بين الموت والحياة، قال له: لا تتوقف.. أكمل الطريق


17 تموز 2015

(كنت أنا وأخي وسيم في النقطة الطبية نُسعف المصابين. بعد أن أتم وسيم إسعاف ست حالات خرجَ ليستريح قليلاً، فأصيب في رأسه وكنت بجانبه على بعد أمتار قليلة، ركضت إليه وحملته إلى الداخل كي أحاول إسعافه, كانت حالته صعبة جداً, حاولنا نقله إلى المستشفى في مدينة أخرى وفي الطريق تم استهداف سيارة الإسعاف, وحين وصلنا مستشفى سراقب توفي أخي. حين حملته وهو جريح بين يدي, نظر إلى عيني وشعرت أنه يقول لي "لا تتوقف, أكمل الطريق").

ليس ما سبق قطعة من رواية ما أو مقطعا من حوار سينمائي أو مشهدا عابرا يمثل على خشبة مسرح. إنه الواقع السوري كما هو: عاريا، دافئا. حزينا حد القهر، وقويا حد الهشاشة. فانتازيا أكثر من رواية، وواقعيا رغم أنه أكثر كافكاوية مما كتبه "كافكا" ذاته.

لم يكن "أبو البراء" البالغ من العمر ستة وعشرين عاما يتوقع أن ينتهي به المطاف حيث هو الآن، إذ حتى عام 2012 كان يدرس في كلية الهندسة الكهربائية. عين على مستقبل قد يتخرج فيه مهندسا، وعين على سوريا التي دخلت ثورة ضد نظام مستبد، لم تترك أحدا بمناجاة من تأثيرها، ما دفعه لترك دراسته وإجراء عدة دورات تدريب على الإسعاف لتغطية نقص الكوادر الطبية، "وذلك كي أساعد قدر المستطاع, مع الوقت وازدياد ممارستي لهذا المجال شاركت بعدد من الدورات مع منظمات طبية دولية مثل "SAMS" و "أوسو"، ومنظمات أخرى في باب الهوى" كما يقول لحكاية ما انحكت.

أبو البراء. المصدر: الإنسان في سوريا
أبو البراء. المصدر: الإنسان في سوريا

يعيش محمد اليوم في مدينة أريحا في الشمال السوري دون جواز سفر ما حرمه من إجراء دورات خارجية يعزز بها خبرته التي تتراكم استنادا للتجربة الحية التي يخوضها وسط غمار الموت إلى درجة أنه تمكن من إجراء "ثلاث عمليات (عمليتا غدة وعملية زائدة ناكسة) لوحدي، كما أنني كنت أستلم مهام النقطة الطبية منذ الساعة الثامنة صباحاً حتى الساعة الحادية عشر ونصف لوحدي"، في حين أن وقته اليوم مقسّم بين تحصيل لقمة العيش التي يحصل عليها من القيام بجولات تغطي 11 قرية في جبل الزاوية، وبأعمال إحصائية ودراسات لحاجات الناس، يعبئها ضمن جداول البيانات, ليتابع عمله بعد الخامسة مساء كمسعف متطوّع  ومساعد جراح في المستشفى الذي دخل حيّز العمل منذ أشهر فقط، إذ كان قبل ذلك عبارة عن نقاط طبية متنقلة ( خمسة ممرضين في كل نقطة) تعمل في ظروف صعبة للغاية، وفي ظل غياب شبه كامل للأطباء في البداية ما حرمهم فرصة الحصول على دعم وتمويلات، وعرضهم للكثير من المشاكل في تشخيص الأمراض التي كان يساعدهم بها أحد الصيادلة بعد أن غادر الأطباء المدينة، أو الاستعانة بشبكة الأنترنت لمعرفة علاج بعض الحالات.

إلا أن هذا الأمر لم يفقدهم الأمل، بل ضاعفوا العمل من خلال سعي كل نقطة طبية لإقامة "دورات إسعاف أولية لمدة شهر للمتطوعين، ولكل شخص كان لديه رغبة في ذلك"، ما أوصلهم إلى وضع باتوا معه قادرين على استقبال من 75 إلى 100 حالة يومياً (تشخيص, صرف أدوية, إصابات, جروح عادية)، مع السعي الدائم إلى البحث عن أطباء توّفروا بعد "توفر الدعم الكافي وأصبح لدينا طبيب جراحة عامة, طبيب عظمية, وطبيب داخلية (لديه خبرات في كل العيادات ويقوم بتغطية أكبر قسم), ويتم التواصل حالياً مع طبيبةٍ للأمراض النسائية".

أبو البراء. المصدر: الإنسان في سوريا
أبو البراء. المصدر: الإنسان في سوريا

كان حادث استشهاد أخيه بين يديه، بمثابة حدث مفصلي في حياته، إذ زاده الألم وعيني أخيه تصميما على المتابعة بعمله كي لا يلقى أحد مصير أخيه الذي كان يكبره بعامين و "درس في جامعة حلب (كلية الآثار) وكان الأول على دفعته، وبعد تخرجه تم تعيينه معيداً في الجامعة، لكنه لم يتمكن من الالتحاق لأن اسمه أصبح مطلوباً على حواجز النظام, فبقي في المدينة وتطوع في العمل الطبي"، علما أن أخيه الثاني يعمل كفني تخدير وهو حاليا عضو في مجلس إدارة المستشفى.

أعظم سعادة يجدها أبو البراء حين يتمكن من إنقاذ شخص من الموت أو تخفيف الألم عنه، فمرة جاءته طفلة في السادسة من عمرها تتألم، وحين المعاينة تبين له أن الطبيب السابق لم يستخدم الخيطان اللازمة التي تذوب تلقائياً في أنسجة الجسم، فاستبدلها، وحين ذهب ليسجل الحالة جاءت الفتاة وقالت له: "أنا أكيدة أنني سأشفى لأنك أنت من قمت بإنجاز العملية"، ما دفع "أبو البراء" للقول: "لا أستطيع أن أصف ما شعرت به يومها, فأنا لست طبيباً ولكنني تمكنت من إنقاذ هذه الطفلة الجميلة وتخفيف آلامها".

"أبو البراء" وزملائه في المشافي الميدانية والنقاط الطبية المنتشرة على كامل الأرض السورية، جنود يعملون بصمت ويخيطون جراح سوريا بصمت وتصميم علّهم يتمكنون من إيقاف هذا الألم السوري المديد.

هذه الحكاية أنتجت بالتعاون بين حكاية ماانحكت والإنسان في سوريا وراديو سوريالي وجريدة سوريتنا.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد