لم يكتف الحصار بدفع الناس لتغيير عاداتها وسلوكها وأنماط حياتها فحسب، بل دفعهم لممارسة مهن لم يتخيّلوا يوما أن يمارسوها، إذ لم يترك لهم الحصار منفذا أو خيارا، فإما الموت أو الفعل، الاستسلام أو المقاومة التي تشبثوا بها بكل ما أمكنهم من أمل، فاستخدموا كل ممكن ومتاح إلى درجة أنهم تعلّموا مهنا غير مهنهم ليبقوا على قيد الحياة والأمل. ولكن ماذا عن المهن التي تحتاج تأهيلا، والتي يصعب تعلّمها كالطب والتمريض مثلا ؟ كيف تعاملوا معها؟ كيف تعلموها؟ وكيف غطوا النقص الحاصل في كوادرها؟

بعد تعرض طالب السنة الثانية في كلية الحقوق في دمشق "محمود" للاعتقال مرتين على يد النظام، وبعد فرض حصار شبه شامل على جنوب دمشق قرر ترك دراسته الجامعية والبحث عما يمكن أن يفعله للمحاصرين معه.

أمام النقص الكبير بالكوادر الطبية في منطقة مفتوحة للموت الذي يسببه الحصار والقصف المتكرر من النظام قرّر الالتحاق بدورة إسعاف أولي أقامها أطباء وممرضون تعلّم خلالها أساسيات الإسعاف، ليحصل على المركز الأول في الدورة الطبية الشاملة، وليبدأ عمله كمسعف وممرض في مستوصف ببيلا جنوب دمشق، ليشهد له اليوم الأطباء بالكفاءة والمهارة، رافضا الخروج منذ سنتين حتى اليوم، إذ يقول لحكاية ما انحكت: "لست نادماً لأنني لم أتابع دراستي الجامعية، المهم أنني أقوم بواجبي".

وإذا كان محمود جاء إلى التمريض من عالم الحقوق، فإن أبو يزن جاء من عالم "الكيمياء" التي كان يدرسها في الجامعة ليلتحق بمخبر المشفى الميداني الوحيد في داريا منذ عامين ونصف، موظفا خبرته الكيميائية في إجراء التحاليل للمرضى، مضيفا لها ما تعلّمه بالممارسة والدورات التي أجراها على يد خبراء، حيث يقوم اليوم "بإجراء التحاليل للمرضى والمصابين وفق الإمكانيات المتاحة".

في الوقت الذي جاء فيه كل من "أبو يزن" و"محمود" من خارج المهنة، فإن عملهم ما كان ليثمر لولا وجود أبناء المهنة الذين علموهم ولازالوا يعيشون معا نفس المصير، حيث فرض الحصار عليهم واجبا ما عاد بإمكانهم التخلي عنه، إذ يقول الأطباء العاملون في مشفى داريا الوحيد بعد أن أغلقت جميع المشافي ودمرت كل البنى التحتية: "إننا نقوم بواجبنا الإنساني تجاه المصابين و المرضى في مدينة داريا رغم الصعوبات التي تواجهنا .. نقوم بعلاج جميع الجرحى في المدينة رغم نقص الإمكانات و الكوادر و الاستهداف المستمر للمدينة، اليوم نحن مستمرون بعملنا الإنساني رغم كل الظروف و الخطر و أكبر دليل أننا نحن هنا في غرفة العمليات نجري عمل جراحي لأحد المصابين في المدينة .. هذا واجبنا و لن نترك أحد بحاجة لنا دون مساعدة ".

في دوما المحاصرة أيضا، وجد أحمد (23سنة) نفسه محاصرا بعد أن درس سنتين في كلية الصيدلة في جامعة دمشق، إذ قرر عدم العودة إلى الجامعة بسبب الظرف الذي جعل "كل شخص تظهر بطاقته الشخصية أنه من أبناء دوما عرضةً للاعتقال في دمشق" ليبقى عاطلا عن العمل في مدينة دوما حتى تاريخ خروج النظام منها ليبدأ بعد ذلك بشهرين العمل على تأسيس "صيدليتي الخاصة في دوما، وكان هذا أمراً صعباً للغاية بسبب قلة الأدوية وارتفاع أسعارها" الأمر الذي دفعه للبحث برفقة أصدقاء له في ركام الصيدليات المدمرة والمقصوفة أو التي هجرها أصحابها عن بقايا الأدوية الصالحة، الأمر الذي جعل صيدليته مكانا يتوّجه لها المرضى وأصحاب الحاجات الأخرى كما يقول ضاحكا، إذ جاءه مرة مريضا يطلب دواء لوجع الرأس محددا صنفا محددا هو في حقيقة الأمر "مخدر"، الأمر الذي دفعه لإعطائه دواء حقيقي لوجع الرأس. إلا أن "المريض" عاد مرة وأخرى وطلب منه المخدر فقرر أن يعطيه مسهلا أخذه ولم يعد!

ولأن أركان الطب لا تكتمل دون سيارة الإسعاف، فإن هذا ما يقوم به "أبو محمد إسعاف" كما يطلق عليه الأهالي، وهو سائق السيارة الوحيد في مخيم اليرموك المحاصر، رافضا الخروج إذ يقول لحكاية ما انحكت: "لو أردت الخروج من المخيم لما كنت بقيت فيه منذ البداية، ولم يزدني الحصار إلا إصراراً على البقاء وتقديم المساعدة لأهلي هنا .... لو لم يكن هناك سيارة إسعاف لحملت المصابين على كتفي". وهو فعلا ما يحصل، إذ رفض الخروج حتى حين كان مريضا، مفضلا العيش في ظل الحصار منذ سنتين ونصف.

التكامل بين الكوادر الطبية التي تعلّمت المهنة أكاديميا وتلك الساعية لفعل شيء لأهلها غطى النقص الحاصل في المناطق المحاصرة، وأعطى الكوادر الجديدة خبرة ستستفيد منها لاحقا بأي شكل من الأشكال. والأهم أن تعاون الطرفين وصمودهم قلل من زحف الموت، فهم السد الذي يصده ويمنعه من الفتك بأهلهم وأحبائهم إلى أن يفكّ هذا الحصار.

أنتجت هذه الحكاية بالتعاون بين "حكاية ما انحكت" و "الإنسان في سوريا" وراديو "سوريالي" وصحيفة "سوريتنا".