الخوف من التغيير


04 أيار 2016

راتب شعبو

راتب شعبو: طبيب وكاتب سورى من مواليد 1963. قضى من عمره 16 عامًا متّصلة (1983 - 1999) فى السجون السوريّة، كان آخرها سجنُ تدمر العسكري. صدر له كتاب دنيا الدين الإسلامى الأوّلَ، وله مساهمات فى الترجمة عن الإنكليزيّة.

يحتل العلويون موقعاً خاصاً في الكتلة الشعبية التي أيدت النظام، واتخذت موقفاً مشككاً ثم معادياً من الانتفاضة السورية التي انطلقت في آذار 2011، والتي راحت تتحطم تحت مطرقة النظام وعلى سندان الإسلاميين ثم الجهاديين، مع ضياع مذهل ومطرد للفاعلية السياسية للديموقراطيين العلمانيين. لم يكن العلويون اللون الوحيد في الكتلة الشعبية التي رفضت العبور إلى ضفة العمل على تغيير النظام، فقد ضمت هذه الكتلة كامل الطيف الديني والمذهبي والعرقي السوري. غير أن غالبية العلويين شكلوا، على مدى الصراع، ما يشبه الاحتياطي المضمون للنظام. يطمئن النظام دائماً إلى ولاء غالبية العلويين حين يكون شبح الإسلام السياسي السني على الطرف الآخر.

اصطفاف غالبية العلويين مع النظام، واقع صريح منذ بدايات الثورة، وقد حافظ هذا الواقع على ثباته حتى اليوم. ولم يحمل الزمن الجهنمي الذي تجاوز السنوات الخمس إلى هذا الجمهور سوى إضافات ذات طابع فاشي من جهة، وتصاعد موجة التذمر من النظام، من جهة أخرى، ولكنه تذمر ضمن دائرة النظام وفي كنفه، أي ضمن مفهوم الخلاف في الخندق الواحد.

السؤال هو: ماذا حل بالمعارضة الدائمة التي أبداها الكثير من العلويين لنظام الأسد طوال فترة حكمه؟ معروف جيداً أن سجون الأسد (الأب والوريث) لم تخل من المعارضين العلويين ولفترات سجنية ماراتونية، وقد استشهد بعضهم تحت التعذيب حين كان هذا الأمر حدثاً جللاً قبل أن تحوله أجهزة القمع الأسدي إلى روتين سوري يومي. في حزب العمل الشيوعي مثلاً، كانت نسبة العلويين مرتفعة. ويعتبر هذا الحزب من بين أكثر الأحزاب اليسارية السورية جرأة ونضالية في وجه نظام الأسد الأب. وقد واصل نشاطه السياسي والتنظيمي تحت حملات اعتقال وحشية متواصلة، وصولاً إلى تصفيته بالقمع في 1992. وكان هذا الحزب قد رفض في ثنايا هذا التاريخ المليء بالآلام أي مساومة مع النظام، وانفرد في رفع شعار إسقاط النظام باكراً، ولذلك كان هو الحزب اليساري الوحيد الذي حُوِّلت قياداته إلى سجن تدمر العسكري في 1987.

إلى هذا، كان الوسط الاجتماعي للمعارضين العلويين تربة متقبلة للمعارضة، وكان للمعارضين وزناً معنوياً وتقديراً في وسطهم، حتى في فترة صراع النظام مع الإخوان المسلمين. نذكر أنه في 9/12/1980 استشهد "محمد عبود" تحت التعذيب في فرع الأمن السياسي في اللاذقية، وهو من أعضاء رابطة العمل الشيوعي (التي تحولت إلى حزب العمل الشيوعي في صيف 1981). وفي المشفى أصرّ الأطباء، رغم محاولات ممثلي السلطة لفلفة الموضوع، أن يكتبوا في تقريرهم: "اللطم الشديد على الرأس قد تسبب بالنزيف والوفاة". بدلاً من كتابة "الوفاة بسبب أزمة قلبية" كما هو الحال اليوم في تقارير الأطباء عن مئات السجناء الذين قضوا في السجون من التعذيب أو الجوع. حينها عبر الأطباء والممرضات عن صدمتهم، وتهجموا على دورية الأمن السياسي بالتحقير والبصاق. وبات المساعد الذي أشرف على تعذيب الشهيد منبوذاً في البيئة نفسها. كان هذا قبل أن تتشفى "إعلامية" موالية بصورة سيلفي مع ضحايا القصف الأسدي في حلب، وقبل أن يصبح المعارض العلوي "خائناً" ومستباحاً في وسطه الاجتماعي.

كيف لنا أن نفهم هذا التحول؟ كيف يتحول المجتمع الذي كان يعجّ بالنشاط السياسي المعارض إلى مجتمع ممتثل ومحافظ سياسياً؟ أو بطريقة أفضل: كيف يتحول مجتمع انطوى على نزوع للتغيير في زمن الامتثال والسكوت، إلى مجتمع محافظ في زمن الثورة؟

الجواب النمطي الذي نسمعه دائماً ينفي الامتثال: نحن مع الثورة ولكن هذه ليست ثورة، نحن مع التغيير إلى الأفضل وليس إلى الأسوأ، مع التغيير وليس مع تدمير الدولة، مع تغيير يختاره السوريون بإرادتهم وليس بإرادة الخارج المتآمر ..الخ.

تبدو تبريرية هذا الجواب من ملاحظة أنه في مقابل المظاهرات التي كانت تخرج من الجوامع، خرج غالبية أصحاب هذا الجواب المكرور بمسيرات تأييد للنظام وليس بمظاهرات "علمانية" ضد النظام، كما يفترض أن يكون الحال إذا صح القول بتأييد التغيير إلى الأفضل. كما لم يظهروا حرصاً على الدولة حين جرى إقحام أهم أركان الدولة (الجيش) في قمع المدنيين والسكوت على جرائم الشبيحة، الأمر الذي نسف اعتبار الدولة في وعي القسم الأعظم من السوريين وأحالها إلى عدو.

وحين تضافرت العوامل التي سهّلت دفع الحراك السوري باتجاه إسلامي ثم مسلح ثم جهادي، صار يمكن للراغبين عن التغيير، أن يجدوا مبرراتهم بسهولة أكبر. وصار يمكنهم، تالياً، التجاوز عن مجازر النظام وجرائمه، ذلك أن "الوطن في خطر" وأن لمكافحة الإرهاب ضريبة لا بد منها. وكان من هذه الضريبة، سكوتهم المرير على قيام النظام برمي أبنائهم عمداً، في أكثر من حادثة مأساوية، إلى فم الغول الجهادي لكي يشتري الرأي العام العالمي والمحلي بدمائهم وبآلام عائلاتهم.

ولكن لماذا ظهر هذا الاصطفاف الموالي الذي شمل الجميع تقريباً، وكأنه مسح بضربة واحدة كل التمايزات السياسية السابقة داخل هذه الجماعة، على كثرتها؟

وراء كل التنوع الممكن في تفسير الموقف الموالي للنظام السوري، يوجد جذر مشترك مُنشِئ ومحدِّد، وهو خوف غالبية العلويين من التغيير. معروف أن في الذاكرة الجماعية للعلويين روايات راسخة وحتى عهد قريب، عن جور وظلم وعزل لحق بهم ولم يتراجع إلا مع تعزز الحضور العلوي في الجيش والسلطة السياسية، وبشكل خاص وحاسم عقب وصول حافظ الأسد إلى سدة الرئاسة في 1970. أي محاولة تغيير سياسي لا يكون للعلويين فيها يد عليا، يوقظ في نفوسهم الخوف ويصدهم عن المشاركة الفاعلة في محاولة التغيير، إن لم يدفعهم إلى معاداتها.

على هذا، يمكن القول إن الصيغ السياسية المتنوعة التي تسعى إلى إسباغ اليسارية والتقدمية على الموقف الموالي، ليست، في معظمها، سوى تغليف ثقافي للسبب الحقيقي لهذا الموقف وهو الخوف من التغيير. خوف من العودة إلى حقبة التهميش والعزل. ومع اتخاذ الصراع طابعاً عسكرياً وحشياً باتت الخشية العلوية أعلى والميل السياسي المحافظ أشد.

هناك غياب مؤثر لجسر الثقة الذي يمكن أن يعبر عليه الجميع إلى مستقبل سوري مشترك وعادل. غياب الثقة مسؤولية واسعة تشمل الجميع وإن بدرجات متفاوتة. ما تقوله السنوات السورية الخمس المنصرمة إن غالبية العلويين يخشون التغيير السياسي حين يكون زخم التغيير ومركز ثقله من خارجهم، ولاسيما من "الخارج" الإسلامي السني. غير أن هذا لا يعني أنهم لا يعانون من استبداد النظام الأسدي، أو أنهم لا يريدون التغيير، أو أنهم يعبدون الأسد ..الخ، كما تذهب كتابات تبني على تصورات أكثر مما تبني على معطيات متماسكة. وإلا من غير الممكن تفسير وجود معارضين علويين كثر وجدّيين في الفترة السابقة على الثورة، أو تفسير الموقف المتقبّل والمحتضن من وسطهم الاجتماعي في تلك الفترة.

ما سبق يستدعي التفكير بالسؤال التالي: هل كان العلويون، في كتلتهم الرئيسية، سيشاركون في الثورة لو حافظت على وجه علماني ديموقراطي دون أن تغزوها قوى الإسلام السياسي السني بطبقاته المتنوعة؟ هل يطمئنون إلى سلطة علمانية ديموقراطية لا تسيطر عليها نخبة علوية، أكثر مما يطمئنون إلى سلطة ديكتاتورية بنخبة علوية؟ ألن يبدو لهم أن أي برنامج ديموقراطي علماني للثورة وأي حديث عن المواطنة الفعلية والمساواة وحكم القانون، هو نوع من تجميل نقل السلطة إلى الأكثرية التي تتربص بهم شراً؟

هذا ليس سؤالاً يائساً، إنه بالأحرى غوص في عمق الجرح الوطني السوري في مسعى للتطهير بالكشف وربما بالكي، والتمهيد لالتئام سليم ومأمول.

غرض المقال الاقتراب أكثر من فهم موقف العلويين من الثورة، وليس في غرضه إدانة سلوك هذه الجماعة أو تلك. هذا لا معنى له فيما يخص الجماعات. المخاوف والحساسيات المختلفة لا تُعالج بالإدانة ولا بالمزيد من التخويف أو المزيد من إثارة هذه الحساسيات، وبالتأكيد ليس بالعنف، هذا إن أردنا العلاج.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد