ضد سياسة "أهون الشرين"


21 آب 2015

راتب شعبو

راتب شعبو: طبيب وكاتب سورى من مواليد 1963. قضى من عمره 16 عامًا متّصلة (1983 - 1999) فى السجون السوريّة، كان آخرها سجنُ تدمر العسكري. صدر له كتاب دنيا الدين الإسلامى الأوّلَ، وله مساهمات فى الترجمة عن الإنكليزيّة.

من أهم السمات المميزة للصراع السوري الحالي غياب أي فاعلية للاتجاه السياسي الذي يمثل مصلحة غالبية السوريين، وذلك بعد أربع سنوات ونصف مما يفترض أن يكون مرحلة كثيفة من الصراع السياسي وإعادة الاستقطاب واختبار ملاءمة التوجهات والأفكار السياسية. لا يحتاج المرء إلى تحليل كي يدرك أن لا مصلحة لعموم السوريين الذين ثاروا ضد النظام السوري في سيطرة اتجاهات الإسلام السياسي ولاسيما الجهادية منها، لأنها تنطوي على أشد نزعات الاستبداد والتمييز الديني والمذهبي، ما يجعلها في خانة النظام الذي تقاتله والذي أراد السوريون في ثورتهم الخلاص منه. قليل من يشك في أن مصلحة السوريين تكمن في نشوء دولة ديموقراطية علمانية تُحمى فيها الحقوق الأساسية للمواطن والجماعات السياسية عبر سيادة القانون، ويتم تداول السلطة وفق آلية انتخاب دوري حر ومُراقب. مع ذلك يبقى هذا التوجه السياسي هامشياً وبلا فاعلية، وحين يسعى إلى الفعل والتأثير فإنه يجد نفسه، بسبب هامشيته، مشدوداً إلى أحد قطبي الصراع وضائعاً في ثناياه.

على مدى هذا الصراع الرهيب انحصرت الفاعلية السياسية والعسكرية بين قطبين: قطب النظام الذي يريد أن يستمر في حكم سورية كما كان، دون أي زاد سياسي سوى جعل السوري يحن إلى عيش طبيعي، مهما يكن، بعد أن برع النظام وأعداؤه المجانسين له في الطبيعة، في تحويل سورية إلى جحيم لا يطاق. يمكن تلخيص البرنامج السياسي للنظام بالتالي: مقاومة التغيير بكل السبل مستفيداً من قوة وثقل الدولة ومن الصورة السلبية التي استقرت في أذهان العامة عن المعارضة. الهدف هو خلق وضع مأساوي يغدو معه الوضع الماضي في ظل النظام "أفقاً سياسياً" يطمح إليه السوري، طالما أن النظام لا يمتلك "أفقاً سياسياً" مستقبلياً. الماضي هو المستقبل الموعود وفق رؤية النظام، أو قل إن مستقبل النظام هو ماضيه.

القطب الثاني هو الإسلام الجهادي بتنويعاته التي تسيطر على الجبهة العسكرية المواجهة للنظام. هذا القطب لا يملك هو الآخر أي زاد سياسي يعتاش عليه سوى مواجهته للنظام. لا يمتلك مشروعاً سياسياً يشد السوريين إليه ولا يمتلك فكراً سياسياً يمكن أن يجيب على تعقيدات الواقع السوري، ولا تفسير لقبول السوريين هؤلاء الجهاديين والقتال معهم سوى أنهم القوة الأشد والأكثر إمكانيات عسكرية ومالية في مواجهة النظام الذي دفع قطاعاً واسعاً من السوريين إلى قبول كل من يعاديه ويحاربه على إطلاق.  المعادلة التي استقرت في سوريا: كما يعيش النظام على مدى انحطاط "معارضته"، كذلك يعيش الجهاديون على مدى انحطاط النظام ووحشيته وانعدام قيمه. ويمكن تصوير الحال بالقول إن إجرام كل قطب يشكل رصيداً سياسياً للقطب الآخر يمده بإمكانية المضي في إجرامه الخاص وهكذا.

لا توجد سياسة مستقلة عن القوة العسكرية المباشرة في سوريا اليوم. أو لنقل إن السياسة في سوريا اليوم هي اشتقاق من العسكرية المباشرة بصورة تنقلب معها اطروحة كلاوزفيتس وتغدو السياسة هي امتداد للحرب. بمعنى إن القيمة السياسية للنظام عند جمهوره تتأتى من قوته العسكرية ضد "جهاديين وإرهابيين"، والقيمة السياسية للجهاديين عند جمهورهم تتأتى من محاربتهم للنظام المجرم والإرهابي. وفي التطلع إلى سوريا المستقبل سنجد أن لدى جمهور كل قطب معايير متعاكسة في الاتجاه ومتماهية في الطبيعة، ما يمكن أن يحيل وحدة الشعب السوري ووحدة الدولة إلى خراب.

في الصف الموالي بات الموالون يعتبرون أنفسهم شركاء في "سلطة النظام" بعد أن دافعوا عنها بعشرات الآلاف من أرواح أبنائهم ولا يزالون، ينطوي هذا على بذرة صراع في الصف الموالي حول احتكار السلطة وامتيازات "العائلات الحاكمة"، ولكنه ينطوي أيضاً على اعتبار آخر مفاده إن من كان على الطرف الآخر من الخندق (المعارضة) غريب عن السلطة ولا مكان له فيها، أو إنه، بالحد الأدنى، في مرتبة ثانية بعد أن جرى تصنيفهم كعملاء وخونة وحاضنة للإرهاب ..الخ. وفي الصف المعارض هناك من يقول (مثل رئيس المجلس الوطني لإعلان دمشق في المهجر، محمود حمزة) إن "مقياس الوطنية والانتماء الحقيقي للوطن هو الانخراط في الثورة"، ما يعني إبعاد غير المنخرطين ومعاملتهم كأناس ناقصي الوطنية وضعيفي الانتماء الحقيقي للوطن.

لا ترسم العسكرية المستشرية في سوريا اليوم خطوط تقسيم على الأرض فقط، بل ترسم خطوط تقسيم في نفوس واعتبارات وتصورات السوريين بعضهم عن البعض الآخر، حين يبني كل طرف أحقيته على ما يلغي أحقية الآخر ويخرجه من "الوطن" كما يجري الإخراج من "الملة". وقد بلغ هذا المنحى أقصاه في قول بشار الأسد خلال خطابه أمام أعضاء ورؤساء المنظمات الشعبية في تموز الماضي: "الوطن ليس لمن يسكن فيه أو يحمل جنسيته وجواز سفره بل لمن يدافع عنه ويحميه". ما يجعل الأفغاني الذي يقاتل إلى جانب النظام أحق بسوريا من السوري الذي لا يحارب مع النظام. وفق هذا التطرف، ينتقل الخلاف السياسي إلى مستوى لا سابق له في تاريخ الصراعات وهو "الفصل من الوطن" كما لو أن الوطن حزباً سياسياً لا أكثر. وينطوي هذا القول "الرئاسي" على افتراض وجود مركز أو منصب يخول شاغله بأن يفتي في الانتماء إلى الوطن من عدمه، ويمتلك المقياس الذي يمنح الناس ما يخولهم تخطي عتبة الوطن أو البقاء خارجه، وقد كان هذا المنصب الافتراضي كامناً في عبارة النفاق الكبرى التي صاغها أحد الصحفيين الحلبيين حين أطلق على الأسد الأب لقب "سيد الوطن"، وها هو الأسد الابن يمارس اليوم هذا المنصب، فيصادر بيوت المعارضين ويجد لديه الحق في إخراجهم من سوريتهم، تماما كما يصادر أهل داعش والنصرة المنازل والممتلكات في مناطق سيطرتهم ويخرجون أصحابها من الإسلام، اعتماداً على قول مشابه لقول بشار، هو "الأرض لمن يحررها".

لا فائدة بعد اليوم من سياسة أهون الشرين، امتلأ هذا الكأس وفاض ولم يعد منه جدوى، الفائدة اليوم تكمن في تحرير السوريين من هذا الاستقطاب المستحكم، تحرير السوريين من القطبين معاً ونسج أرض مشتركة تكاد تنعدم بينهم، هذا فقط هو العمل السياسي الذي يمكن أن يضعف قطبي الصراع اللذين يطحنان سوريا، وينجي سوريا من فكرة التقسيم التي تحوم فوقها.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد