بما يحلم أطفال سوريا في الحرب؟


09 تموز 2015

حين سئلت إحدى السوريات المتظاهرات في عام 2011 عما يدفعها للتظاهر ضد النظام بكل هذه القوة والعنفوان، وهي الأم لطفلة، أجابت دون تردد أو تلعثم: سأصنع مستقبلا لابنتي كي لا تعيش حاضري.

لم تكن الأم العشرينية آنذاك تتوقع أن تصل سوريا إلى حدود المفارقة حين يقول طفل سوري في عام 2015:"عندما أكبر ويصبح عندي أطفال لن أجبرهم على أن يعيشوا حياةً مثل حياتي، سأعمل على أن تكون حياتهم نظيفةً ... عكس حياتي"!

هذا ما قاله الطفل محمد ( 12 عام) الذي يعمل مع صديقه عبد الله (12 هام) في جمع المواد البلاستيكية في حي الكلاسة في حلب، إذ يقوما كل يوم بجمع النحاس والبلاستيك والألمنيوم من مكبات القمامة بغرض بيعها لأشخاص يقومون بتجميعها داخل دكان تجاري، إذ يقارب دخل كل طفل الـ 150 ليرة سورية يومياً (أقل من دولار أميركي).

محمد وعبد الله يجمعان المواد الصالحة للبيع من القمامة. المصدر الإنسان في سوريا
محمد وعبد الله يجمعان المواد الصالحة للبيع من القمامة. المصدر الإنسان في سوريا

ما سبق يبيّن لنا أن المسارات اللاحقة للثورة جعلت قول الأم يغدو اليوم حلما بعيدا المآل وإن لم يكن مستحيلا. ما قاله الطفل محمد في عام 2015 أغلق الدائرة التي حاولت الأم فتحها في عام 2011، فأطفال سوريا اليوم يحصدون الثمن الأقصى للصراع: جوعا وتشردا وقتلا وضياع، الأمر الذي دفعنا في "حكاية ما انحكت" بالتعاون مع "الإنسان في سوريا" لمحاولة رصد ما يفعل الأطفال في ظل الحصار: كيف يقضون أوقاتهم؟ بما يحلمون؟ أين يدرسون؟ !

هل قلنا دراسة؟

لم يبق لمعاذ (تسع سنوات) المحاصر في مدينة دوما في ريف دمشق منذ عامين، إلا أن يحمل معه قلمه أينما ارتحل، ليكتب به "اسمي على أي شيء يمكن الكتابة عليه، كذلك أكتب اسم أبي الذي تعتقله قوات النظام، واسم أخي الذي استشهد منذ سنتين" بعد أن اضطر لترك مدرسته بسبب الأوضاع.

القلم يغدو بالنسبة لمعاذ وسيلة المقاومة الوحيدة كي لا ينسى القليل الذي تعلمه في المدرسة. بحمله إياه يحفظ حلمه بالعودة إلى المدرسة في محارة الروح، علّ القصف يتوقف يوما ويعود لمدرسته التي يقول عنها "مشتاق لها جداً".

معاذ برفقة قلمه الذي يحمله معه أينما ارتحل ليكتب به على كل شيء. المصدر: الإنسان في سوريا
معاذ برفقة قلمه الذي يحمله معه أينما ارتحل ليكتب به على كل شيء. المصدر: الإنسان في سوريا

في الوقت الذي يدافع معاذ عن حلمه بالعودة للمدرسة يبدو أن الظروف القاسية لم تترك لحسن (اسم مستعار) ذي الاثني وعشر ربيعا أن يفكر بالمدرسة إذ يقول: "لا وقت لدي للتعلم .. المدارس تفتح أبوابها في بعض الأيام وتغلقها في أيام كثيرة، ونفقاتها مرتفعةٌ جداً قياساً بما أجنيه من عملي". لذا هو اختار أن يبيع السجائر في سوق المدينة و الحلويات على أبواب المدارس، مستعيضا عن حلمه بأن يقدم لمن زالوا يصمدون على مقاعد الدرس قطعة حلوى تبعد عنه شبح الجوع، وتبعد عنهم مرارة الحياة.

ليس الحال أفضل بالنسبة لعبد القادر (12 سنة) من حي الميسر في حلب، إذ اضطر لترك المدرسة في نهاية نيسان 2014 بعد أن سقط برميل متفجر عليها، ليذهب إلى العمل في ورشة تصليح وبيع إطارات السيارات "لأنني لم أعد أستطيع متابعة دراستي".

أطفال يعيشون في المدن الأثرية مع جدتهم خوفا من القصف. المصدر: الإنسان في سوريا
أطفال يعيشون في المدن الأثرية مع جدتهم خوفا من القصف. المصدر: الإنسان في سوريا

من لا يعمل ولا يدرس ليس وضعه بحال أفضل، فهو إما محروم من الأب أو الأم أو الاثنين معا، فهذا حال الأطفال الأربعة الذين تركتهم والدتهم وتزوجت بعد أن توفي والدهم جراء معارك "معرة النعمان" ليعيشوا اليوم  مع جدتهم في المدينة الأثرية بما يشبه الكوخ البدائي خوفاً من الاشتباكات والمعارك في المدينة، في حين يضطر أحد الآباء (عمره 45 عام) أن يأخذ معه ابنه (سنتان) أينما تنقل خوفا عليه، بما ما يعني ذلك من تعرّض للمخاطر.

الحرب دفعت الأطفال لأن يكبروا بسرعة، ويغادروا براءتهم التي باتت تنشغل بعالم الاعتقال والموت والقصف والدمار. هذا ما يقوله هذا الحوار الدائر بين المصوّر والطفلة البالغة من العمر سبع سنوات، والمحاصرة في مدينة داريا منذ عامين:

الطفلة: مرحباً

أنا: أهلاً وسهلاً .. هل أستطيع أن التقط صورة لكِ؟

الطفلة: نعم تستطيع، لكن التقط صورة لوجهي فقط دون أن تُظهر الدمار الموجود خلفي .. أنا لا أحب الدمار.

أنا: موافق ... كم أنتِ جميلة.

الطفلة: نعم .. أنا جميلة، وكنت أريد السفر إلى ألمانيا لأتابع دراستي، لكن والدي في المعتقل، وأنا أحبه جداً ولا أريد السفر بدونه.

أنا: ما اسمكِ؟

الطفلة: كان أبي يناديني لولو، ولن أخبرك باسمي الحقيقي كي لأصبح مطلوبة للنظام.

الطفلة لولو من مدينة داريا التي رفضت اعطاء اسمها للمصور كي لا تعرف أجهزة الأمن اسمها الحقيقي. المصدر: الإنسان في سوريا
الطفلة لولو من مدينة داريا التي رفضت اعطاء اسمها للمصور كي لا تعرف أجهزة الأمن اسمها الحقيقي. المصدر: الإنسان في سوريا

النضج المبكر لأطفال سوريا وانخراطهم في عالم الكبار لم يتجلى في العلاقة مع الحرب والنظام والقمع فقط، بل في ذلك الوعي الذي بات يتفتح عبر عبارات تقترب من الشعر. أو ليس الشعر ابن المعاناة؟

انظروا لما يقوله محمود (13 سنة) المحاصر في مدينة مسرابا في ريف دمشق منذ عامين: "لو قمت بجمع كل الأخشاب التي قطعتها أنا بنفسي منذ بداية الحصار, لكان المجموع غابة كاملة".

إنها الحياة تعلّم رغم غياب المدارس. دون أن يمنعهم ذلك من الحلم الدائم بالعودة إلى مدارسهم، إذ يقول "عبد الله": "نحن نعمل ما يزيد على تسع ساعات يومياً من أجل أن نكسب قوتنا، كم أتمنى أن أكون مثل أي طفل يستطيع الذهاب إلى المدرسة والابتعاد عن القمامة، أن أستطيع ارتداء لباس نظيف, وأن ألعب مع أصدقائي في الحي .. أن أقوم بالأشياء التي يقوم بها الأطفال الآخرون".

هل هذا كثير يا الله؟ أليس من حق هؤلاء الأطفال أن يكون لهم مدارس؟

مدارس فحسب، هل من يسمع أو يقرأ أو يرى؟

هذه القصة أنتجت بالتعاون بين "حكاية ما انحكت" و"الإنسان في سوريا" و راديو "سوريالي" و جريدة "سوريتنا".

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد