لا معنى للدولة إنْ لم تحقق لمكوناتها هويتها (2)


18 أيار 2016

فاروق حجي مصطفى

كاتب سياسي، وصحافي كردي سوري درس العلوم السياسية والإدارية. كتب(ويكتب) في الصحف اللبنانية والخليجية ككاتب وصحافي حر منذ 1999. من كتبه: "الكرد السوريون و الحراك الديمقراطي" و "المجتمع المدني السوري:الواقع والمأمول".

لا يُلام المتابع السوريّ على صدمته عندما تقع رؤيته (لأول مرة) على رموز تعبّر عن هويّة بعض من المكونات السوريّة ولا سيما المكون الكُرديّ، حيث استطاع النظام طمرَ رموز المختلفين عنه طيلة عقود. خاصة إنّ ترويج الأعلام ورموز الهويّة الكُرديّة كان جزء من الأمر المسكوت عنه في زمن الاستبداد، وما أن أطلّ السوريّ برأسه فور انطلاق الثورة السوريّة (15 آذار 2011)، حتى شاهد الأعلام وباشر الكُرد بتعلم لغتهم وفتحوا المدارس وأنجزوا مناهج تعليمية -إلى الصف السادس- ضاربين مناهج النظام وقوانينه عرض الحائط. لم يهتموا باعتراف النظام  بهذا المنهاج الكُرديّ؛ فقط أتيح للكُرد أن يدرسوا لغتهم، وهم فعلوا ذلك دون تردد حتى أنّهم لم يهتموا بما يقوله الآخرون عنهم؛ تماماً مثل طرحهم للفيدراليّة !

بنظر الكُرد أنّ النظام الفيدراليّ هو وحده قادر على استعادة حقوق الناس والشعوب ويعزز مكان الدولة لدى قاطنيها ويحافظ على صيغة التعايش المشترك، ولعل الأخير، أي خيار التعايش المشترك، هو تلك الشعرة بين التقسيم والاتحاد!

ما يثير الانتباه هو أنّ إشكاليّة اللغة، ومنع الكُرد من ممارستها منذ استلام القوميين في بداية ستينات القرن المنصرم، ما انفكت وأوجعت رأس النظام نفسه، ووضع النظام أمام واقع لا مهرب منه، وإلا لماذا بعد شهور من انطلاق الثورة سرعان ما أقرّ النظام:

- فتح معهد لتعليم اللغة الكُردية من ضمن تعليم اللغات في الجامعات السوريّة.

-باشر النظام بإعادة الجنسيّة لغالبية الكُرد الذين صادر النظام جنسيتهم في بداية الستينات، ما يشيّ بأن النظام نفسه لم يستطع القفز فوق حقوق تُعتبر أقل من الأساسيّة للكُرد!

ولا يخفى على أحد أنّ النظام كان يعتقل من يضع في رقبته قلادة فيها ألوان العلم الكُرديّ، وكان يغلق كل محل (دكان) من المحلات  بالشمع الأحمر إنْ كان أسمه مكتوب باللغة الكُرديّة أو يحمل معنىً كُرديّاً!

ممارسة الهوية حق طبيعي..

والسؤال البسيط، الذي يسأله الكُرد في مجالسهم، ترى،  ماذا يفعل الكُرديّ إنّ أتيحت له ممارسة هويته أو عبّر عنها علناً، مثل رفع الأعلام وممارسة اللغة؟ أينتظروا حتى يقرر لهم الآخرون ما يجب فعله أم يمارسونه دون انتظار أحد؟ ومن يدري ربما إنْ لم يمارسوه اليوم، وكونهم يديرون أنفسهم منذ 3 سنوات، يتساءل بعض الكُرد، أليس من الحماقة أن ننتظر؟ كما لو أنّ الخوف حتى من ظل النظام قائم ولم يتزحزح أبداً! هذا الكلام  وجّه لبعض القادة الحزبيين الكُرد حينما طالبوا "ب ي د " بالتريث لتطبيق تعليم اللغة الكُرديّة لحين بناء "عقد اجتماعي" سوريّ، سمعنا وقرأنا تعليقات نشطاء صفحات التواصل الاجتماعي وهجومهم على التيار الكُرديّ الذي طالب بالتريث لحين بناء "عقد اجتماعي" أو صيغة أنسب، وذلك لعدم إثارة الحساسيّات والمخاوف لدى المكونات الأخرى غير الراضيّة من التطورات الكُرديّة.

تجدر الإشارة أنّ كل المكونات السوريّة ذوات خلفيات عرقيّة وثقافيّة كانت تتمتع بممارسة لغتها إلا الكُرد!

إشكاليّة العلم إشكاليّة سورية..

كلام اللغة هو نفسه كلام عن العَلم، نسينا إن إشكاليّة العَلم بدأت منذ اليوم الأول من الثورة، في البدء خلقها النظام، واعتبر العَلم الذي يرفعه النشطاء والثوار هو عَلم الجلاء، وشككوا بهذا العَلم إلى درجة صار للمعارضة السورية عَلم، وللنظام عَلم، ومع انزلاق الثورة في بعض زواياها كثرت الأعَلام، وبقي في الشارع الكُرديّ علمان، العَلم القومي، وهو العَلم الذي لم يرفعه الكُرد ليس فقط مع بداية الثورة إنما كان يُرفع في المناسبات القوميّة قبل الثورة، ولعَل لرفع الأعَلام سجناء ومعتقلين قضوا سنوات في السجن بسبب رفعهم العَلم الكُرديّ، تماما مثلما للغة الكُردية سجنائها مع أنها كانت تدرس في الأقبية والبيوت سرا وفي أوقات متأخرة من الليل، حتى سموها في منهاج كلية الإعلام "لغة الأقبية"، والعَلم الآخر الذي رفعه الكُرد وحتى الآن هو عَلم الثورة، بمعنى أنّ الكُرد حددوا خياراتهم القوميّة والوطنيّة، وقيس خطابهم على هذا الشكل، مع أن النقاش حول العَلم الوطني لم يبدأ بعد، فعادة العَلم الوطني يحمل لون جميع المكونات والهويّات، وما نشهده اليوم عَلمُ الثورة هو عَلم مؤقت فقط تبرير لكي لا نرفع العَلم السوري المعروف تماما مثلما كان يروّج عن أنه على المعارضة تبني دستور الخمسينيّات، هل كان السوريون يبقون على دستور الخمسينيات؟ لا طبعاً لأنّ دستور الخمسينيات عليه عدة ملاحظات، مثلاً، طغيان الإيديولوجيات، وكذلك تعبّر عن قومية واحدة، ..الخ

وللأسف إن قلنا، ما يتم معارضته هو صفة ليس للسوريين فحسب إنّما صفة تُعرف بها غالبية شعوب المنطقة، فنتذكر كيف تم اتهام العلم العراقي المقترح والذي أسسه كمقترح أهم فنان عراقي، وهو فنان عالمي رفعت جادرجي، وهو ليس كُردي. قالوا أنه يشبه علم إسرائيل، مع أنّ البعض شبهه بعلم السويد، وهمّ الكُرد من هذا السجال هو أن يحمل العلم لون كُردستان أيضا، وسرعان ما ألغو العلم المقترح وأجروا التعديلات الطفيفة لعلم صدام حسين خوفاً من تفاقم المشكلة بين المكونات العراقية التي كان المُراد منها تسيير العمليّة السياسية بسلاسة وهدوء حسبما أمر "بريمر".

يبدو أنّ إشكالياتنا، لا تبدأ بالعَلم واللغة، ولا تنتهي بتطبيق النظام الفيدراليّ، ويبدو أنّ هذا التنوع المشرقيّ الجميل بدل أن يصبح مصدر للغنى والتفاخر يتحول ليكون سبباً إضافياً للخلافات، في لحظة أنّ اعتزاز إثنية ما بعلمها أو لغتها أو هويتها هو حق من حقوق الإنسان، في لحظة أنّ فريق كرة القدم أو مصنع ما أو شركة ما لها علم خاص بها، فلماذا تمنع شعوبنا أن يعتزوا بأعلامهم، وأن يهتموا بلغتهم، ولنفرض أنّ الفيدرالية لم تطبق في سورية، وهل صحيحاً أن سورية اللامركزيّة ستمنع علم المكونات وتمنع القوميات ليقرؤوا بلغتهم وأن تكون لغتهم رسميّة في المكان الذي ولد فيه الكُرد !

تعودنا نحن السوريون، بدلاً أن نفكر كيف نبني الدولة ونحقق الاستقرار فيها من خلال انتعاش ثقافة مجتمعاتها وتعزيز هويّاتها من خلال فسح المجال أمام التمتع بممارسة الطقوس عبر الرموز مثل العَلم، والتقاليد الأخرى حتى  الزي الشعبي، وإعادة بناء لغة هذه المجتمعات من جديد بعد أن هشمتها العقود من الزمن ورفع مكانتها لتكون لغة الكتابة والخطاب، وهو مصدر الغنى للدولة وتزيد من مكانتها، نفكر صباحاً مساءاً كيف نمنع الناس من ممارسة حقوقها التي من المفترض أن تحققها الثورة لا الكُرد لأنفسهم، ولنفترض عدم وجود أحزابا لدى الكُرد ولا نشطاء أليس حريّ بالثورة أن تحقق تطلعات الكُرد وغيرهم؟!

فيدرالية: العقد الاجتماعي  لا بد منه..

وكلام عن اللغة، والعَلم وكيف كان موقف "الشركاء" منهما يمكن إسقاطه على السِجال الذي يحدث عن مسألة الفيدراليّة، وما أن طُرحَت الفيدرالية حتى أقام الشركاء القيامة، كما لو أنّها "نهاية التاريخ " بالنسبة للشركاء الذين ما لبثوا ولصقوا بها صفة " التقسيم" مع أنّ الفيدراليّة وُجدَت لإتحاد المكونات العرقيّة والجغرافيّة المتلاشيّة والمتقطعة من أجل تمكين الدولة لتكون قادرة لتصون حقوق الجميع، بمعنى تؤسس دولة ترعى مصالح الجميع من خلال الرعاية العامة ما تسمى بالحكومة المركزيّة تتقاسم الصلاحيّات مع الأقاليم، لتعزز هذه الدولة مكانة وهويّة المجتمعات المتعددة التي احتضنتها هذه الدولة الاتحاديّة.

الفيدراليّة، هي نظام سياسيّ طلبه الكُرد لمنع تكرار الاستبداد، بمعنى، أن لا تتحول دولتنا من خانة كانت أسرى للإيديولوجيا المستبدة إلى خانة الأكثرية المستبدة، فضلاً على أنّ السنين التي نخرت الجسد السوريّ هي سبَبَت للسوريين مصيبة الشروخ والشقاق وحالات عدم الثقة، وعملياً نعيش في سوريا بهالة العدد من الدول فقط نعتبر أنفسنا سوريين بالتخيل، أبوسع الكُوبانيين أن يتخطوا حدود جغرافية كُوباني، وهل هناك علويّ واحد بقي في المنطقة ذات الغالبية السنيّة، فكيف بنا إذاً أن نعيد سورية إلى زمن ما قبل الثورة شكلاً وليس مضمونا.

بقيّ القول أنّ  سورية ستكون سورية للجميع على أن يتمتع كل مكون بحقوقه و إدارة نفسه،  ويربطهم عامودياً نظام حكم اتحاديّ يعبّر عن الجميع. فقط بهذا الشكل يمكن أن نعيد سوريا كدولة. ولكن هل يمكن أن تستمر الدولة دون بناء العقد الاجتماعيّ؟ عموماً إنّ صياغة العقد الاجتماعي، ونحن نقول الصياغة، بمعنى الدقة، بمعنى أن تكون عقداً اجتماعياً بين جميع المكونات بالحقوق المتساوية، وبنظام حكم متفق عليه، وهو لا يتم إن لم يتمتع كل مكون بحقوقه ويعتز بهويته فهو حرّ برفع عَلمه وممارسة لغته وعلى أن تكون لغته لغة رسمية محلية على الأقل ومن هذا الباب فقط يمكن بناء سورية، ونكون قد حققنا هدف الثورة الحقة أيضاً!

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد