إدلب... مدينة للمشاريع السلطوية المؤقتة (2)


17 أيار 2016

الزراعة مهنة للإكتفاء الذاتي في إدلب

اتجهت الزراعة في إدلب نحو الإكتفاء الذاتي لعدة عوامل من بينها خطورة تسويق المحصول مع وجود حواجز النظام السوري على الطرقات وإمكانية مصادرة المحصول أو قبض مبالغ كبيرة عليها.

هذا ما دفع المزارعين إلى الإكتفاء الذاتي أي تخزين المحصول، وبيعه في سوق إدلب، وبحسب أحد المزارعين يقوم بعض التجار بشراء المحصول، ويتكفلون بنقله وبيعه في حال وجود فائض عن حاجة السوق المحلية.

ويؤثر سلباً في الزراعة ارتفاع أسعار البذور والسماد ونقص المحروقات نتيجة إغلاق الطرق معظم الأحيان من قبل الفصائل المتناحرة في المناطق الشمالية كما يقول المصدر.

ويعاني المزارعون في إدلب من انقطاع الكهرباء النظامية منذ أكثر من عامين وهي ضرورية لاستخراج المياه الجوفية من الآبار، واعتمدوا بدلاً من ذلك على المولدات الكهربائية التي تحتاج للمحروقات المفقودة أصلاً.

سوريون من دون أوراق ثبوتية

 مازال النظام السوري حتى اللحظة الراهنة يحظى باعتراف دولي وهو المسؤول عن إصدار الوثائق الثبوتية مثل الهويات الشخصية وجوازات السفر، فيما بقي الإعتراف بالمعارضة السورية والمؤسسات التابعة لها اعترافاً سياسياً من بعض الدول الصديقة والداعمة لها.

حاولت المعارضة السورية سد الفراغ الإدراي، وقامت حركة أحرار الشام الإسلامية عبر محكمتها في جبل الزاوية بتسجيل أوراق الزواج والطلاق والولادات، وتولى معاملات حصر الإرث وبيع الممتلكات موظفون منشقون عن النظام السوري دون حاجة للرجوع إليه.

"أبو محمد"، موظف في دائرة النفوس التابعة للنظام  في قسم المعاملات المدنية، يقول أن قسمه مسؤول عن توثيق وتسجيل معظم المعاملات الرسمية للمدنيين، إلى أن سيطرت المعارضة السورية على مدينة كفرنبل انتقلت حينها وظيفته إلى مدينة معرة النعمان، وبعد السيطرة عليها انتقل ليمارس عمله في إدلب وكان الناس مضطرين للتنقل بين هذه المدن لإجراء معاملاتهم الرسمية حيث كان يضطر صاحب المعاملة للسفر من أجل وضع بصمته.

ويضيف "أبو محمد" أنه و بعد سيطرة المعارضة على إدلب كاملة،  انتقل عمل مكتب النفوس إلى محافظة حماة، وامتنع الكثير من المدنيين من السفر لحماة خوفاً من الإعتقال ومن سياسة الحواجز في السلب والنهب.

عديد من الأطفال بلغوا سن الرشد خلال سنوات الحرب دون حصولهم على هوية شخصية من دوائر النظام الرسمية؛ أمر يعد مصدر قلق دائم للأهالي، ورغم سهولة وضع البصمة إلا أنها تعتبر مغامرة في سوريا.

القضاء ..إعادة تدوير لمخلفات النظام

استقلالية مؤسسة القضاء معادلة لم تلق حلاً، وواقع التبعية للسلطة التنفيذية كما كان سائداً انتقل من سطوة رجال الأمن التابعين للنظام السوري إلى تبعية من شكل آخر تحرسها وتعززها الفصائل الإسلامية المقاتلة.

ويقول المحامي "غزوان قرنفل" رئيس تجمع "المحامون السوريون الأحرار" أن مؤسسة القضاء كانت حديقة خلفية للسلطة التنفيذية، حيث يرأس مجلس القضاء رئيس الجمهورية ونائبه هو وزير العدل، وبالتالي فإن تعيين وتشكيل المحاكم والأدوار المنوطة بها بيد رموز السلطة التنفيذية وأذرعها من أجهزة الأمن.

ويضيف "قرنفل" أن القضاة كانوا يرتجفون لحضور عناصر الأمن إلى قصر العدل، فطلباتهم مجابة دائما.

وتلعب التقارير الأمنية بحسب "قرنفل" الدور الحاسم في قبول القضاة ورفضهم .

حاولت المعارضة السورية ملء الفراغ القضائي بعد سيطرة المعارضة على مدينة إدلب ولم تدم التجارب القضائية المدنية التي أسسها قضاة منشقون عن النظام طويلاً، بعد إطلاق يد المشايخ في القضاء.

منع القضاة من العمل بسبب تطبيقهم لقانون الأسد على حد تعبير الفصائل الإسلامية، كما وصف البعض الآخر مثل "أحرار الشام" القانون السوري بالقانون الفرنسي المهترئ.

ويروي المحامي "غزوان قرنفل"، أن القضاة المنشقين "حاولوا افتتاح محكمة حارم ومحكمة دركوش لكن سرعان ما وضع هؤلاء اليد عليهما وسرقوا الملفات والكومبيوترات التي تم إحضارها لمباشرة العمل، وهددوا القضاة ووصل الأمر أن تم اختطاف أحد القضاة وإجباره على التوقيع على تعهد يتضمن التزامه العمل في المحاكم الشرعية وتطبيق الشريعة الإسلامية، مما اضطر الباقين للنأي بأنفسهم عن العمل ولجوئهم إلى تركيا فيما رضخ البعض الآخر وانساق باتجاه ما يرغبه الإسلامويون."

أسس كل فصيل قضاءً شرعياً خاصاً به يلائم توجهاته الفقهية والإسلاموية، واتهموا القضاة والمحامين المؤيدين للقانون المدني "الوضعي" بالزندقة والكفر كما يقول المحامي غزوان قرنفل.

في إدلب لم تطبق الفصائل المسيطرة أي قانون وضعي ويشمل ذلك القانون العربي الموحد المستمد استناداً إلى الفصائل من الشريعة الإسلامية، واكتفت المحاكم بتطبيق الشريعة الإسلامية، وبرأي "قرنفل" إن تناقض الأحكام على وقائع متماثلة يبيّن أن الشريعة تطبق بحسب الفهم الخاص للشيخ الذي يترأس المحكمة.

ويذكر "قرنفل" أن تجمع المحامين السوريين الأحرار أصدر بيانا منذ 3 سنوات بعنوان "لا للمذبحة القضائية" أدان فيه ممارسات الهيئات الشرعية وتسلطها على القضاء.

كتاب الله يحكم في النزاعات

تتبع المحاكم في إدلب "للهيئة الإسلامية لإدارة المناطق المحررة" المؤلفة من عدة فصائل كأحرار الشام، فيلق الشام وصقور الشام، ويوجد في إدلب 14 محكمة إضافة للمحكمة المركزية تتبع جميعها للهيئة الإسلامية.

وتتشكل محكمة كفرنبل القضائية بحسب رئيسها القاضي أيمن البيوش من كافة الإختصاصات القضائية كالقسم المدني والجزائي للأحوال الشخصية، وقسم الصلح والتحقيق والنيابة العامة، ولا ينفي "البيوش" تبعيتها للفصائل الشامية الثلاث.

أحد القضاة الشرعيين في ريف إدلب  يتحدث عن المحكمة التابعة لجبهة النصرة، قائلاً "لدينا عدة محاكم تابعة لنا في إدلب وريفها نحاول من خلال هذه المحاكم حل الخلافات، والحكم بحسب كتاب الله وسنة رسوله، ونترك للمواطن حرية تقديم الشكوى للمحكمة التي يرغب بها مع العلم بأن كل محكمة سواء كانت للجبهة أو للفصائل الثورية أو للقضاء المدني فكلها تتمتع بالاستقلالية بأحكامها، ولاتتدخل أي محكمة أخرى بقراراتها أو أحكامها."

 ويلفت الشيخ إلى أنه حتى الآن لم يصدر أي حكم بالإعدام أو بتر إحدى الأطراف "لأننا في وضع حرب ولا تكون الأحكام في الحرب كما في السلم، وإنما تكون الأحكام بدفع الدية في حال حصول جريمة قتل والسجن لمدة خمسة سنوات مع دفع الدية لأهل القتيل".

رغم نفيّ الشيخ في الهيئة الشرعية إصدار أحكام بالإعدام، أشارت مصادر من الداخل إلى أن أحكاماً بالإعدام نفذتها الهيئات الشرعية ودور القضاء التابعة للفصائل بحق المخبرين والشبيحة بحسب التسمية الشعبية الشائعة. كما نشر ناشطون من الداخل مقاطع فيديو تعرض انتهاكات الفصائل الإسلامية بحق المدنيين وتنفيذها أحكام إعدام  تحت تهم مختلفة كان أكثرها انتشاراً مقطع فيديو نشر بتاريخ 14/1/2015 يظهر إعدام جبهة النصرة لإمرأة خمسينية بتهمة العمل بالدعارة أمام حشد من أهالي معرة مصرين بريف إدلب.

تحكيم مدني على نطاق ضيق

مساحة ضيقة بقيت للمحاكم المدنية مع ميلان كفة القضاء في إدلب لصالح الفصائل الإسلامية صاحبة النفوذ الأقوى، ويشير المحامي "محمد المحلول"، رئيس مركز التحكيم المدني في معرة النعمان إلى أن "رابطة المحامين السوريين الأحرار" افتتحت مركز التحكيم الرئيسي في محافظة إدلب بتاريخ 1/6/2015 ، ومن ثم أنشأ مكاتب تابعة له في معظم مناطق الريف الإدلبي، ويضيف المحامي ان المحكم في المركز يعمل عمل القاضي، ويختص التحكيم بالفصل في النزاعات المالية والتجارية والإجتماعية بشكل نهائي دون الرجوع إلى المحاكم الأخرى حيث الأمور أكثر تعقيداً على حد وصفه.

يتقاضى المحامون رواتبهم 300دولار من رابطة المحامين السوريين الأحرار، ويعمل المحكمون في المركز على حل يرضي الجميع تحت شعار (التحكيم خيار المتخاصمين) وقرارات التحكيم الصادرة عن المركز معترف عليها من قبل كافة المحاكم والجهات الرسمية الموجودة في المنطقة.

يستقبل المركز أكثر من خمسين قضية شهريا، ويتمكن المحكمون من حلها جميعا برضى طرفي التحكيم، وبرأيّ رئيس مركز التحكيم محمد المحلول هناك قبول واضح من قبل المواطنين لهذا النظام القضائي لأنه يجمع بين الشرع والقانون لإرضاء الجميع، بالاضافة لتمتع المحكمين بخبرة واسعة وبال طويل في حل الخلافات والنزاعات.

 نظام التحكيم في المركز ليس جديدا بحسب المحامي محمد المحلول، بل معمول به من أيام النظام ولكن على نطاق ضيق.

نهاية الحرب.. الحلم المنتظر

رغم تحول الصراع السوري ونتائجه إلى روتين يومي، مازال السوريون ينتظرون انتهاء الحرب لإعادة بناء حياتهم. هديل شابة من ريف إدلب تقول :" أن ما تمر به سوريا مرحلة انتقالية، وكل ما يحدث حولها جديد. هناك تخبط وفوضى ولكن هذا أمر طبيعي نظرا لوجود فصائل عديدة وجهات حاكمة عديدة أيضا، و مع استمرار الحرب والقصف فإن كل ما يهم المواطن في مناطق المعارضة هو أن ينعم بالأمان وأن تحدث معجزة تنهي الحرب، إن مايجول في فكر كل مواطن هنا إلى أين سأنزح؟ كيف سوف أواجه ارتفاع الأسعار؟ وقلة فرص العمل؟ هل سيكون أطفالي في مدارسهم بخير؟ هل من الممكن اليوم أن تقصف الطائرة الحربية إحدى المدارس أم إحدى المشافي؟ ومع كل هذه التساؤلات فالمواطن هناك كما تقول هديل يحاول أن "يعيش حياته الطبيعية، أن يتزوج، ينجب، يعمل، يتسوق، وحتى يبتسم. إنه يحاول أن يعيش ويتأقلم مع كل ما يحدث."

 بعد حوالي 3 سنوات من سيطرة المعارضة على مدن وبلدات ريف إدلب، بات واضحاً أن المعارضة السورية لم تثبت قدرتها على خدمة المواطن السوري في مناطق سيطرتها، ولم تستطع الحكومة المؤقتة أن تحقق تغييرا إيجابيا في حياته التي أصبحت رهنا لتغير ميزان القوى العسكرية والمالية بين فصائل المعارضة السورية. أما ساحة التجارب المشتركة  بين السلطات المتناثرة في سورية فهي حياة المواطن السوري.

المقال نتاج تعاون بين خمس منظمات إعلامية سورية بهدف تسليط الضوء على الحكايات السورية بطريقة عميقة، وهي: حكاية ما انحكت، مؤسسة أريح للصحافة الاستقصائية، راديو روزنة، سيريا ديبلي، مركز توثيق الانتهاكات في سورية.

المشروع بدعم من مؤسسةIMS، وستنشر المقالات بصيغة مختصرة باللغة الانكليزية على وكالة UPI

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد