بعد خمس سنوات من الجمر


02 حزيران 2016

راتب شعبو

راتب شعبو: طبيب وكاتب سورى من مواليد 1963. قضى من عمره 16 عامًا متّصلة (1983 - 1999) فى السجون السوريّة، كان آخرها سجنُ تدمر العسكري. صدر له كتاب دنيا الدين الإسلامى الأوّلَ، وله مساهمات فى الترجمة عن الإنكليزيّة.

يمكن تلخيص مأزق الثورة السورية اليوم بالتعارض التام بين الهدف والوسيلة. الهدف المتمثل في دولة قانون، في تحرير الدولة من السلطة وتأسيس علاقة بين السلطة والدولة تجعل من الممكن تغيير السلطة دون أن يقود ذلك حتماً إلى تدمير الدولة وتدمير المجتمع والبلاد في السياق ذاته، كما يجري اليوم في سورية. والوسيلة التي هي في الواقع وسيلة استبدادية من جنس النظام، وربما أسوأ، أقصد بذلك التنظيمات الإسلامية الجهادية. بين هذا الهدف وهذه الوسيلة تعارض تام يفضي إلى اغتيال الثورة عبر اغتيال هدفها، وجعل المجتمع السوري يدور في دوامة من استبداد متوالد.

وقد فعل هذا التعارض فعلاً شالّاً في الجسد السياسي الذي حاول أن يكون ممثلاً للثورة، واعترفت بتمثيله غالبية دول المجتمع الدولي. رفع "المجلس الوطني" ثم "الائتلاف الوطني" راية الديموقراطية استجابة لتطلع الجمهور السوري الذي نهض بالثورة، فيما يرى القسم الأهم من الحراك العسكري المواجه للنظام أن الديموقراطية كفر، وأن الهدف هو الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة الإسلامية ..الخ.

لم يتمكن الجسد السياسي الممثل للثورة من أن يستبدل رايته فيجعلها "إسلامية" بما ينسجم مع الوسيلة التي يعتمدها، موضوعياً، لإسقاط النظام، نظراً إلى أن هذا  الهدف مرفوض من الغرب ومن أميركا "الداعمة"، كما من الجمهور العام للثورة. ولا يستطيع هذا الجسد السياسي نفسه أن يؤثر على الحراك العسكري فيجعله يرفع راية الديموقراطية، لأنه لا يملك أي تأثير جدي على هذا الحراك.

الجسد السياسي الذي يفترض أنه يمثل الثورة، يقع اليوم في مأزق يمكن تلخيصه في حاجته إلى طرفين متعارضين تعارضاً حاداً، هما الإسلاميين الجهاديين من جهة، والغرب من جهة أخرى. وفي محاولته التوفيق بين حاجته لهؤلاء وأولئك، أي في محاولته جمع ما لا يجتمع، فَقَدَ من يفترض أنه الممثل السياسي للثورة السورية أي وزن مستقل، والأهم أنه فقد هويته ووجهه، فهو ليس إسلامياً تماماً وليس ديموقراطياً تماماً. وقد دفعه مأزقه هذا إلى اعتماد براغماتية مدمرة، تقوم على قبول كل شيء يبقيه على قيد الحياة (من استثمار النزوع الطائفي، إلى استثمار الرضى الغربي، ثم الرضى الخليجي والتركي ..الخ)، دون أن يدري أنه في هذا بات شبيهاً بالعدو الذي يريد إسقاطه "بكل مرتكزاته ورموزه".

إذا حذفنا الجهاديين الإسلاميين من المعادلة السورية، على سبيل الافتراض، سنجد أن "ممثل الثورة" بات بلا وزن، لأن النظام سيستعيد السيطرة العسكرية مجدداً وستتحول المسألة السورية إلى موضوع إنساني وإعادة إعمار لا أكثر. وإذا حذفنا الدعم الغربي عن المعادلة، سيجد "الائتلاف" أنه بلا وزن سياسي، ذلك أنه يستمد وزنه الحالي من حاجة الدول الغربية إليه كممثل سياسي يكون طرفاً مقابلاً للنظام السوري، كمفاوض. وفي حال تخلى الغرب عن هذا "الممثل" فإنه سوف يسقط سقوطاً حراً إلى ماضي سوريا، ذلك أن علاقته بالقوى العسكرية الداخلية، التي هي جهادية إسلامية في غالبيتها، هي علاقة انتفاع موضوعي أو انتفاع عن بعد. وهذا نوع شاذ من العلاقة السياسية (تحميل مطالب ديموقراطية على ظهر قوى استبداد) ولا يثمر إلا المصائب. "الائتلاف" اليوم يحاول الاستفادة من صمود الجهاديين لكي يحصل على تنازلات سياسية من النظام بترجمة غربية. لذلك ليس من مصلحة الائتلاف أن يتخذ موقفاً جدياً يفرضه "الهدف الديموقراطي" من ممارسات الجهاديين، غير أن هؤلاء لا يجدون حرجاً، بفضل قوتهم المادية، في التبرؤ من الائتلاف ووصفه بالكفر.

على هذا فإن "الممثل السياسي" للثورة السورية لا يسيطر على شروط وجوده، أو لا يسيطر إلا على القليل منها لكي لا نقطع الأمل. وإذا أضفنا إلى هذه اللوحة التعيسة، أن هذا الجسم السياسي لا يسيطر على أي مصادر مالية، وأنه يمارس نشاطه السياسي الممكن على نفقة جهات مانحة، تحدد لهم نوع الإفطار كما قال أحدهم، ندرك عمق المأزق وتعقيده.

ولكن، ألا يدرك هذا الجسم السياسي حقيقة وضعه وضعفه وهامشيته؟ ألا يدركون أن استمرار تطور الحدث السوري على هذا المنوال يقود إلى لفظهم بالكامل؟

في 28 و29 أيار/مايو عقدت ورشة فكرية حملت عنوان "مسارات الثورة وخلاصاتها" بضم الخاء، أو فتحها كما "أخطأت" إحدى المشاركات وكان خطؤها أجمل من الصواب، وهي ورشة فكرية لأشخاص مستقلين متنوعين من حيث الرؤى والتوجهات والمناطق والأعمار أيضاً، وكانت هي المرة الأولى التي تتم المبادرة فيها لدعوة مستقلين مختلفين عن الائتلاف والاستماع إليهم. تكلم في الورشة أعضاء من "الائتلاف"، وعبروا بوضوح عن إدراكهم لحدود دورهم وهشاشة مستنداتهم، ومارسوا نقداً ذاتياً جريئاً في عمقه، يجعل المرء يتساءل: لماذا لا يكونون بهذه الجرأة والعمق أمام جمهورهم؟ مم يخافون؟ والأهم، لماذا لا يعملون على الخروج مما يرونه خاطئاً؟ ولكن ربما كانت هذه الورشة هي خطوة للتفكير في مخرج، إن كان ثمة مخرج.

يمكن ببساطة لأي كان أن يقول إنكم تحاولون إحياء جثة هامدة، كما قال فعلاً أحد أعضاء الإئتلاف المشاركين، دون أن يفسر سبب مشاركته في الورشة إذن، أو سبب استمراره في الجثة أصلاً. ويمكن لآخر أن يفرغ كل طاقة إحباطه في الشتم والإدانة دون أن يرشد إلى ما يفيد. ويمكن أيضاً أن يوجه النقد المتكرر، والمحق نسبياً، بشأن التكلفة التي استهلكتها الورشة والتي كان يمكن تخفيضها لو تمت في شروط أقل "أبهة" على أنها قد تكون أكثر التكاليف تبريراً في نشاطات الائتلاف. كل هذا وغيره يمكن أن يقال وله من يستمع إليه ويتفاعل معه، ولكنه يبقى كلاماً قليل الجدوى، وهو أحد تعبيرات المأزق الذي نحن فيه. أن لا تفعل شيئاً، يعطيك موقعاً حصيناً لكي تنتقد كل من يفعل أي شيء.

لم تمنع اللوحة الكئيبة التي عرضناها من محاولة تقديم أفكار تمهد للخروج من المأزق الذي يبدو أن أخطر ما فيه هو الاعتياد عليه والامتثال لآلياته في الديمومة. الخروج من مشكلة التمويل بتشكيل "صندوق قومي سوري" مثلاً، الخروج من ضياع الهوية بتحديد موقف سياسي واضح من القوى الفاعلة على الساحة، وإحياء علاقة من الثقة مع الشعب السوري ككل من موقع وطني وديموقراطي وليس من موقع التابع لقوى داخلية أو خارجية "تحويل الائتلاف إلى مؤسسة وطنية فاعلة"، وعقد مؤتمر وطني سوري ..الخ.

إلى جانب التوصيات التي حملها البيان الختامي، قدم المشاركون أضعاف هذه التوصيات في أوراقهم ومداخلاتهم، منها إعادة تقييم الخيار العسكري، وإنشاء لجنة حكماء مستقلين يكون لقراراتها صفة إلزامية.

خمس سنوات من الجمر كافية لتبخر الأوهام، النظر في عين الواقع بمسؤولية، والجرأة في الخروج من آليات ديمومة المأزق، هو ما نحتاج وما نأمل أن يجدي في خلاص سوريا والسوريين، كل السوريين، من المأساة الراهنة.

الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد