ما رأيته في اعتصام 16 /3/ 2011؟


المحامي الخارج من الاعتقال أخبر المحامي ميشال شماس، أنه قال للمحقق: "أن المبلغ الذي كان بحوزتي من أهالي الموقوفين، وقد أعطيته للمحامي ميشال شماس من أجل دفع كفالات إخلاءات سبيلهم، وإذا أردتم التأكد من صحة كلامي روحوا اسألوه الاستاذ ميشال"، فرد عليه شماس: "ألله لا يعطيك العافية على ها الخبرية"، وبقيت (شماس) يومين بعدها خائفاً من أن يعتقلوني أنا أيضاً.

08 آب 2016

ميشال شماس

محامي سوري وناشط حقوقي في عدد من الملفات الحقوقية أبرزها: الدفاع عن المعتقلين السياسيين

رحلتي الطويلة مع معتقلي الرأي والضمير بدأت في السادس عشر من أذار عام 2011 قبل أن تلتهب الأكف وتصدح الحناجر في الشوارع  والساحات، منادية بالحرية والكرامة لجميع السوريين، فقد كنتُ في صباح ذلك اليوم على موعدٍ مع اعتصام أهالي معتقلين الرأي والضمير أمام مبنى وزارة الداخلية القريب من ساحة المرجة، حيث تجمّع العشرات من الأهالي، بناءاً على اتفاق مسبق أمام الحاجر الحديدي، مطالبين بإطلاق سراح  أقربائهم، والكف عن الاعتقال وإطلاق الحريات العامة، وأمام مشهد المعتصمين، سادت حالة من الاستنفار بين صفوف قوات الأمن المكلفة بحراسة وزارة الداخلية. ضابط يأتي وآخر يذهب، وقد توتّر الموقف بعد أن هجم الأمن على أهالي المعتصمين لأنهم رفعوا صور أقاربهم المعتقلين، وأخذوا يمزقون صور المعتقلين، وينهالون بالضرب على المعتصمات  اللواتي تراجعن إلى الخلف باتجاه ساحة المرجة،  حيث انضم إليهم عدد من المتضامنين معهن من نشطاء حقوق الانسان والمحامين، وبدأت عناصر الأمن باعتقال بعض المشاركين، وطالت حملة الاعتقالات حتى من لم يشارك في الاعتصام، فقط لمجرد تواجده في ساحة المرجة التي تحولت إلى أشبه بساحة حرب حقيقية. كر وفر بين العناصر وبعض ممن شاركوا  في الاعتصام.

كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها عناصر غريبة تضع عصبة سوداء على رأسها، وهي تصرخ بعدم تجمّع الناس في الساحة، حتى أنّ أحدهم، وهو على أكتاف زميله أخذ يصيح وينادي "يلي بيحب السيد الرئيس يخلي الساحة"،  إلا أنّ أحداً لم يمتثل لذلك الأمر، لا بل  بدأت الناس تتجمع على ارتفاع أصوات الصراخ، ومشهد اعتقال الناس، وعندها أخذ بعض عناصر الأمن بالهتاف المعروف " بالدم بالروح نفديك  يا بشار"، "وبشار قائدنا إلى الأبد" كاستفزاز صريح لكل المتواجدين في الساحة.. وطالت حملة الاعتقالات حوالي" 25" من المعتصمات والمتضامنين معهم، كان من بينهم على ما أذكر السيدة سهير الأتاسي ووالناشط كمال شيخو والمحامية سيرين خوري وناهد بدوية ومازن درويش رئيس المركز السوري لحرية الإعلام والتعبير، وأشخاص من عائلة الدكتور كمال اللبواني، وكثير من الشباب والشابات اللواتي لم أعد أتذكر أسمائهم، وكان لافتاً مشاركة الدكتور طيب تيزيني الذي تعرّض للاعتقال بطريقة عنيفة، إذ تعرّض للضرب والشحط في ساحة المرجة، كما كان لافتاً مشاركة المناضلة المعروفة "حسيبة عبد الرحمن"، وهجومها على سيارات الأمن، قائلة لهم بصوت عال: "اتركوهم أو خذوني معهم" حتى إنها صعدت إلى إحدى سيارات الأمن لكنهم أنزلوها بعنف، وحسيبة معروفة لدى الأمن، حيث قضت سنوات عديدة في السجن بتهمة الانتماء لحزب العمل الشيوعي.

 وبينما كنت مستنداً إلى عمود الكهرباء المقابل لبرادات الحافظ، شاهدت كيف أمسكوا بشعر إحدى الصبايا، فمددت يدي إلى موبايلي حتى أصور  المشهد، إلا أنني فوجئت بيد تضغط على يدي، والتفت مذعوراً فكان عنصر أمن أعرفه، ناشدني بأن لا أصوّر، وأن أغادر المكان فوراً، لأن هناك قرار باعتقال كل من شارك، ومن دعم الاعتصام وقام بتقبيلي ورجاني أن أغادر فوراً، وفي هذه اللحظة سمعت شخص يقف قريباً مني،  يقول لشخص  بقربه: أذهب وأبحث عن المحامي خليل معتوق وضعه في السيارة، فسألت عنصر الأمن من هذا؟ أجاب: "هذا اللواء نصر"، عندها قلت لعنصر الأمن: "يجب أن أتصل فوراً "بخليل" لكي أحذره؟" فأجابني: "لا تفعل ذلك، أنا سأذهب بنفسي وأحذره. شكرته على ذك، ولم أغادر الساحة حتى اطمأنيت  على سلامة الاستاذ خليل معتوق المعتقل الآن منذ 2/10/2012.

وقد بلغت حصيلة الاعتقالات في ذلك اليوم أكثر من ستة وثلاثين معتقلاً  بين امرأة  وشابة وشاب. وبعد يومين تمت إحالة حوالي 35 منهم إلى المحام العام بدمشق بينما أفرج عن الباقين من قسم الشرطة، وتطوّعت مع عدد من الزملاء في مقدمهم لأستاذي المحامي خليل معتوق، والمحامية رزان زيتونة والمحاميان ناظم حمادة ومحمد خليل.

ومن الطريف أنّ من بين المعتقلين أشخاص ليس لهم علاقة بالاعتصام، لكن صودف مرورهم  أثناء الاعتصام، ولفت نظري طفل كان من بين المعتقلين، حيث حضرت معه جلسة التحقيق وعندما سأله القاضي لماذا شاركت بالاعتصام؟  فكان جوابه: "أنه أتى إلى ساحة المرجة  "لشراء سندويشة" كونه يعمل في إحدى المحلات القريبة  في شارع النصر.  والنهفة كانت مع شاب اعتقل أثر لقاء سريع مع قناة الدنيا التي كانت متواجدة في ساحة المرجة، حيث سألته المذيعة عن رأيه بما يجري، وماذا يفعل في الساحة فقال لها :"أني أتيت لشراء دينمو كهربائي، وليس لي اهتمامات سياسية"، وشاب أخر أكد للقاضي أنه اعتقل بعد لقائه بقناة الدنيا، وشرح للقاضي أنه بعثي وملتزم بسياسة الدولة والرئيس ..  لكن القاضي لم يقتنع بذلك، فقرر توقيف الشابين بينما أطلق سراح الطفل. وأما اللذين شاركوا بالاعتصام، فأكدوا للقاضي أنهم اعتصموا من أجل إطلاق سراح أقربائهم .. فقرّر القاضي إصدار مذكرة توقيف بحق 34 موقوفاً بتهمة إثارة الشغب والتحريض على القيادة السياسية و..و...

وبدأت معركة إطلاق سراح الموقوفين بينما كانت حركة الاحتجاجات ضد النظام  تتصاعد  في الشارع، وبعد حوالي أسبوع قرر القاضي إطلاق سراح 17 موقوفاً دفعة واحدة  بكفالة مالية وقدرها خمسة آلاف ليرة سورية  لكل موقوف، أي ما يعادل حينها مائة دولار. ووقعنا في ورطة تأمين  مبلغ 85000 ل.س  وبدأنا الاتصالات، وللحقيقة فإن عدداً من المحامين المحسوبين على النظام  تبرعوا بنصف المبلغ،  بينما جلست أنا والاستاذ خليل معتوق في قهوة " الديرية"  خلف القصر العدلي  ننتظر وصول بقية المبلغ، ولم ندرك أنّ عناصر الأمن تراقبنا، فلم تمض ساحة حتى تجمّع لدينا مبلغ خمسون ألف ليرة سورية، أعطاني إياهم أحد زملائي (أتحفظ على ذكر اسمه)، وذهبت فوراً ودفعت الكفالات.

كانت الساعة الثانية بعد الظهر، واتصل بي زميلي قائلاً: أنا سوف أعود بعد نصف ساعة،  لا تخرج من القصر قبل أن أعود، ومضت نصف ساعة ولم يأت الزميل،  وحاولت الاتصال به إلا أن جواله مغلق، فاتصلت بالأستاذ خليل وأخبرته بالأمر، فقال يبدو أنه اعتقل، وفعلاً وبعد ثمانية أيام، أفرج عنه من قبل أمن الدولة، وأخبرنا أنه اعتقل بعد خروجه من القصر العدلي،  وتركز التحقيق معه على المبالغ المالية التي كنّا نعدّها في قهوة "الديرية " واتهموه بأنه كان يوّزع  مبلغ ألفين ليرة سورية للمشاركة بالتظاهرات ضد النظام، إلا أنه نفى ذلك، مؤكداً لهم أن: "أن المبلغ الذي كان بحوزتي من أهالي الموقوفين، وقد أعطيته للمحامي ميشال شماس من أجل دفع كفالات إخلاءات سبيلهم، وإذا أردتم التأكد من صحة كلامي روحوا اسألوه الاستاذ ميشال"، فقلت له: "ألله لا يعطيك العافية على ها الخبرية"، وبقيت يومين بعدها خائفاً من أن يعتقلوني أنا أيضاً.

وبعد حوالي أربعين يوماً، تم إطلاق سراح  كمال شيخو والسيدة سهير الأتاسي، وأغلق ملف معتقلي وزارة الداخلية  ليفتح الباب على مصراعيه أمام اعتقال آلاف المعتقلين من مختلف أنحاء سوريا.

(الصورة الرئيسية: لوحة توضح وضع المعتقلين السوريين في السجون السورية. المصدر: صفحة صوت المعتقلين على الفيسبوك)

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد