عبد الرحمن، رحلة العذاب واللجوء


رحلة عبد الرحمن من لحظة انشقاقه عن الجيش كي لا يضطر لقتل المدنيين إلى لحظة وصوله ألمانيا، مرورا بعملية "تهريبه" من اللاذقية إلى الشمال السوري، ثم عمله كإعلامي ينقل أخبار المعارك، ثم إصابته... رحلته هذه، تعكس مسار الثورة وتحولاتها، قوتها وخيباتها، يلتحم الشخصي والعام في ليصنعا تاريخ يكتب أمام أعيننا اليوم

01 آب 2016

لم يكن الانضمام إلى الجيش الحر ما دفع عبد الرحمن الصالح إلى الانشقاق، لكنه وبعد أن نال الشهادة الثانوية عام 2010، التحق بالخدمة الإجبارية للعلم، ووجد نفسه في منطقة صحراوية بجانب مطار الناصرية بريف دمشق، وهناك، كان من المحتمل فرزه في أيّة لحظة ليكون جندياً على إحدى حواجز التفتيش في المناطق التي تشهد اشتباكات بين الجيش الحر والجيش النظامي، لهذا فضل النجاة، متجنباً أن يكون قاتلاً أو مقتولاً.

في القطعة العسكرية التابعة للمخابرات الجوية، ادَّعى عبد الرحمن أمام قائد كتيبته أنّ أمه مريضة، وأنه بحاجة إلى إجازة، سمح له القائد بالمغادرة، فتوجه إلى مسقط رأسه (اللاذقية) شمال غرب سورية، وعاش في بيت أهله حتى انتهت أيام الإجازة، حينها اضطر إلى التنقّل بين بيوت أصدقائه في المدينة، إذ كان محتملاً أن تأتي المخابرات للبحث عنه بسبب تخلفه، هكذا أمضى ثمانية أشهر من التنقل بين بيوت المعارف، وعندما اشتدت الملاحقة، وعُمّم اسمه على حواجز التفتيش قرّر أن يغادر اللاذقية إلى مدينة أخرى، فنسق مع الجيش الحر لكي يستطيع المرور عبر حواجزه وصولاً إلى المنطقة التي يريد الذهاب إليها، اتفق مع جيش أنصار الشام الذي كان يسيطر على شمال وسط سوريا آنذاك، فخرج من اللاذقية بهوّية مزورة، تحمل اسم شخص يشبهه بالوجه، ولم يكن تدقيق جنود النظام على الحواجز المنتشرة حول اللاذقية إلا حول مكان الولادة، فإذا كان الشخص من منطقة مؤيدة يسهل عليه المرور، ولأنّ عبد الرحمن من منطقة القلعة التابعة للاذقية، لم يواجه أية مشكلات.

بين الأنصار والأحرار

أوقف حاجز تابع لـ "أحرار الشام" البولمان الذي استقله عبد الرحمن، في المنطقة الواقعة بين مدينتي "مورك" و"خان شيخون"، كان الاتفاق بين عبد الرحمن و"أنصار الشام" أن يقوم الأخير بإنزاله من البولمان كما لو أنه قد تمَّ اعتقاله، كي لا يثير الشكوك بين المسافرين القادمين من نفس منطقته، لكن عناصر "أحرار الشام"، والذين لم يكشفوا عن هويتهم للمسافرين، كانوا يرتدون الزي العسكري للنظام، مشكلين فخاً للمؤيدين، وحين شاهدوا الهوية المزوّرة لعبد الرحمن قاموا باعتقاله، لأنّ الشخص الموجود في صورة الهوية لم يكن يشبهه كثيراً.

عادةُ الحواجز العسكرية في لواء "أحرار الشام"، عندما تشك بأحد المارة، أن تفتش في أرقام المبالغ المالية التي يحملونها، فإن كانت ذات تسلسل رقمي، يعني الأمر أنهم موظفون في الدولة، ويقبضون رواتبهم من البنك المركزي، وسواء كان الموظف مدنياً أو عسكرياً، فإنه من المشبوهين لدى هذا الفصيل، لكن عبد الرحمن لم يكن بحوزته ما يدعو إلى الاشتباه بأمره سوى بطاقته العسكرية، ولم يصدق جنود "أحرار الشام" أنه فار من الخدمة الإلزامية، لهذا تم اعتقاله في البساتين التي تقع خلف الحاجز، وهناك بدأ أحد العساكر بضربه بكعب بندقيته على رأسه وصدره وظهره.

 كان المحقق يريد منه أن يعترف بالحقيقة، دون أن يحدد أيّة حقيقة يقصد، استمر الضرب لمدة ساعتين، ثم تم نقله إلى مقر الفصيل بعد تقييده، والمقر عبارة عن بناء كان مدجنة سابقاً، ولا يختلف هذا المقر من حيث المستوى المعيشي عن مقرات النظام بشيء، سوى أنّ السجانين يمنحون الطعام والشراب للمعتقل متى أراد.

في المقر تمّ التحقيق مجدداً مع عبد الرحمن، وخلال التحقيق وصلت مجموعة من "أنصار الشام" تسأل عنه، فقد وصل البولمان إلى المنطقة التي يسيطر عليها أنصار الشام، وهناك أخبرهم السائق بقصة اعتقاله من قبل الأحرار، وبعد أحاديث مطولة وتحقيقات صدَّق الأحرار أن عبد الرحمن فار من الخدمة، عندها تغيرت معاملتهم له، فقدموا له السجائر، وأجلسوه في مقر القيادة، إلى أن انتهت إجراءات تسليمه إلى أنصار الشام.

عبد الرحمن . المصدر: حكاية ما انحكت

عبد الرحمن

توّجه عبد الرحمن إلى قرية "سلمى" التابعة لمحافظة اللاذقية، والتي كان يسيطر عليها أنصار الشام، حيث بدأ العمل إعلامياً لتغطية إصابات المدنيين والعسكريين، ولم يبقَ في سلمى فقط، بل تنقّل بين قرى عزمارين وسلين وحارم وعندان، وبالإضافة إلى العمل الإعلامي، فقد كان يسافر بين حلب واللاذقية لنقل الأدوية، حيث يتواجد مصنع أدوية في حلب يوزّع الدواء بسعر رخيص. هذا المصنع يسيطر عليه لواء "أحرار سوريا"، أما المبالغ المالية لشراء الأدوية، فقد كان يتم تأمينُها من قبل متبرعين سوريين وغير سوريين، وفي سلمى. كان وفد من دولة أندونيسيا يتردّد دائماً، داخلاً من تركيا لتقديم المبالغ المالية بغية شراء الأدوية.

بقي عبد الرحمن بين هذه القرى مدة عشر شهور، وفي يوم الجمعة 23/08/2013، خلال وقت الصلاة، حيث يزداد تشديد الحواجز الأمنية والاشتباكات في هذه المناطق، وبينما كان يجتاز بالسيارة طريقاً عاماً بالقرب من قرية "ترتياح" متوجهاً إلى سلمى، أصيبت السيارة بقذيفة دبابة، فاستطاع النزول من السيارة وقد جُرحَت ذراعه بشظية، زحف عبر الطريق، مزق قميصه وربط ذراعه، حتى وصل إلى منطقة آمنة، هناك تم إسعافه من قبل أنصار الشام إلى مشفى سلمى الميداني.

رحلة علاج

بقي عبد الرحمن في مشفى سلمى الميداني لعدة ساعات، ثم تم تحويله إلى "مشفى اليمضية"، على الحدود التركية من جهة الساحل شمال اللاذقية، وهو مشفى تابع لمنظمة أطباء بلا حدود، وهناك أجريت له عملية تثبيت جهاز خارجي مؤقت للذراع، كان هذا أقصى ما استطاع الأطباء فعله في هذا المشفى ذي الإمكانيات المحدودة، بعدها توّجه عبد الرحمن إلى عندان في ريف حلب، لأن المشافي هناك مجهزة بأجهزة متطورة، وهناك تفاجأ بأنّهم يريدون بتر يدَه كونه الحل الوحيد، ولم يكن هذا الكلام مُطابقاً لما قيل له في مشفى "اليمضية"، فرفض الأمر وغادر المشفى.

بعد تنقله بين عدة مشافٍ ميدانية أو تابعة لمنظمات إنسانية في الشمال السوري، وصل عبد الرحمن إلى مشفى "الكويت" في قرية "عقربات" بريف إدلب، وهناك كانت إجابة الأطباء بعد الصور والتحاليل أنهم يستطيعون تجنب بتر اليد من خلال عدة عمليات جراحية، تتضمن إعادة التئام العظم واللحم والجلد، ثم إجراء عملية تطعيم للعظم والعصب، تليها زراعة أوتار، لكن يجب أن يغادر عبد الرحمن إلى تركيا لإجراء هذه العمليات.

10/09/2016

توّجه عبد الرحمن إلى قرية "عزمارين" في ريف إدلب على الحدود التركية، حيث يمشي اللاجئون مسافة 2 كم حتى أول طريق عام للسيارات، وهناك يستقلون باصاً يوصلهم إلى قرية "حجي باشي" في الجنوب التركي، ثم غادر إلى مدينة في أنطاكيا، وهناك أجرى عدة عمليات بين الشهر الأخير من 2013 و الثاني من 2014، وقد دفع أجرة هذه العمليات عن طريق مساعدة أهله، إضافة إلى عملية تبرعت فيها المشافي التركية، وفي الشهر العاشر من 2014 غادر تركيا إلى ألمانيا حيث يقيم حتى اليوم.

عبد الرحمن يبلغ من العمر أربعة وعشرين عاماً، لديه أربعة أخوة، وهو يطمح اليوم إلى دراسة العلوم السياسة والعلاقات الدولية، وسبق أن نال شهادة الثانوية/ الفرع العلمي في سوريا.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد