السوري قام.. حقا قام


19 آب 2015

محمد ديبو

باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها، يعمل محرّرا في صحيفة العربي الجديد.

وسط أكوام الحزن التي بتنا نعيش في ظلها لم نعد نصدق أن ثمة خبرا قد يغمرنا بالفرح. هل يمكن؟

في الوقت الذي نعيش حزنا، فاجعا، مثقلا، مربكا، خانقا، ممزوجا باليأس والفجيعة والخيبة والعجز أمام جثث الشهداء المتراصة في دوما، والتي كانت قبل قليل وجوها تضج بالفرح والحب رغم كل الحصار.. في هذا الوقت بالذات يأتي خبر، ليؤكد لنا أننا ما زلنا بشرا قادرين على الفرح، بشرا قادرين لا على أن نفرح فقط، بل أن نغمر بالفرح بنفس الكمية التي غمرنا بها الحزن قبل قليل!

نضبط أنفسنا ملتبسين بجرم الفرح، وفرحين لأننا لازلنا بشرا يهزنا الفرح ويغمرنا كما لو كنا في عرس صديق أو حفلة نجاح صديقة. ما زلنا بشرا؟

هذا ما يصيب السوري، وهو يقرأ خبرا يقول: " بعد اعتباره شهيداً جراء غارات طيران الأسد. "الشهيد" ‏محمد ريحان (صورة المقال) يخرج حيّاً بعد ثلاثة أيام قضاها تحت الأنقاض".

هكذا إذن، ثمة شيء آخر غير الموت، ثمة قيامة بعد الموت. ثمة خبر مفرح يأتي من تحت الأنقاض اللعينة التي دفنت أحبابنا وشهدائنا وضنى أمهاتنا.

 روح تخرج من فم وحش الموت متحدية، لتمدنا بالعزم والقوة، لتطرد اليأس والعجز الذي استولى علينا طيلة أيام المجزرة المستمرة في دوما وفي سوريا ككل، وسط صمت عالم أصم أجوف قاتل.

نحدق في وجه "الشهيد الحي" القادم من تحت أنقاض الوطن، نتشبث بابتسامته الهادئة كأنها غير مصدقة أنها نجت، بما علق بشعر ذقنه وشاربيه من تراب وغبار، أو ليس الإنسان من طين؟ دفن فيه لثلاثة أيام ثم عاد منه. ألم يكن في رحلة فحسب، عاد إلى أصله الطين وقرر العودة!

هكذا الأمر ببساطة، إنها المقاومة العادية بلا رتوش، بلا بطولات، بلا إعلام، بلا تزيين، بلا أي شيء. مقاومة مواطن عاد من الموت بعد أن تعب منه الموت.

إنه السوري الذي يدفن مئات الشهداء يوميا، ليعود بجثة حي يخبرنا عما هو الموت: ماذا فعل خلال الثلاثة أيام؟ هل كان معه أحد من الشهداء وقرر ألا يعود معه؟ هل تحدثوا تحت الأنقاض؟ بما فكر؟ كيف خاطب الموت الملتصق به أكثر من التصاق الجفن بالعين؟ كيف خرج من معركته معه منتصرا؟

بعد الانتهاء من ترف الأسئلة، نفكر بذاتنا بما تحدثه فينا الصورة: صور المجزرة تفجر فينا غضب العجز، وصورة القادم من ركام الموت تفجر فينا غضب التحدي ومقاومة الموت نحو حياة تليق بذلك العائد إليها.

محمد ريحان: أهلا بك في نادي الحياة. ليس لأنك نجوت وهزمت الموت فحسب، بل لأنك أنقذتنا من موتنا الذي نظنه حياة.

أهلا أيها السوري الذي قام.. حقا قام.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد