مجلس علوي "حاكم" في "الجمهورية السورية"!(2)


06 تموز 2015

محمد ديبو

باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها، يعمل محرّرا في صحيفة العربي الجديد.

القسم الثاني/جزء2:

آليات السلطة/ المجلس في إخضاع الطائفة:

 قد يكون الاجتماع الذي تحدثتا عنه "شابري" في الأعلى هو النقطة التي استند عليها النظام لسحب الغطاء الاجتماعي عن كل معارض في الساحل السوري، حيث تشير المعلومات المتوفرة إلى أن بعض عمليات الاعتقال كان يسبقها كتابة عبارات على جدران القرى من نوع "يسقط النظام العلوي" أو إطلاق إشاعات مكثفة عن التعامل مع الإخوان أو إسرائيل أو "بندر وحمد" الآن، لتأتي عملية الاعتقال وسط عدم تعاطف مع المعتقل، بل بارتياح وشماتة أحيانا، لأن النظام تمكن من إنقاذهم من "خائن وعميل" من بين صفوفهم، مغذّيا بذلك الخوف الأقلوي من الآخر إلى أقصاه، وحاكما باسمه، لتصبح "سيكولوجية الجماهير" المجيّشة هي الحاكمة هنا والسابقة للسلطة في العمل، ليتقلص العمل السياسي لصالح تقدم حزب البعث وحده (نسبة البعثيين قياسا إلى عدد السكان في كل من اللاذقية وطرطوس في عام 1985 أصبحت أكثر من المتوسط بنسبة 170.5 بالمئة، وهي نسبة ستزيد مع الزمن صعودا).

بعد "تنظيف" الساحل من معارضيه تعمّدت السلطة أن تذهب النسبة الأكبر من كل جيل إلى الجيش والمؤسسات الأمنية مع تقديم تسهيلات للجامعيين الذين يودون متابعة دراستهم على حساب الجيش. على المستوى الظاهري كان الأمر متاحا للجميع، إلا أن الأجهزة الأمنية كانت تختار في نهاية المطاف النسب التي تريدها، بحيث يذهب العلويون إلى المناطق الحساسة بالنسبة للنظام ( أمن، حرس جمهوري، قوات خاصة، فرقة رابعة، كلية فنية..). كان القسم الأكبر من العلويين مدفوعا في هذا الطريق بحكم الحاجة الاقتصادية و لهذا تعمدت السلطة عدم تنمية المناطق الساحلية إلا بالحد الأدنى وهو أمر ينطبق على كل المناطق خارج المدن الكبرى ( دمشق، حلب، حمص)، فمن يتفوّق أو يملك مال الواسطة يذهب إلى فروع تلتزم الدولة بتوظيف المتخرج ومن لا يدفع يذهب إلى الجيش (الأمر تغيّر بعد عام 2000). وهو ما يفسّر تضاعف أعداد الملتحقين بالجيش والأمن من الساحل السوري في ثمانيات وتسعينيات القرن الماضي (تعداد الجيش 60000 جندي عام1966 و137000 عام 1975 و 362000عام 1984)، وهو أمر ينطبق على الطوائف الأخرى فيما يخص العناصر الأدنى رتبة ولكن حصرا لا ينطبق على العناصر الأعلى رتبة، وهذا ما يفسر وجود الكثير من أبناء الأرياف السورية وأطراف المدن المهمشة في مؤسستي الجيش والشرطة بغض النظر عن خلفياتهم الطائفية، ليصبح القسم الأكبر من السوريين ممسوكون بلقمة الخبز سواء كانوا موظفين لدى الأمن أو مؤسسات الدولة الظاهرة التي تحوّلت عمليا إلى رب عمل، في ظل عدم وجود موارد مستقلة للعيش إلا ما ندر.

الدور الأكبر والمخيف هو الدور الذي لعبه النظام/ المجلس في اختراق الطائفة دينيا، إذ أن السلك الديني تقليديا كان محتكرا لعائلات تتوارث المشيخة. إلا أنه مع بداية التسعينات ستبدأ ظاهرة تلفت الانتباه ألا وهي قيام بعض الضباط ورجال الأمن (خاصة بعد ترك وظائفهم) بمهمة رجل الدين وإكثارهم من حضور المناسبات الدينية، ليترافق الأمر تدريجيا مع تقديس الأسد الأب بوصفه "وليا من أولياء الله" من خلال استحضاره الدائم في تلك الجلسات عبر الدعاء له، إذ تجري عملية التخدير والتقديس تدريجيا ومن داخل الصف الديني مقابل التقديس الظاهري الذي تقوم به مؤسسات الدولة الظاهرة، فيصبح "الدكتاتور" مقدسا بالنسبة لهم. ومن هنا نفهم أسباب جنون رجال الأمن من شعار "يلعن روحك يا حافظ" فهو مسّ مقدساتهم قبل أن يمس رجل الدولة بالنسبة لهم، ومن هنا نفهم أيضا معنى أن يقول أحد السجانين لإحدى المعتقلات: "فيكي تلعني أبي قدامي بس ما فيكي تلعني حافظ"، وهو ما نفهم معناه جيدا حين ندرك أن بعض جلسات الدين كانت تدعو بشكل صريح لحماية "الدولة الخصيبية" كما قال لنا أحد المصادر، الأمر الذي قد يفسر لنا من جهة أسباب عدم وجود مرجعية دينية للعلويين حيث احتكرت السلطة الأمر، ومدى تلاعب السلطة بالدين من داخله، كما فعلت في كل الطوائف التي كان رموزها يمجدون الدكتاتور على المنابر، مع فارق أنه في حالة الطائفة العلوية والأقليات تعزّز الأمر بخطاب الخوف من الآخر "السني" الذي حافظت السلطة عبر أجهزتها على إبقائه حاضرا بشكل مباشر في الأزمات وبشكل غير مباشر في الأيام العادية عبر عبارات تردد بشكل دائم مثل "والله إذا حكموا السنة لنشوف الدم يجر البحص"، الممزوج بالخوف من السلطة نفسها والذي يعبّر عن نفسه بعبارات من نوع "الدبين الأزرق ما بيعرف وينو" و "الدولة ما بينعلق معا"، ليتقدّم الخوف الأول التاريخي الدفين على الثاني، وليصبح العلويون في نهاية المطاف محاصرين وممسوكين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا من قبل السلطة، حدّ فقدان المناعة الكلية أمام تغوّل السلطة التي غرست آليات "السيطرة الغامضة"، فبات قسم كبير منهم ينتج خطاب السلطة ويتماهى معه بفعل الخوف منها ومن الآخر القادم، خاصة أن عنف النظام الوحشي و بروز داعش وجبهة النصرة والكتائب الإسلامية وأصحاب الخطاب الطائفي الصريح لم يدع مجالا لطريق ثالث.

ماذا يعني هذا؟ هل النظام طائفي؟

استنادا لما هو متوفر من معلومات ووثائق حتى الآن، وبفرض وجود المجلس من عدمه، لا يمكن وسم النظام بأنه طائفي، لأن النظام الطائفي هو ذلك النظام الذي يأخذ بعين الاعتبار مصلحة طائفته في كافة السياسات والقوانين والمراسيم، وكذلك حين يتهدد عرشه، أو حين ينص الدستور أو قوانين الدولة على مواد تقول صراحة بهذا الأمر، بحيث تبدأ الطائفة من الأسفل تنظر لنفسها بأنها ممثلة سياسيا بهذا النظام وليست محتمية به خوفا من القادم كما هو حال العلويين اليوم، ولعل دولا مثل إيران و لبنان والعراق اليوم، أمثلة واضحة عن ذلك، حيث القانون يجعل من طائفة ما ممثلة سياسيا، الأمر الذي يحدث فعله في القاع الطائفي الذي يبدأ ينظر ويعي نفسه وفق هذا الأمر، في حين أنه في الحالة السورية يجري الأمر بشكل سري وعميق ومن قبل سلطة تنظر لجميع الطوائف والإثنيات والأديان باعتبارها أدوات تعينها على إبقاء السلطة بيدها لاغير. و ظهور الأمر مضخما في الحالة العلوية لا يقرأ طائفيا من جهة الطائفة بقدر ما يقرأ سلطويا من جهة النظام الساعي للاعتماد على أبناء منطقته ومناطق الأرياف عموما في وجه من يحتمل أن يهددوا سلطته، ولهذا كانت مدن مثل القنيطرة ودرعا والرقة وأرياف دير الزور من أكثر المدن ولاءا للنظام ( في عام 1985 ولدى إجراء مقارنة بين أعضاء البعث وعدد سكان المدينة تبين أن مدينة القنيطرة ممثلة بأكثر من المتوسط بنسبة 186 بالمئة، في حين أن درعا ممثلة بأكثر من المتوسط بـ 131 بالمئة والسويداء أكثر بـ 202 بالمئة، مقابل 71 بالمئة لدمشق و41 بالمئة لحلب)، الذي غلّب العامل الريفي على المديني هنا، في حين غلّب اللعبة المناطقية والعشائرية بين العلويين أنفسهم، حيث أن البنية الصلبة للنظام ( الأمن والضباط الكبار) تأتي من اللاذقية وجبلة، وهو ما كان مكان احتجاج صامت يعبّر عن نفسه في المجالس الضيقة من أهالي طرطوس وأرياف بانياس، إذ حتى داخل الجيش والأمن كان هؤلاء يشعرون بالتمييز تجاه أولئك، لأن أعلى رتبة يصل إليها أبنائهم هي "عميد" إلا ما ندر، إضافة إلى عدم توّرع النظام عن اللعب بهم عشائريا حين يريد، فهو (حتى وإن كانوا طائفته فهو لم يراهم من هذا الباب أبدا) لم يتورّع عن تفعيل الحساسيات العشائرية بينهم لإبقائهم ممزقين، وغير قادرين على التعاضد بوجهه، وهو ما كان يلحظ في الانتخابات المحلية والتشريعية، حيث تتفعل الحساسيات العشائرية ( خياطيين، حدادديين، كلبيين..) حد التصادم أحيانا، لتعود الأمور إلى "طبيعتها" بعد انتهاء الانتخابات، وبعد أن يكون النظام حقق أمرين: الأول مباشر يتعلّق بدفع هؤلاء نحو الانتخاب بكثافة لمن يريدهم، ولكي يثبّت شرعيته من خلال نسبة الانتخاب، والثاني: منع الاندماج الوطني وإبقاء ورقة العشائرية حيّة، ليستخدمها وقت يشاء، وهو الأمر الذي كان يحصل على امتداد سورية، وفقا للطريقة الناجعة في كل منطقة، ففي الجزيرة تستخدم لعبة القبائل والأفخاذ وفي المدن لعبة العائلات أو الريف والمدينة، وفي عالم البرجوازية خصومات رجال المال وعلاقتهم مع مراكز القوى الأمنية، وفي مدن أخرى: الشوايا والبدو.. ما يعني أن النظام لم ينظر للعلويين بعين غير تلك التي ينظر بها للطوائف والعشائر الأخرى، فهم أداة لتعزيز السيطرة لا غير. وما مقتل هذا العدد الكبير بين صفوف فقرائهم (لنقرأ جيدا فقرائهم فقط، فمن امتلك المال دفع ليهرب خارج البلاد أو يؤجل سحبه للجيش) اليوم دون أدنى اكتراث منه، إلا دليلا على ذلك. حيث طوّر النظام عمليا جوهر النظام الأمني الذي وضعه الفرنسيون في فترة الانتداب، ف "من أجل مقاومة المعارضة السنية شجعت فرنسا صعود السكان المنتمين إلى الأقليات من الطبقات الاجتماعية الأكثر فقرًا. وأرست سلطة الانتداب بذلك أسس الجهاز الأمني الحالي" كما يقول كونراد شتيلير، في بحثه "أجهزة الأمن اللبنانية والسورية:بصمة الانتداب الفرنسي،2012"، فلم يكن هم فرنسا حماية الأقليات أو غيرها، بل تحقيق مصالحها، لأن " الاستراتيجية الفرنسية القائمة على إضعاف السنة كانت تهدف إلى التحكم في هذه الطائفة ذات النفوذ الكبير. بذلك أخضعت فرنسا السوريين بطوائفهم المختلفة مع تقليص هامش تحركهم. ولا شك أن استمرار الطائفية هو من أهم النتائج المستدامة للسياسة الأمنية الفرنسية في المشرق" كما يقول كونراد، وكذلك الأمر بالنسبة للنظام السوري.

ذلك كله، توازى مع حرمان المجتمع والطوائف من الحديث بالطائفية تحت سيف المحاكمة بـ "إثارة النعرات الطائفية" التي حوكم في ظلها أغلب المعارضين السوريين، فالنظام يريد أن يبقى سيّد اللعبة وأن يمنع خصومه من امتلاك ورقة الطائفية لاستخدامها ضده كما يحصل اليوم، الأمر الذي يعني أننا لسنا بصدد نظام طائفي أو نظام "علوية سياسية" بل نظام يحتكر الطائفية ويستخدمها من بين أوراق وأدوات أخرى، مستثمرا إياها عبر تقديم نفسه بوصفه "نظام علماني" يحارب "الإرهاب" ويحمي "الأقليات" التي يقتلها ثم يتكلم باسمها، علما أن تطوّر الأحداث السورية قد يدفع النظام ذاته للقبول بتقسيم طائفي في السلطة، حين يرى أن هذا ما تبقى له، فهو أولا وأخرا نظام باحث عن سلطة تشكل مدخلا للثروة، ولو على خراب البصرة. وهذا أمر ليس جديدا بل كان قائما طيلة حكمه بالمناسبة، فالحكومة والجيش ومجلس الشعب والجيش يتبعان ترتيبا طائفيا يعرفه الجميع (رئاسة الحكومة للسنة وأربع وزارت علوية ووزير لكل طائفة وإثنية، وفي الجيش لكل قائد فرقة نائبان مختلفان عنه بالطائفة)، في حين بقيت السلطة الأمنية بعيدة عن هذا التقسيم. وهذا ما تدافع عنه السلطة حتى الآن: أن يطال التغيير الدولة الظاهرة دون التنازل عن الدولة العميقة وأجهزتها. وهذا ما تطالب الثورة بكسره، لأنه يشكل مدخلا لبناء الوطنية السورية الجديدة.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد