الإعلام السوري البديل: إلى أين؟


22 تشرين الثاني 2015

محمد ديبو

باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها، يعمل محرّرا في صحيفة العربي الجديد.

بعد اندلاع الثورة السورية (آذار 2011) وجد المتظاهرون والأحرار أنفسهم أمام آلة إعلام النظام الكاذبة التي اتهمتهم بالسلفية والجهادية وحمل السلاح وتلقي الأموال من الخارج، الأمر الذي استدعى البحث عن آليات لخطاب إعلامي معارض يفند إجراءات السلطة، فتم الاعتماد على الكتابة على صفحات الفيسبوك والمعلومات التي ينقلها ناشطون ومعارضون معرفون على صفحاتهم، بالتوازي مع ظهور "شاهد العيان" الذي كانت تستضيفه قنوات الإعلام العربية، ما زاد الأمر غموضا وتشكيكا وأتاح للنظام استثمار الأمر على الأقل بالنسبة لمؤيديه ) خاصة أن اسم شاهد العيان بقي مغفلا)، الأمر الذي دفع النشطاء مرة أخرى للبحث عن بدائل توصل آراءهم وأخبارهم، فتم تأسيس عدد من الصحف والإذاعات والمواقع الأخبارية المتخصصة بما يحدث في سوريا، كل من جانب، بالتوازي مع تشكل غرف إعلامية أو فرق إعلامية في الداخل السوري، بعضها يعمل بشكل مستقل، وبعضها الآخر يعمل لصالح مؤسسات أو مجالس محلية، ليتشكل ما يسمى اليوم الإعلام البديل في سوريا، حيث أصبح لدينا عدد كبير من الوسائل الإعلامية، بعضها توقف وبعضها لا زال يواصل المسيرة، لأسباب كثيرة تتعلق بالدعم ومواقف النشطاء وأوضاع الأرض المتبدلة ما بين ليلة وضحاها.

أغلب الإعلام السوري البديل ولد في رحم الثورة السورية، ما يعني أنه تشكل كإعلام ذو أجندة ثورية في أغلبه، محددا أهدافه بالتسليط على جرائم النظام واستبداده، ومتطلعا لدولة مدنية. إلا أن تعقد الصراع السوري ودخول الكتائب الجهادية المصنفة على لوائح الإرهاب العالمي (داعش، جبهة النصرة) على خط الثورة، وتزايد انتهاكات الفصائل العسكرية الأخرى، وضع هذا الإعلام أمام مسؤولية الانحياز للحقيقة، والخروج من بوتقة الثورة إلى بوتقة الإعلام، وهو الانتقال الذي نجح حينا وتعثر في أحايين كثيرة.

عن واقع الإعلام السوري اليوم، وعما إذا كان حقق شيئا من أجندته، التقى "حكاية ما انحكت" عددا من المختصين والمهتمين والمطلعين على واقع الإعلام السوري الجديد، وصحفيون يعملون في هذا الحقل الإعلامي الجديد، في محاولة للبحث عن واقع هذا الإعلام، وعما إذا كان يشكل إعلاما حقا أم أنه زال يرواح في نقطة التأسيس.

هل يوجد إعلام بديل حقا؟

من سؤال التشكيك، انطلقنا، عبر طرح سؤال: هل يمكن القول أن هناك إعلام بديل حقا، ولم نكن نعني بالتشكيك نفي وجود هذا الإعلام، بل محاولة معرفة مدى ما أُسس وعُمّق في تربة الاستبداد، وعما إذا كان تمكن من أن يكون إعلاما وليس مجرد "نشرات ثورية" أو بيانات عابرة، فهل تخطى تلك الإشكالية؟

مؤسسة سمير قصير المهتمة بواقع الإعلام في العالم العربي والشريك لبعض المؤسسات الإعلامية السورية ( منها حكاية ما انحكت)، والمتابعة لواقع الإعلام وانتهاكاته من خلال البرامج التي تقدمها والمشاريع التي تعمل عليها، تعتبر من المؤسسات القادرة على إعطاء بعد نقدي ما عن واقع هذا الإعلام، كونها مؤسسة غير سورية ما يبعدها عن "العاطفية" التي قد يقع بها السوريون، وكونها مهتمة ومدركة للكثير من التفاصيل الدقيقة الخاصة بالحالة السورية بسبب قيامها بتوثيق الانتهاكات التي تقع بحق الإعلاميين فيها، ما جعل المدير التنفيذي للمؤسسة "أيمن مهنا" يقول أن "هناك إعلام جديد في سوريا، بدون أي شك. بغض النظر عن تقييمنا لهذه التجارب، لكن يجب أن نعترف أن العدد الكبير للمواقع والمطبوعات والإذاعات أتاح المجال لأصوات وأقلام جديدة، وهناك من سيستمر في العمل الصحافي والإعلامي في السنوات المقبلة، أياً يكن تطور الاوضاع السياسية والامنية في سوريا. أما كلمة "بديل" فتحتمل النقاش. هل هذا الاعلام بديل عن إعلام النظام؟ نعم. هل هذا الاعلام بديل عن الطريقة التقليدية في النظر إلى الصحافة؟ لا أزال أشك بذلك إلا في بعض الحالات الاستثنائية"، وهو ما يوافقه به الباحث والكاتب "عبد الله الحلاق" الذي أصدر مؤخرا كتابا بحثيا بعنوان "الصحافة السورية بين خلافتين" إذ قال: "بالتأكيد هناك وسائل إعلام بديل، إذاعات، فضائيات، صحف ومجلات... خلقها السوريون بفعل الهامش الكبير الذي أتاحته لهم الثورة السورية. موضوع التمييز بين الغث والثمين في وسائل الإعلام هذه موضوع آخر، وبالتأكيد أمام هذا العدد الكبير من وسائل الإعلام البديل ومنشوراته ثمة تمايز تبعاً للتوجه، الإيديولوجيا الملحوظة في الكثير منها "المنشورات والمطبوعات الإسلامية تحديداً"، ومستوى المهنية. لكن، ثمة جدار تم اختراقه بعد الثورة وهذا الخرق يرشّح وجود وسائل إعلام قادرة على إثبات نفسها مستقبلاً".

المدير التنفيذي لمؤسسة سمير قصير أيمن مهنا
المدير التنفيذي لمؤسسة سمير قصير أيمن مهنا

الصحفي "إياد كلاس" وأحد المدراء في إذاعة سوريالي" يعتقد أيضا أنه "بمقارنة الوضع بين آذار 2011، يبدو أن الإيجابيات وصفات الاقتراب إلى سمات الاعلام البديل القويم تزداد طرداً مقارنةً بالسلبيات"، ما يعني أننا بتنا على المستوى الظاهري أمام إعلام بديل في سوريا، إلا أن ثمة شك لا زال موجودا حتى اللحظة، إن كان هذا الإعلام البديل قد تمكن أن يتمثل صفته تلك بالمعنى العميق للكلمة، فما يميزه عن إعلام النظام ( وفق كلاس) أنه  منفصل "عن وسائل الاعلام الرئيسية كإعلام السلطة والتابع للمصالح الرأسمالية، التركيز على القضايا المهمّشة،  رفد جهود المجتمع المدني)"، مؤكدا افتقاده بذات الوقت إلى "الاستقلال التام، اكتمال الفهم لمعايير الصحافة المستقلة الأخلاقية، دمقرطة وشمولية الآراء المطروحة، عدم الحياز السياسي"، في حين يعتقد عبد الله الحلاق أنه لدينا في سوريا نوعين من الإعلام البديل " بعضها يقدم نفسه كإعلام ثوري – معارض، وبعضها الآخر كإعلام مستقل. أشك شخصياً بوجود إعلام مستقل بالمعنى الحرفي للكلمة، خاصة في ظل ظروف بالغة التعقيد وبالغة الدموية كالحال السوري. وبرأيي أن ذلك مفهوم بالطبع، وإن كان لا يبرر التوجهات الكارثية في بعض وسائل الإعلام هذه"، الأمر الذي يضع مهنية هذا الإعلام على المحك، خاصة إذا عرفنا أن أحد الأسباب التي كانت سببا لولادة هذا الإعلام هو البحث عن مهنية إعلامية بعيدا عن إعلام النظام الكاذب، فهل هذا هذه المهنية متوفرة اليوم؟ وبأي حد؟

المهنية والموثوقية: شرطان لم يتحققا بعد

حول مهنية الإعلام السوري الجديد يقول مهنا أن "غالبية التجارب اعتنقت منذ البدء عقيدة تأييد الثورة ومعارضة النظام. إن الموقف السياسي مشروع في العمل الصحافي، لكن يجب ألا يحول ذلك دون التدقيق بالمعلومات واعتماد المهنية في التغطية. وهنا الضعف الحقيقي للإعلام السوري الجديد. فالظروف الأمنية والسياسية، وضرورة العمل من خارج سوريا، والضغوط، تحتم على الوسائل الإعلامية الجديدة التأقلم مع قوى الأمر الواقع. بالإضافة إلى ذلك، ما زال الاعلام الجديد بغالبيته، قديماً في شكله وإن اعتمد الانترنت، بسبب اعتماده الكبير على مقالات الرأي، وضعف جانب التحقيق الاستقصائي والصحافة التفاعلية عن صفحاته. سبب ذلك الظروف الأمنية من جهة، ومن جهة أخرى ضعف معرفة القيمين على هذه التجربة بما هو فعلاً حديث في مجال الصحافة".

الكاتب والباحث عبد الله الحلاق
الكاتب والباحث عبد الله الحلاق متحدثا خلال ندوة عن كتابه

ويعترف "كلاس" وهو الذي يعمل في وسيلة إعلام بديل أيضا، بأن الإعلام الجديد يعاني من "مشاكل مهنية، مادية، وسياسواجتماعية"، وإن برر الأمر بأنه يعود إلى "مشاكل متعلقة بالوضع الراهن الذي يصعب فيه فصل الموقف السياسي بحياد كامل، وبالأخص أن نشأة هذا الاعلام كانت على أيدِ نشطاء وصحفيين مرتبطين بالحراك السياسي والثوري"، مؤكدا بذات الوقت أنه رغم كل الصعوبات "يقدم صورة أفضل، أكثر استقلالاً وأقرب إلى الموضوعية والحياد، خصوصاً في السنة الأخيرة من عمر النزاع في سوريا بالرغم من ازدياد أطراف هذا النزاع".

وإذا كان هناك معيار يمكن أن نقيس من خلاله مهنية الإعلام السوري ومدى ما حقق، قد يكون في البحث عن مدى اعتماده مصدرا للمعلومة حول وعن سوريا من قبل الجمهور أولا ووسائل الإعلام العالمية، إذ يقول عبد الله الحلاق حول هذا الأمر أن الأمر يختلف بين وسيلة وأخرى، فعلى "المستوى السوري العام، بالتاكيد الإعلام البديل ليس مصدراً إلا في حالات قليلة ربما"، في حين أنه قد يكون كذلك فيما يتعلق بالإعلام المناطقي كما في داريا والزبداني فهو "على علاقة بتفاصيل يومية مهمة جداً ومصدر رئيسي في اكتشاف وفهم ما يحدث في تلك المناطق"، في حين يرى كلاس أن "الكثير من وسائل الاعلام تعتمد الإعلام السوري البديل كمصدر مهم للمعلومات، وقد يكون السبب هو صعوبة الحصول على المعلومات في سوريا بأي طرق أخرى، لكن لا يُقدّم هذا الاعلام كمصدر موثوق 100% بسبب صعوبة التحقق من المعلومات، وهي مشكلة يعاني منها الاعلام السوري البديل بسبب صعوبة توثيق الكثير من الحالات في الداخل".

"مهنا" يرى أن الأمر ليس في موضوع الموثوقية فحسب، فهناك وسائل إعلام سورية "موثوقة وأصبحت مصدراً للمعلومات"، إلا أن المشكلة تكمن بعدم وجود "مصدر سوري معتمد كمصدر وحيد للإعلام الدولي. المؤسسات الدولية لا تزال تبحث عن مصادر إضافية لتأكيد ما يحصل على الأرض في سوريا. وما هو غياب هذه المصادر إلا أحب الأسباب الأساسية لتضاؤل المساحة المخصصة للحدث السوري في الإعلام الدولي"، الأمر الذي يدفع للبحث في مشاكل الإعلام السوري الجديد.

ما هي مشاكل الإعلام الجديد؟

تختلف المشاكل والأولويات من جهة إلى أخرى وتتعدد وفقا لزاوية النظر التي يتخذها المرء، فـ"مهنا" يرى أن "المشكلة الأساس تتحدد بعدم معرفة الإعلام لجمهوره"، إذ "لم تجرِ حتى الآن دراسة جدية لمدى معرفة الجمهور السوري بهذه الوسائل: من يقرؤها؟ من يستمع للاذاعات الجديدة؟ في أي أمكنة؟ ما هي البرامج أو المقالات التي تثير الاهتمام؟ هل يعرف اللاجئون السوريون عن هذه الوسائل؟ فطالما لا نحصل على إجابات جدية عن هذه الأسئلة، ستبقى وسائل الاعلام الجديدة تتخبط"، في حين يحدد المشكلة الثانية بالتمويل، لأن "تكاثر هذه الوسائل هو نتيجة للتمويل الدولي الكبير والعشوائي الذي كان متوفراً ومن ثم اختفى. لم تخطط الوسائل الإعلامية الجديدة للاستدامة المالية لكي تتخطى المشاريع الممولة دولياً والخاضعة لقرارات في عواصم هذه الدول لا يمكن التأثير بها من قبلنا".

وإذا كان كلاس يحدد المشاكل بـ"غياب الاستقلالية التامة ومصاعب الاستمرارية من الناحية المادية واللوجستية"، فإن صاحب كتاب "الصحافة بين خلافتين" يقسم المشاكل إلى ذاتية وموضوعية، إذ يرى أن الموضوعي يتعلق "بالواقع السياسي والأمني في بلدنا. نحن عانينا كسوريين وإعلاميين وكتّاب سوريين "بالعموم" من سلطة الحزب الواحد التي ابتدات عام 1963، وفرغت معنى العمل الصحافي والفكري من رسالته عبر احتكار وسائل الإعلام، وبعد الثورة استكمل القمع بأساليب أكثر عنفاً، على يد النظام الذي لم يتوقف عن القمع منذ خمسين عاماً، إلى جانب جماعات تكفيرية معادية للحريات والديمقراطية والتعددية"، في حين يحدد الذاتي بأنه يتعلق "بتكاثر المنابر بشكل كبير مقابل أهمية المضمون ونوعيته ومهنيته... يلفتني غياب هوية واضحة لمنابر كثيرة يمكن أن تكون عموداً فقرياً لذلك المنبر ورسالته وهذه مسألة تتعلق بالصحافيين واستعدادهم لحمل رسالة أساساً. إلى جانب سؤال الاستمرارية والتمويل وكيفيتها".

مستقبل الإعلام:

إذا كان الإعلام السوري البديل تخطى مرحلة إثبات الوجود، ولم يتخطى بعد مسألة تكريس المصداقية والمهنية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، يتعلق بمدى قدرة هذا الإعلام على أن يستمر اليوم وغدا، ليثبت أنه غير مرتبط بالثورة فقط، بل بحاجة سوريا له فعلا، إذ يتوقع كلاس أن يشهد الإعلام البديل "تطور في الخبرات وفي الرؤية، واقتراب أكثر من حاجات الجمهور، والاتجاه بشكل أكبر للعب دور الرقيب والسلطة الرابعة"، إضافة إلى توقعه أن يتوجه هذا الإعلام إلى "تشكيل اتحادات وعناقيد ومجموعات عمل متشابكة بشكل أفضل بضمان عدم تكرار العمل والاستفادة من الجهود الجمعية"، في حين يعتقد عبد الله الحلاق أن مستقبل الإعلام شبيه بمستقبل سوريا نفسه، أي "نجاح بعض التجارب وفشل بعضها مع الفوضى المستمرة، لكن سوريا بصحفها الثلاثة ومحطتيها التلفزيونيتين الوحيدتين لن تعود أبداً، وهذه بداية يراهن عليها مستقبلا للإعلام السوري ولسوريا عموماً"، في حين يرى "مهنا" أن "الأقوى سيبقى موجوداً والعدد الأكبر سيختفي. أما مستقبل قدرته التأثيرية فيعتمد على المهنية في تحديد الجمهور المستهدف وحجمه ونوعه، والمهنية في الإدارة المالية، وتطوير مفهوم العمل الصحافي تماشياً مع ما يحدث في هذا القطاع حول العالم".

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد