطير.

الاصطدام الأول مع الأمن

 التعليم في المدارس الحكومية في مدينتي بانياس مختلط بين ذكور وإناث، ومن المعلوم أنّ قسماً من مدينة بانياس محافظ، ما يعني أنّ معظم فتيات الثانوي في هذا الجزء من المدينة ترتدي المانطو (الجلباب الطويل) فوق الزي المدرسي، وذلك بسبب أنّ المدارس مختلطة.

في شباط 2009، وقف المدير على منصة المدرسة، مخاطباً عموم الطلاب أنّ هناك قرارات وصلته من وزارة التربية بدمشق تقضي بمنع الفتيات من ارتداء أي لباس غير اللباس المدرسي النظامي. لم يهتم الطلاب بالأمر لولا إصرار المدير على أنّ هذه التعليمات قد وصلت من العاصمة وليس من مركز المحافظة، فاقترحت عليه بعض الطالبات أن يرتدين الزي المدرسي تحت المانطو، واقترح البعض الآخر أن يلبسن مانطو طويل بلون الزي المدرسي، إلا أنّ جميع المحاولات باءت بالفشل تحت إصرار المدير على القرار، وأنّه عبد مأمور عليه التنفيذ.

أحسست أنّ الموضوع مسّني شخصياً، وزاد هذا الإحساس عندي انطلاق صيحات في محيطي وعبارات من أصدقائي أن هاتي الفتيات أخواتنا وعرضنا، ويجب أن نكون حريصين على مستقبلهم لأنّ معظم أهالي هؤلاء الطلبة يفضلون أن تجلس بنتهم في بيتها على أن تخرج بلباس لم تعتد الفتاة على لبسه، كونه (حسب اعتقادهم) مخالف لتعاليم الشريعة الإسلامية.

قرّرنا حينها أن نقوم بشيء ما، ولكن كنّا محتارين، إلى أن جاءنا بعض الشباب من ذوي الفتيات اللواتي يلبسن المانطو، واقترح علينا أنّه إذا أصرّ المدير في اليوم التالي على منع الفتيات (لأنه أعطى إنذارا أخيراً، سيبدأ بفصل الفتيات المخالفات بعده) سنبقى معهم خارجاً، ولن ندخل للصفوف ما لم يدخلن.

جاء اليوم الموعود، وتفاجأنا حينها بعبارات مكتوبة على جدران المدرسة يقوم الأمن السياسي بطمسها، عبارات تنادي بالغيرة الإسلامية، وأين فرسان الإسلام وما إلى هنالك؟ لم نكترث للموضوع، مصرّين على تنفيذ ما خطّطنا له. عند تجمعنا في ساحة المدرسة أعطى المدير إيعاز بدخول الطلاب إلى الصف باستثناء المخالفات باللباس حتى يبتّ بأمرهن لاحقاً.

معظم الطلاب ممن اتفقنا على الحراك معهم ضعفوا ودخلوا إلى الصفوف بعد ما رأوا الأمن السياسي والعبارات المكتوبة. بقيت أنا وخمسة طلاب من الشباب وحوالي 50 فتاة معظمهم يرتدين المانطو. توّجه المدير إلي مباشرة، وسألني: يا فلان لماذا لم تدخل؟

عندما سمعني أقول له: "لن أدخل ما لم تدخل الفتيات قبلي"، تحوّل إلى ذئب بشري، وبدأ بالصراخ في وجهي: "أنت إنسان سيء، وأنت تتسبّب بمشاكل أنت بغنى عنها، سأنقلك إلى مدرسة بعيدة جداً عقابا لك".

 أحسست بخوف في داخلي سرعان ما تبدّد واختفى عندما رأيت جموع الأهالي من ذوي الطالبات يتدفقون إلى المدرسة، وبدؤوا التحدّث مع المدير الذي دخل معهم إلى الإدارة، وبقينا مع الفتيات خارجاً، وهنا انتقلنا إلى المرحلة الثانية.

الهدف العام من الحراك كان أن نحدث ضجة يأتي على إثرها مدير التربية إلى مدرستنا ونطالبه بفصل الاختلاط في مدارسنا. استمرّ الاجتماع ساعتين، ونحن في الخارج وأعدادنا تزداد من طلاب أتوا متأخرين إلى المدرسة، وآخرين نزلوا من الصفوف بعد صياحنا لهم من ساحة المدرسة. بعد ساعتين خرج مدير التربية بسبب ملاسنة مع الأهالي، وأصرّ على قراره وبقي المدير في المدرسة وحيداً.

قلنا له بصوت واحد: هل ستسمح للفتيات بالدخول أم لا؟ أجاب: لا.  عندها نادينا على عموم الطلاب للتجمّع أمام المدرسة، وبعضهم صعد إلى سطح المدرسة، وبدأت الهتافات: "برا برا برا، عدوية (اسم المدير) طلاع برا" و"يسقط عدوية يسقط عدوية"، وضد مدير التربية، وساد جو من العصيان في المدرسة مع تواجد سيارتين تابعتين للأمن السياسي اللذين اكتفوا بالمراقبة فقط.

في ذلك اليوم أحسست بإنجاز عظيم، وأحسست أنّ بإمكاننا أن نصنع الفارق حيث أنّ المدير تغاضى عن الفتيات في اليوم التالي.

لكن ما قطع فرحتنا هو قدوم أربع عناصر من الأفرع الأمنية الشهيرة (الأمن العسكري، السياسي، أمن الدولة، الجوية)، حيث تمّ طلبي شخصياً من مدير المدرسة، وحقّقوا معي في الإدارة، وأخذوا معلوماتي الشخصية، وكأنّني قد قتلت قتيلاً. بعد ذهابهم اكتفى المدير بفصلي 3 أيام مع وقف التنفيذ، لأدرك مذاك أنّ سطوة الأمن في بلدي تطال كل شيء.

صرخة الحرية الأولى

كنت أراقب ثورات الربيع العربي في كلّ من مصر وليبيا، ولم يكن في خاطري أنّ هناك ثورة ستنطلق في سورية، وسوف تعمّ المظاهرات السلمية عموم المدينة، إلى أن جاء يوم الجمعة 11 آذار 2011 قبل انطلاق الثورة بأسبوع تماما.

 في مسجد الرحمن، وبعد انتهاء خطبة الشيخ أنس عيروط التي كانت حماسية كالمعتاد، بدأ يتحدّث عن فواتير الكهرباء الغالية الثمن، وعن تسريح بعض المعلّمات المنقبات من وظائفهن في مدارس المدينة، الأمر الذي بثّ الحماس في قلبي، وبتّ أشعر أنّ صوت الحق بدأ يستيقظ. قال بعض الناس ممن يعتبرون من أزلام النظام في هذا الحي (رأس النبع في بانياس)، أنّه سيقوم بعدة اتصالات مع جهات مسؤولة، وأنّه سيحاول حلّ الأمور في أقرب وقت ممكن، لكن غضب الناس لم يخمد، وبات ذلك واضحاً في وجوه الناس اللذين رأيتهم في المسجد آنذاك.

 سمعنا بمظاهرة 15 آذار في سوق الحميدية بدمشق، الأمر الذي زاد حماسنا، وما إن أتت الجمعة التالية (18 آذار 2011) حتى بدأت الناس بالتجمّع بعد الصلاة أمام المسجد، ليعتلي بعدها أحد نوافذ المسجد الشاب أنس الشغري (معتقل منذ الرابع عشر من مايو 2011) وبدأ بالهتاف "حرية حرية، الله أكبر"، وبعد التجمع الكبير للناس انطلقت أول مظاهرة مطالبة بالحرية باتجاه منطقة الدوار وسط المدينة، وكنت متحمساً جداً، وموجوداً في الصف الأوّل للمظاهرة التي كاد أن ينزع صفوها بعض المندفعين اللذين حاولوا الاعتداء على سيارة للشرطة كانت أمام مقر بلدية بانياس حيث مررنا من أمامه.

الناس كانت في حماس وحيرة، وأنا كذلك، انطلقنا نحو شعبة أمن الدولة وسط المدينة، واعتلى الشيخ أنس منصة موجودة في شعبة الفرع، وبدأ يهدّئ الناس، ثم تلا عدّة مطالب أهمها:

(1): إطلاق سراح المعتقل أحمد حذيفة، حيث اعتقل في دمشق دون سبب.

(2): إعادة المعلمات المسرحات من أعمالهن إلى المدارس.

(3): إعادة النظر في فواتير الكهرباء.

(4): فصل الاختلاط في مدارس المدينة.

وأمهل الشيخ آنذاك السلطات أسبوعاً لتنفيذ تلك الرغبات، وإلا فإن المظاهرات ستستمر، وكان أجمل هتاف سمعته وردّدته من كل قلبي آنذاك هو "سنية وعلوية، نحنا بدنا الحرية".

أحداث البيضا

كنت حريصاً على التواجد في كلّ المظاهرات، وخاصة الليلية منها، أردّد وأهتف وأتضامن مع المحافظات الأخرى التي كانت تتعرّض مظاهراتها لإطلاق نار وهجوم من قبل قوات الأمن السوري إلى أن جاءت أحداث قرية البيضا في 10 نيسان 2011،

https://www.youtube.com/watch?v=wGLMX-DicHY

 وسبقها قطع للاتصالات بأنواعها، وسحب عناصر الأمن من داخل المدينة، وقيام النظام بإجراء اتصال مزدوج، الأول من أحد شبيحة النظام للأحياء السنية قال خلاله أنّ العلوية سيهجمون عليكم، والثاني للأحياء العلوية قال خلاله أنّ السنة سيهجمون عليكم، فعمّ المدينة قلق وخوف مبرّرين إلى وقت آذان الفجر) 10 نيسان 2011(، حيث اقتحمت خمس سيارات تابعة للشبيحة المدينة، وأطلقوا النار على إمام مسججد أبو بكر الصديق، أسامة الشيخة إمام مسجد أبو بكر الصديق، وتبيّن فيما بعد أنّ من بين من كان بداخل هذه السيارات المدعو ماهر شمالي وشخص اسمه علي زهرة، وهم من شبيحة حي القصور، حيث تمكن مجموعة من الشبان من المدينة بمطاردة هذه السيارات إلى أن وصلوا الى الطريق الدولي قرب جسر القوز، وتعطلت إحدى سيارات الشبيحة ما اضطر سائقها ومن معه إلى النزول إلى سيارة أخرى ولاذوا بالفرار، فما كان من الشبان اللذين طاردوهم إلا أن أحرقوا السيارة واقتادوها إلى مركز المدينة، وأحرقوها وكتبوا عليها هذه بانياس وليست إسرائيل، وباتت صورة تلك السيارة أحد رموز الثورة في بانياس، وهذه السيارة من نوع مارسيدس تعود ملكيتها لعلي زهرة بعد تقصي المعلومات عنها.

كنت أشعر بالخوف الممزوج بالحماس، وأحسّست أنّ الأمور تسير لصالح ثورتنا، فمعظم المدن بدأت تخرج مظاهرات مطالبة بفك الحصار عن بانياس وإعادة الاتصالات والكهرباء إليها.

في يوم 14 نيسان 2011 في تمام الثانية عشر و7 دقائق بدأ إطلاق النار الكثيف ومن أسلحة متوسطة. حينها اعتقدت أنّ الحرب قد بدأت حيث أنّنا لم نعتد على مثل هذه الأصوات، كما أنّ من حمل السلاح من أهل المدينة عقب الانتهاكات التي حدثت من قبل شبيحة النظام كان قليلاً، إذ لم يعد الأهالي يثقون بهذا النظام أنّه سيحميهم، حيث حمل بعضهم أسلحة صيد وأسلحة خفيفة من أجل الحماية ضد اختراقات أخرى. لذلك عندما سمعت طلقات الرصاص ذاك الصباح، أيقنت تماماً أنّ هناك إطلاق من طرف واحد. نزلت إلى الحي تحت صرخات والدتي التي حاولت منعي من النزول إلا أنّني أبيت إلا النزول. عندها بدأت المساجد بالتكبير، وبدأت أسمع إشاعات من الناس، بعضهم يقول أنّ الشبيحة ستقتحم المدينة، والآخر يقول أنّه هناك حالات قنص للأهالي من حي القوز الشمالي المؤيد للنظام، إلى أن بدأت المساجد تدعو الأطباء والممرضين للتوّجه إلى مستشفى جمعية البر حالاً لمساعدة الأطباء في إسعاف الجرحى، علماً أنّ مستشفى جمعية البر يطلّ على الطريق الدولي الذي تصدر منه أصوات الرصاص والاشتباكات.

أنا أدرس معهد تمريض باختصاص طب طوارئ في جامعة تشرين، لذلك عندما سمعت استغاثات المساجد أردت الذهاب، ولكن ما جعلني أتردّد هو أنّ والدتي قد لا تسمح بذلك. قاطع سلسلة تفكيري والدي الذي رأيته على دراجته النارية في الحي يقول لي: "أنت ممرّض، اركب خلفي كي أوصلك للمستشفى". لم أتردّد إطلاقاً في الركوب، وتوجهت معه إلى المستشفى، وفي طريقنا رأيت الهلع الممزوج بالحماس بين الأهالي، وهم ينتظرون الأخبار المفرحة من المعركة التي لم أستطع أن أعرف عنها شيء حتى وصولي إلى المستشفى.

في المستشفى

رأيت أمامي حوالي 20 إصابة بين بليغة ومتوسطة و4 شهداء. عند وصولي إلى المستشفى بدأت معالم المعركة تتضح أمامي من روايات شهود عيان، ومن رواية عسكري مصاب تمّ إسعافه إلى المستشفى والرواية كالتالي:

أنّ الضابط في شعبة الأمن السياسي "ع. ش"، وبالتنسيق مع قائد الفرقة الساحلية التي مقرّها كورنيش بانياس أخبروا هؤلاء العساكر أنّ هناك إسرائيليين في بانياس عليكم القضاء عليهم. وقاموا بنقلهم إلى منطقة الطريق الدولي في المنطقة، بين جسر القوز وجسر رأس النبع، وبعد وضعهم في تلك المنطقة وإعطائهم الأمر بالانتشار، بدأ ضباط من الأمن بإطلاق النار عليهم من خلفهم حسب رواية العسكري، وحسب مكان إصابته، حيث أصيب برصاصتين في منطقة الظهر، وشبان المدينة اكتفوا بالانبطاح في منطقة جسر رأس النبع مراقبين ما يحدث.

استمرت المعركة آنذاك 6 ساعات متواصلة، ونحن نقوم بالإسعاف والتمريض، ولكن أكثر إصابة أثرت بي تلك التي وقعت أمامي، حيث أنّ المستشفى على الطريق الدولي تماماً، ومكشوفة على منطقة القوز المؤيدة، وكنّا نسمع عن قناص متمركز هناك، لكنّنا لم نعط الأمر أهمية إلى أن أصيب شخص على باب شعبة الإسعاف بشظايا طلقة قناص أصابته أمام المستشفى، ما دفع أحدهم لوضع شاحنته الكبيرة أمام المستشفى منعاً لوصول رصاص القناص إلينا.

وبعد انتهاء اليوم ومداواتنا للجرحى قرّرت البقاء في المستشفى خوفاً من طارئ جديد، لكن خباثة هذا النظام لم تقف هنا، وتمكن بسبب دهائه وحنكته من جرّ المدينة إلى المستنقع الذي يريده كي يكون لديه حجة لاقتحام المدينة.

عقب هذه المعمعة والمعركة الطويلة بقي شبان المدينة مستنفرون في عمومها، خوفاً من اقتحام أو تهديد، دون أي تنظيم أو غرفة عمليات أو أي شيء، كل ما كان هناك هو سلاح خفيف للدفاع عن النفس وعن الأهل ضد غدر النظام.

في صباح اليوم التالي نزلت إلى منزلي كي آخذ قسطاً من الراحة، وعادت المدينة إلى ما كانت عليه من إغلاق وحصار واستعصاء ومظاهرات شبه يومية، ومطالب محقة وبثّ مباشر ومراسلة للقنوات. وبعد عدّة أيّام اتصل بي مدير المستشفى مخبراً إياني أنّه يريدني أن عمل في المستشفى بدوام مسائي من الساعة 12 إلى الساعة 7 صباحاً مقابل الراتب الفلاني. قبلت هذا الأمر، وبدأت أناوب مساءاً في المستشفى، وأتعلّم من خلال التطبيق العملي لما درسته في الجامعة، وكي أساهم في شيء فعال في الثورة.

عشت أحد المواقف هناك ما جعلني أشعر بخيبة ظن، فعقب تجهيز المستشفى الميداني في مكان سرّي من قبل عدة أطباء في المستشفى، بقي عليهم إنزال الجهاز الاحتياطي للتخدير من المشفى العادي إلى المشفى الميداني. عندها علم مدير المستشفى بموضوع المستشفى الميداني، وبحجّة أنّ أحداً لم يخبره بذلك، أجبر الأطباء والعاملين بإعادة التجهيزات من المشفى الميداني وإلغاء المشروع تماماً. ولم يكتف بذلك أيضاً، فلم يقم بتجهيز المستشفى بأيّ تجهيزات للإسعاف ولا حتى أكياس دم، مما تسبّب بموت 3 شبان فيما بعد، كان من الممكن إنقاذهم لو كان هنالك كيس دم واحد.

بقيت على ذلك الحال عدّة أيام حتى التاريخ المشؤوم الذي تم اعتقالي فيه.

الاقتحام الثاني لبانياس والسيطرة عليها

أصدر رئيس النظام عفوا عاما عن الأحداث في المدينة بتاريخ 15 نيسان 2011إذ تمّت قراءة نص العفو من على مآذن المساجد، وأنّ هذا العفو مقابل دخول وحدات من الجيش إلى المدينة.

رحب الأهالي بالقرار لأنهم كانوا يرون بالجيش "منقذا" لهم، ولم يعتقدوا ولو لبرهة، أنّه أداة بيد النظام. في صباح اليوم التالي (16 نيسان 2011) دخلت وحدات من الجيش إلى المدينة وسط هتافات وترحيب من الأهالي، وقام بنصب عدّة حواجز دون مضايقة أو مساءلة للأهالي.

بقيت الأمور على ما هي عليه حتى تاريخ الرابع من أيار 2011 الساعة 12 ونصف بعد منتصف الليل، حيث كنت في المستشفى كالعادة في دوامي، حين وصلنا خبر إلى المستشفى مفاده أنّ النظام قام بسحب قطعاته العسكرية من داخل المدينة، ولم يبق عسكري واحد في بانياس. أدركت حينها أنّ اقتحاماً كبيراً سيحدث، ومع آذان فجر 5 أيار، بدأ إطلاق النار الكثيف واقتحام المدينة من عدّة محاور، أوّلها محور قرية المرقب شرق بانياس من القطعة العسكرية في منطقة ظهر صفرة، حيث تمّ قتل 5 نسوة من قرية المرقب في حادثة هي الأولى من نوعها. وصلت تلك النسوة إلى المستشفى وهنّ في أنفاسهن الأخيرة، ليستشهدن في المستشفى.

بدأت المساجد بالتكبير وإطلاق الرصاص، والإصابات بالجملة كانت تأتي إلى المستشفى، ولكن الإمكانيات ضعيفة ولا يوجد أكياس دم لإسعاف الجرحى.

دخل المدينة حينها حسب بعض الروايات حوالي أربعين ألف عسكري إلا أنّ الرقم الحقيقي حوالي عشرين ألف عسكري تقريبا، والتهويل أتى من رعب الأهالي من منظر الاقتحام ومن كثرة المحاور وعدم الخبرة بالحروب، بالنسبة لمدينة تعداد الثائرين منها 25 ألف تقريباً.

 كان القرار حكيماً من شبان المدينة ألّا يقاوموا الجي،ش لأنّهم لو قاوموه لارتكب مجازر بحق المدنيين. استمر إطلاق الرصاص حتى الساعة التاسعة صباحاً، حيث بدأت الأمور تهدأ قليلا مع بدء الجيش تمشيطه لأحياء المدينة واعتقالاته التعسفية لمعظم الأهالي.

قبل أن يصل إلى المستشفى بقليل، كان هناك شبّان ممن أحضروا مصابين في الليلة الماضية لم يغادروا المستشفى بسبب الظلام الشديد، وعندما سمعوا بوصول الجيش قاموا بالهرب وأخبروني أن أهرب معهم، لكنّني أبيت الذهاب بحجّة أنّني ممرّض هنا، وأنّ بطاقتي الجامعية معي ولن يقوموا باعتقالي. بقيت في المستشفى، أنا وطبيب آخر ومجموعة ممرضات، ولدينا خمسة شهداء و خمسة وعشرين جريح. دخل الجيش وبدأ التفتيش، وعند انتهائه أخبرني الضابط أن أذهب معه رفقة الطبيب إلى الضابط المسؤول كي يرانا ويطلق سراحنا فوراً. ذهبت معه وأنا على ثقة تامة أنّه تمّ اعتقالنا، وسنذهب إلى المعتقل. انتظرنا مع مجموعة من الأهالي المعتقلين عند الضابط المسؤول، وبعدها وضعونا في سيارات زيل عسكري، واقتادونا إلى تجمّع معتقلين أكبر قرب جسر القوز.

عند وصولنا إلى جسر القوز، أتى إلينا بعض المدنيين من تلك القرية وبدؤوا يضربوننا بمراقبة الأمن والجيش ودون تدخل، وعقب هذا الضرب المبرح صعدنا إلى الباصات، وعبرنا من حي القوز الذي بدأ يرش الباصات بالأرز والزغاريد، وكأنّنا إسرائيليين تمّ القبض علينا، وسيتم تسليمنا إلى العدالة.

بعد جولة على القرى المؤيدة، أخذونا إلى الملعب البلدي في المدينة ووضعونا في صالة كبيرة، وكان هنالك أكثر من 200 معتقل وصلوا قبلنا.

في المعتقل

بعد الجولة التي استغرقت ساعتين، وربّما أكثر لأنّني شعرت أنّ الزمن توقف بعد اعتقالي، وصلنا إلى المعتقل الكبير، الملعب البلدي قيد الإنشاء في بانياس.

منذ نزولنا من الباص حتى وصولنا إلى صالة الاعتقال استقبلنا عناصر الشبيحة والجيش العربي السوري بالضرب والشتم والإهانة، والذي ميّزني أنا والطبيب الذي اعتقلوني معه، أنّنا كنا نرتدي ملابس تدل على أنّنا من السلك الطبي مما جعلهم يبررّون ضربهم المبرح لنا بأنّنا كنّا نداوي الإرهابيين.

دخلنا إلى الصالة الكبيرة، وفيها العدد الكبير من الأهالي والعساكر والمدنيين الموالين الذين يضربون المعتقلين وينتقمون منهم على مطالبتهم بالحرية وإسقاط نظام الحكم. لم يراعوا شيخاً ولا طفلاً ولا طبيباً ولا مهندساً، حتى أنّه قبيل أن أدخل إلى صالة الاعتقال قام أحد الشبيحة بتفتيش محفظة نقودي، وكان في داخلها مئتي ليرة سورية فقط. أخذها وأعاد لي المحفظة، ولم يتوقف الضرب المبرح من عصر ذلك اليوم حتى بزوغ فجر اليوم الثاني، ويا ليت شمسه لم تبزغ.

من أهم أنواع التعذيب النفسي أنّ الضباط كانوا يقولون للمعتقلين أنّه من يعطيهم معلومات عن المخربين والإرهابيين سيقومون بإطلاق سراحه فوراً، علماً أنّ الضرب بخراطيم المياه وأسلاك الكهرباء مع استمرار تطميش العينين وتكبيل اليدين إلى الخلف استمر بقوة بحيث تشعر أنّ يديك ستنقطعان لا محالة.

في اليوم التالي بدأت التصفيات وقرّروا إخراج بعض المعتقلين، ولم أكن متحمساً أبداً، وكأنّ شيئاً بداخلي يخبرني أنّني لن أخرج اليوم. وقد سمعت أنّ والدي موجود في نفس الصالة، ولكنّني لم أره، ولم أرد أن أره على هذه الحالة من الذل.

 بدؤوا يتلون بعض الأسماء، وكل اسم يقال يخرج إلى الصالة المجاورة. لم أدرك وقتها أنّ من يقولون أسماءهم هم من الذين سيبقون إلى أن سمعت بعض الأسماء التي تعتبر خطيرة على مستوى الثورة والحراك السلمي، وجاء اسمي آخر اسم في القائمة المشؤومة.

 شعرت بالحزن والفرح، الفرح أنّ أبي سيخرج الآن، ولن تبقى عائلتي وحيدة، أصبح العدد واحد وثمانين اسما، وما تبقى أطلق سراحه.

بدؤوا بتعذيبنا بشتى أنواع التعذيب حتى أنّ الضباط في المساء ينامون، ويبقى العساكر والعناصر اللذين يأمروننا تارة بالجثو على ركبنا دون حركة، وتارة يأمروننا بالتحرّك على هذه الوضعية أو تلك حتى أحسست أنّ عظام ركبتي قد تهشّمت من تلك المسابقة والركض عليها، وتارة أخرى يبدأ الضرب الجماعي دون مبرّر.

بقينا على هذه الحالة أربعة أيام بلياليها، وفي كلّ يوم التعذيب نفسه، ولم يحقّقوا معنا ولو لثانية واحدة. فقط ضرب وتعذيب إلى أن جاء صباح اليوم الخامس.

في اليوم الخامس أتى إلينا فريق من الممرضين، وأصبحوا يعاينون إصاباتنا الناتجة عن التعذيب الذي استمر أربعة أيام. كثير من المعتقلين تفاءلوا وظنّوا أنهم يسعفوننا من أجل إطلاق سراحنا، وأنا منهم أيضاً كنت أظن ذلك. بعد أن تمّ إسعافنا وتطبيبنا، تمّ فرزنا إلى مجموعتين، وكلّ مجموعة ركبت في باص مختلف ونحن مطمشي العينين، وانطلقت بنا الباصات إلى محافظة طرطوس، وكما هي العادة عند الوصول إلى كلّ معتقل استقبلنا العناصر بالضرب المبرح دون تمييز إلى أن وصلنا إلى المهاجع الصغيرة، وتبيّن لنا فيما بعد أنّنا في فرع أمن الدولة.

استمر التعذيب حتى مساء ذلك اليوم حيث بدأ التحقيق معنا، وتحت الضرب والضغط من أكثر من 5 عناصر، إضافة للمحقق، بصمت على أنّني كنت امتلك بندقية بومبكشن، وأنّني أطلقت النار على دورية للأمن مع العلم أنّني لا أعلم آلية عمل البندقيات وآلية الإطلاق إلى الآن.

تمّ وضعي في مهجع خاص أنا وأربعة آخرين، ولم يضربوننا أو يعذبوننا بعد اعترافاتنا تلك. بعد أربعة أيام من التوقيف في أمن الدولة في طرطوس تمّ وضعنا في سرفيس، وانطلق بنا إلى قيادة أمن الدولة في دمشق، أيّ الفرع 286.

بدأ برنامج التعذيب في الفرع علي وعلى أصدقائي اللذين أتوا معي من طرطوس وكان عددنا خمسة، ومع مرور الأيام فهمنا أنّ سبب تحويلنا إلى دمشق هو من أجل التوّسع بالتحقيق معنا أكثر. أحد أصدقائي لم يقاوم أبداً وهو المعتقل (عبدالقادر الزير) حيث أنّه بسبب غزارة اعترافاته تمّ تسجيل مقطع فيديو له يعترف بها بقتله عناصر جيش وإطلاق نار على دوريات وما إلى هنالك.

 لكن أكثر ما لفت انتباهي في معتقل دمشق غير أنّ المهجع كان طابقين تحت الأرض، وأنّنا لم نر الشمس طوال شهرين، هو وجود معتقل معنا لبناني الجنسية اسمه "أحمد مصطفى سليمان" من صيدا اللبنانية، شيعي المذهب ادّعى أنّه تم توقيفه بسبب تشابه أسماء، ولكن ما كان يقوم به داخل المعتقل لا يوحي أنّه تشابه أسماء، حيث أنّه كلما أتت دفعة معتقلين جديدة من مختلف محافظات سورية كان يقوم بـ "توعيتهم"، وأنّ المخطط كبير لتقسيم سورية، وأنّ حزب الله وجبهة المقاومة والممانعة مستهدفة، وما إلى هنالك، وتارة أخرى كان يتودّد للمعتقلين المساكين في محاولة منه لتشييعهم عبر السماح لهم بالصلاة، وإنّما يجب أن يكون الوضوء والصلاة وفق المذهب الجعفري، وكانت علاقته بالسجانين جيدة جداً.

بعد شهرين من الاعتقال في فرع أمن دولة دمشق، تمّ تحويلنا إلى المحكمة العسكرية بدمشق ومنها إلى سجن القابون الذي كان بمثابة نقطة ترحيل. بعد يوم واحد تمّ تحويلنا إلى "البالونة" في حمص وهي تابعة للشرطة العسكرية. وبعد أسبوع قابلنا قاضي النيابة الذي كتب الادعاء، وحوّلنا مباشرة إلى طرطوس، وقابلنا القاضي المدني هناك، وتم تسجيل اتهامين ضدي، أولهما عصيان مسلح عند القاضي العسكري، وشروع بالقتل عند القاضي المدني.

روح الثورة

في العاشر من رمضان 2011 تمّ تحويلي إلى سجن حمص المركزي حسب مذكرة التوقيف العسكرية، وهناك عشت روح الثورة الحقيقية.

وضعوني في جناح الشغب الخاص بالأحداث الجارية في سورية مع أكثر من ألف معتقل آخرين في جناح لا تدخله الشرطة إلا نادراً، لذلك كنت ترى أعلام الثورة وروح الثورة دون خوف أو حواجز. في كلّ يوم جمعة كنا نصلّي الجمعة في ساحة السجن مع خطبة وتكبير وصلاة. ومع وصول اللجنة العربية التي تمّ تخصيصها من قبل الجامعة العربية إلى السجن، حرصنا أن يكون اللقاء مميّزاً بالمظاهرات والتصوير حيث كنت أمتلك هاتف نقال اشتريته عبر أحد الضباط الفاسدين، ووثقت المظاهرة التي حصلت عند وصول اللجنة ورفعتها على اليوتيوب عبر شبكة شام.

 فيديو الهتافات من داخل السجن أمام اللجنة:

وبعد اعتقال دام إحدى عشر شهراً في حمص، تمّ إطلاق سراحي بكفالة 20 ألف ليرة سورية (2 تموز 2012). بعدها عدت إلى مدينتي بانياس، وبدأت بالبرنامج المعتاد من مظاهرات طيارة وبخ عبارات مناوئة للنظام، وبعدها أصبح عملنا منظماً أكثر، فقمنا بتشكيل كتيبة بخاخين لبخ عبارات مناوئة للنظام وتضامنية مع المدن الثائرة، وخرجنا في عدّة مظاهرات طيّارة، وكنّا نتابع صفحات الفيس بوك، ونراقب المدن الثائرة، ونحاول تقليدهم بنشاطاتنا حتى تواصلت مع "أية" وهي ناشطة من مدينة بانياس تعمل لدى لجان التنسيق المحلية حيث أخبرتنا أنّه بإمكاننا أن نعمل وفق خطة عمل لجان التنسيق، فوافقنا على ذلك، وانتسبنا رسمياً إلى لجان التنسيق المحلية.

ورغم متابعة الأمن والدوريات المكثفة إلا أنّنا كنّا ننجز مهامنا بشكل خفي، ونقوم برفعه على صفحات التواصل مع أعلى درجات التمويه، لكي لا يتمكنوا من اعتقالنا، كما شاركنا في حملة عيد الميلاد 2013 ورأس السنة 2013، إضافة إلى اللافتات الأسبوعية، وكل ذلك وسط حصار أمني مشدّد.

بقيت في العمل الثوري من داخل بانياس حتى تاريخ 24 شباط 2013، بعد أسبوع من مظاهرة منظمة قمنا بها بتاريخ 14 شباط 2013

بعد أسبوع من هذه المظاهرة اعتقل أحد المنظمين معنا، ومن الدائرة الضيقة، عندها أدركت أن لا مكان لي داخل مدينة بانياس وأن العمل أصبح خطرا جداً، فتوجهت إلى المناطق المحررة.

الصورة الرئيسية: لافتة يرفعها أحد أبناء مدينة بانياس في المناطق المحررة من يد النظام بتاريخ 27 /4/ 2017. المصدر: الصفحة الرسمية للتجمع أحرار بانياس على الفيسبوك.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد