علمٌ ولُغة، وأزماتٌ أُخرى قادمة (11)


يظهر أن مسائل العلم واللغة والعملة وغيرها ستكون أموراً لاحقةَ القرار، وتقريرها سيكون أمراً مرتبطاً بصورة البلاد المستقبلية ومعالمها. شكل سوريا المستقبلية هو ما سيحدد بقية التفاصيل، ومن غير حسم موضوع مستقبل البلاد ومستقبل الشعب السوري، ستبقى بقية التفاصيل مجرّد أوراقٍ مؤجلة الحسم. وحين يتم الاتفاق على المسائل العالقة اليوم، لن يكون الاتفاق على بقية المسائل أمراً عصيّاً على مختلف الأطراف في سوريا.

05 آب 2016

غيث الحلاق

(كاتب سوري مقيم في إيطاليا)

نتذكرُ جميعاً الجدل الكبير الذي أثاره لؤي حسين، رئيس تيار بناء الدولة السورية عندما التقى العام الماضي بممثلي الائتلاف الوطني السوري في اسطنبول، وطالب بإزاحة علم الثورة السورية من على منصة المؤتمر الصحفي الذي انعقد بحضوره بجانب ممثلي الائتلاف، مثيراً بذلك موجة استياء كبيرة في الأوساط المعارضة سواءً على المستوى الإعلامي أو من خلال صفحات التواصل الإجتماعي.

وبعيداً عن القبول ( المتوقع ) لهذا الأمر من قبل ممثلي الائتلاف الوطني السوري، وهو ما لسنا بصدد مناقشته في هذا المقال، فإن هذه الحادثة تكشف وتظهر لنا أزمةً عميقةً تستحق النظر والتأمل، وتتعلق بماهية الرمز الوطني المتمثل بالعلم السوري، والذي لم يلقَ إجماعاً حتى اليوم بعد ما يقارب الست سنوات من عمر الثورة السورية. وإن كان هذا أمراً طبيعياً اليوم في ظل خلافات في المبادئ والأسس والقيم ما بين أطراف الصراع السوري اليوم، ومابين أطراف المعارضة السورية ذاتها على وجه التحديد.
مع بداية الثورة السورية، اصطبغت  المظاهرات المعارضة للنظام والمسيرات المؤيدة له بذات اللون وذات الصبغة المتمثلة بالعلم السوري المعتمد رسمياً آنذاك، وبعد أشهر قليلة ظهر العلم السوري ذو النجمات الثلاث كعلمٍ إعتمدته المعارضة السورية في ظل اتهامات من الطرفِ الآخر بأن هذا العلم هو علمٌ تم اعتماده من قبل الفرنسيين أيام الانتداب الفرنسي في سوريا، ومن العار اعتماده كعلمٍ وطني يمثل السوريين اليوم لما يحملهُ من معانِ استعمارية.

 وهنا، تطفو مسألةٌ ربما غابت عن أذهان الكثيرين، فلو افترضنا أن هذا العلم علمٌ فرنسي الصنعة والرسم، ما هو سبب اعتماده ما بعد الاستقلال عن فرنسا من قبل الحكومات السورية المتعاقبة؟ وأيضاً من قبل نظام الأسد الأب، والذي استمر بنحته على العملات السورية النقدية المتداولة حتى التسعينات، وكثير منا يتذكر الليرة السورية التي تم صكها عام 1979 حاملة العلم ذو النجوم الثلاث  والتي بقيت معتمدة في البلاد حتى عام 1994، العام الذي تم به اعتماد الليرة الحديثة بالعلم ذو النجمتين. فهل تذكر أصحاب نظرية علم ( الانتداب الفرنسي ) اليوم فقط أنّ هذا العلم علمٌ من صُنع المحتلّ؟ أم أن معاني العلم تتغير حسب الأحداث والتطورات ( كقميص عثمان ).

تكمن المشكلة في مستقبلٍ مجهولٍ وغامضِ الملامح فيما يتعلق بما يُعتبر من الثوابت والأساسيات لقيام أية دولة أو حكومة وطنية مستقبلية في البلاد، وفي ظل الخلاف الحالي والمتزايد يوماً بعد يوم مابين الكيانات القائمة على الأرض السورية اليوم، فإنه من الصعب التكهن حول شكل العلم السوري المستقبلي، هل سيكون علمَ سوريا؟ أم علم الجمهورية العربية السورية؟ أم علم الدولة السورية؟ أم علم الولايات السورية؟ والذي ربما ستندرج تحتهُ أعلام وليدة أُخرى، وذلك بالنظر الى احتمالية التقسيم أو الدولة الفيدرالية السورية التي يتزايد الحديث حولها بالرغم من صعوبة تطبيقها وعدم توفر مقوماتها على أرض الواقع.

على جانبٍ آخر، قد تكون مسألة اللغة الرسمية في الدولة السورية المستقبلية أقل تعقيداً (بشكل نسبي ) من مسألة العلم السوري المستقبلي، ويرجع ذلك إلى شيوع اللغة العربية لدى الغالبية العظمى من سكان البلاد مقارنةً باللغات الاخرى التي تمثل بعض الأطياف الأخرى الدينية أو القومية منها، إضافةً إلى تمكن الأخيرين بغالبيتهم تاريخياً من اللغة العربية وفهمهم لها، وقد لا يلغي هذا الأمر إدراج لغات أخرى في المدارس أو المناهج الجامعية واعتمادها كلغات تدريس رسمية، غير المنطق يفرض علينا التسليم بأنه لمن الصعوبة اعتمادُ لغةٍ أخرى كلغة رسمية للبلاد في المعاملات والوثائق والقوانين والدستور وغيرها من الأوراق الرسمية، ما عدا اللغة العربية ( ونتحدث هنا في دولة سورية موحدة ) ولو في الوقت الراهن، وهذا ما قد يسهل ربما حسم موضوع لغة البلاد السورية مستقبلاً، على نقيض مسألة العلم الذي قد يصعب البتّ فيه نتيجة أسباب تتعلق بطبيعة الفروقات السياسة والدينية والقومية ما بين المتخاصمين، فمن قائلٍ أن العلم السابق مرتبط بالنظام، إلى داعم لتبني العلم السوري الجديد المعتمد من قبل المعارضة السورية المعتدلة، إلى مُطالبٍ بإدراج ( الله أكبر ) أو الشهادتين ضمن خطوط العلم، إلى رابع يطالب بالاعتراف  بالعلم الكردي، أو خامسٍ يطالب بتمثيل علم أقليته الدينية المسيحية أو الدرزية أو الإسماعيلية أو الآشورية أو السريانية أو غيرها  في العلم المستقبلي ليكون علماً شاملاً يعبر عن كل السوريين بكافة أطيافهم ومكوناتهم.

ربّما يكونُ الحديث اليوم عن مسألة علمٍ مستقبليٍّ لسوريا أمراً مثيراً للتساؤل في ظل أزمات أعمق وأكبر تعصف بالبلاد اليوم، وهذا صحيح. فما يعدّ من الثوابت والأساسيات غدا اليوم أمراً ثانوي الطرح بوجود  العديد من المسائل الأعقد التي تفرض نفسها اليوم على المشهد السوري، سواءً حول شكل الدولة المستقبلي، كيف سيكون؟ ما هو شكل الحكم القادم في سوريا، ما هي شخصية الرئيس القادم؟ كيف ستكون الحكومة القادمة للبلاد؟ هل سيكون القرار وطنياً أم سيبقى القرار مرتهناً لسياسات ومصالح الدول الكبرى التي تلعب الدور الأكبر في سير الأحداث على الأرض اليوم؟  أو ربما التساؤل حتى عن اسم البلاد الذي لم يتم التكهن به حتى اليوم إن كان جمهوريةً أم دولةً أم قُطراً أم دويلاتٍ عدة؟
من هنا، يظهر أن مسائل العلم واللغة والعملة وغيرها ستكون أموراً لاحقةَ القرار، وتقريرها سيكون أمراً مرتبطاً بصورة البلاد المستقبلية ومعالمها. شكل سوريا المستقبلية هو ما سيحدد بقية التفاصيل، ومن غير حسم موضوع مستقبل البلاد ومستقبل الشعب السوري، ستبقى بقية التفاصيل مجرّد أوراقٍ مؤجلة الحسم. وحين يتم الاتفاق على المسائل العالقة اليوم، لن يكون الاتفاق على بقية المسائل أمراً عصيّاً على مختلف الأطراف في سوريا.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد