العملية التعليمية في مناطق سيطرة المعارضة المعتدلة


21 حزيران 2015

صبر درويش

كاتب وصحفي سوري. يكتب في عدد من الصحف العربية. من آخر أعماله تحرير كتاب "سوريا: تجربة المدن المحررة".

علينا منذ البداية التأكيد على ان استخدامنا لمصطلح "معارضة معتدلة" هو استخدام إجرائي، نحاول من خلاله التمييز بين المناطق التي تسيطر عليها قوى إسلامية معارضة متشددة، كأحرار الشام وجيش الاسلام مثلاُ، ومناطق تسيطر عليها قوى إسلامية معارضة شديدة التطرف، كجبهة النصرة وتنظيم الدولة الاسلامية المعروف باسم "داعش"، ومناطق تسيطر عليها معارضة "معتدلة" قياساً بسابقاتها، وهي المناطق التي سنتناولها بالنقاش في هذا الباب.

في هذا السياق، سأعتمد على عرض بعض النماذج المتفرقة للعملية التعليمية في المناطق التي تقع تحت سيطرة قوى المعارضة المعتدلة، وأزعم في هذا الصدد، أن أغلب التجارب المعتبرة هنا، متشابهة وتتقاطع في العديد من التفاصيل، ولا تختلف عن بعضها البعض إلا بشكل نسبي.

  • التعليم في بلدة تسيل الحورانية

في منطقة حوران، جنوب البلاد، تمكنت قوات المعارضة السورية ومنذ نهاية عام 2011 من السيطرة على العديد من القرى والبلدات التابعة لمحافظة درعا؛ وفي أغلب هذه المناطق، سادت معارضة معتدلة، نأت بنفسها قدر الإمكان عن أيديولوجيا الإسلام السياسي وما يستتبعه عادة من تطرف، ينعكس عموماً على صعيد الممارسة السياسية لهذه القوى وأشكال تعبيراتها وأسلوب إدارتها للمناطق التي تتواجد فيها، ولهذا الأمر أسباب وعوامل مختلفة تقع خلفه، لا متسع هنا لنقاشها.

تتبع بلدة تسيل لمحافظة درعا، وتمكنت قوات المعارضة في وقت مبكر من فرض سيطرتها على البلدة؛ التي تقع شمال غرب محافظة "درعا"، حيث تبعد عنها حوالي 35 كيلو متراً، يحدها من الجنوب "سحم الجولان" ومن الغرب "وادي العلان" الذي يفصلها عن قرية "عين ذكر" ومن الشمال الشرقي "الجبيلية" ومن الشرق "نوى" ومن الجنوب الشرقي "عدوان"، يبلغ عدد سكان "تسيل" حوالي 20750 نسمة، حتى نهاية الشهر السابع 2009[1].

يوجد في البلدة 11 مدرسة لمرحلة التعليم الأساسي، الحلقة الأولى، وأربع مدارس للحلقة الثانية، ومدرستين ثانويتين، وبلغ عدد المدرسين 323 مدرساً، يتناوبون على التدريس في 152 شعبة (صف)، لعدد من الطلاب لمرحلة التعليم الابتدائي بلغ تعدادهم حوالي 3208 طالب ذكور واناث، بينما بلغ عدد طلاب المرحلة الاعدادية 1253 طالب، الذكور 610 طالب، والاناث 643 طالبة[2]. كما هو موضح في الجدول (3).

عدد الطلاب لمختلف الفئات التعليمية في بلدة تسيل[3]       جدول (3)
فئة التعليم عدد المدارس عدد الطلاب الذكور عدد الطلاب الإناث المجموع
التعليم الابتدائي 11 2000* 1208* 3208
التعليم الاعدادي 4 610 643 1253
التعليم الثانوي 2 215 428 643
المجموع 17 2825 2279 5104

* تقديري.

وعلى الرغم من الأحداث التي تعرضت لها البلدة عبر السنوات السابقة، من قصف وتدمير للعديد من البنى التحتية والمنازل السكنية، ونزوح عدد لا بأس به من سكان البلدة، إلا أن العملية التعليمية بقيت مستمرة دون انقطاع تقريباً؛ بينما أهالي البلدة فقد سارعوا حال استقر الوضع نسبياً فيها إلى العمل على معاودة العملية التعليمية، واعتمدت الفعاليات المدنية المسؤولة عن هذا الموضوع على المنهاج السوري الرسمي في عملية التعليم، ولم يتغير ولم يحدث عليه أي تعديل، بما في ذلك مادة التربية الوطنية ومادة الدراسات الاجتماعية، ويقف خلف ذلك أسباب مختلفة أولها خوف الأساتذة من انقطاع أجورهم التي ما زالوا يتلقونها من النظام.

وهو شيء مدهش في حقيقة الأمر، إذ ما زال نظام الأسد يدفع مرتبات طاقم التدريس، ويبدو أن ذلك يتم بالتواطؤ بين الطرفين، بحيث أن النظام السوري يجبر طاقم التدريس على الاستمرار في استخدام كامل المنهاج التعليمي الرسمي، بما فيه المواد التي تعبر عن فكر وأيديولوجيا البعث، من جهة، ويكون ذلك مقابل الاستمرار بدفع مرتبات الكادر التعليمي من جهة ثانية.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أنه هناك العديد من المدرسين السابقين والذين يتهمهم نظام الأسد بأنهم معارضين سياسيين لحكمه، قطعت عنهم مرتباتهم الشهرية، كما حدث على سبيل المثال مع أحد المدرسين في البلدة، وهو مدرس لمادة العلوم في المدرسة الثانوية. "قدير" وذو سمعة حسنة لدى الأهالي، وخلال أكثر من عام لم يتلقى أي راتب من الحكومة، وتم فصله بسبب تهمة وجهت إليه بالتعامل مع "الجيش الحر"[4]، ورغم ذلك استمر بمزاولة التدريس حتى نهاية عام 2014، وتوقف فيما بعد عن مزاولة عمله التعليمي بسبب تدهور أوضاعه الاقتصادية التي أجبرته على مزاولة مهنة أخرى.

إزاء هذا النقص في كادر التعليم، والذي كان عموماً بسبب نزوح عدد كبير من المدرسين، وتخلي قسماً آخر منهم عن مزاولة عمله بسبب انقطاع مرتباتهم، اضطرت إدارة المدراس إلى تعيين طلاب جامعيين كانوا قد توقفوا عن متابعة تعليمهم بسبب الحرب الدائرة؛ وتمكن فعلاً الكثير من الطلاب الجامعيين من سد ثغرة في هذا النقص.

تشير الملاحظات السابقة إلى أن أغلب المدرسين، هم إما طلاباً جامعيين، وإما مدرسين سابقين ينتمون إلى سلك التعليم، واستمروا في أداء مهماتهم رغم الظروف الغاية في الصعوبة؛ ولم تشهد بلدة "تسيل" في هذا السياق وجود مدرسين من خارج السلك التعليمي، إذ هنا لا وجود لمدرسين من خلفيات دينية على سبيل المثال، كما لا يتدخل "المشايخ" الدينيون في العملية التعليمية، باستثناء مادة "التربية الاسلامية" فيقوم بإعطائها مدرس خريج كلية الشريعة.

 تساهم بعض المنظمات المدنية في دعم العملية التعليمية، وخصوصاً بالنسبة للأولاد الذين اضطرتهم ظروف الحرب إلى الانقطاع عن التعليم، فتقوم بالتنسيق والتعاون مع السلك التعليمي في البلدة، وتسهم في مدّ يد العون للأطفال المحتاجين كمنظمة "تجمع غصن زيتون"، وهي منظمة تهتم بطلاب المرحلة الابتدائية والمرحلة التي تسبق التعليم الأساسي "الروضة"؛ بالإضافة إلى "مجمع البيان التعليمي"، التابع للائتلاف الوطني لقوى الثورة السورية، والذي يقوم بإجراء دورات تعليمية وتقوية لطلاب الشهادة الثانوية.

بالنسبة لمنظمة "غصن زيتون"[5]، فقد تمكن القائمون عليها من فتح تسع مدارس في أماكن مختلفة من محافظة درعا، واهتمت المنظمة بشكل خاص بتعليم تلامذة المرحلة الأساسية الحلقة الأولى، ومرحلة الحضانة، والتأهيل النفسي؛ وفي بلدة تسيل افتتحوا مدرسة واحدة، ويعملون وبالتعاون مع باقي الفعاليات المدنية على تدريب الأساتذة الجدد، ومدّ يد العون قدر الإمكان للسلك التعليمي في المنطقة.

على هذا الصعيد من الصعب أن نلمس فروقاً مهمة طرأت على العملية التعليمية، وخصوصاً أن منهاج التعليم ما يزال هو هو، والمختلف هنا هو أداء كوادر التعليم، والذين عملوا على حذف أغلب ما يشير إلى البعث أو النظام الحالي، أو منجزات القائد "الخالد" وابنه.

وغالباً يسعى المدرسون إلى الابتعاد عن السياسة قدر الإمكان، ويسعون إلى تخفيف آثار الحرب الدائرة قدر المستطاع على التلامذة، الذين أنهكتهم ظروف الحرب؛ بيد أن الأسئلة التي تستثيرها عقول الأولاد الفتية[6]، حول التناقضات التي تواجههم، بين ما تتحدث عنه مناهج التعليم، حول حقوق الطفل ودور الدولة في بناء المدارس وغيرها من المرفقات، وما يشهدونه من تدمير ممنهج تقوم به الدولة عبر جيشها وأجهزتها الأمنية، كل هذا يضع الطفل في تناقض من الصعب حلّه.

  • مدينة يبرود في ريف دمشق الشمالي الغربي

في مدينة يبرود، الواقعة إلى الشمال الغربي من مدينة دمشق، والتي تمكنت قوى المعارضة من السيطرة عليها منذ حوالي بداية عام 2012، تجري العملية التعليمية بشكل يتطابق تقريباً مع ما رأيناه في بلدة تسيل في محافظة درعا.

يوجد في يبرود 9 مدارس ابتدائية عامة، وثلاثة خاصة، وأربع إعداديات إناث، وأربع إعداديات ذكور حكوميات. في كل مدرسة إعدادية ثمانية إداريين، وحوالي عشرين معلم ومعلمة؛ في كل مدرسة ابتدائية تقريبا ثمانية إداريين و15 معلمين.

وعلى الرغم من سيطرة قوى المعارضة على المدينة لم تتغير مناهج التعليم على الاطلاق[7]، وظلت المدارس تعتمد المنهاج الرسمي في التعليم. ورغم ما أثير من سجال حاد بين المنتفضين من جهة والأساتذة من جهة أخرى، حول الاستمرار في إعطاء مادة التربية الوطنية، إلا ان المدرسين تمكنوا من إقناع الشبان بضرورة الالتزام في المنهاج الرسمي، بحجة –وهي حجة فيها من الوجاهة- أن الحصول على الشهادات الدراسية لن يتم سوى بمعايير الحكومة التي تصر على إعطاء المنهاج كاملاً؛ بالإضافة إلى هذا السبب، يتشابه المدرسون في يبرود مع زملائهم في بلدة تسيل، حيث أنهم ما زالوا يتلقون مرتباتهم من الحكومة في دمشق، وهو أمر لا بد أن يؤخذ بعين الاعتبار.

 وعلى الرغم من ذلك، داوم المدرسون في مدينة يبرود على حذف جميع الدروس التي تمجد بالقائد الخالد وتسعى إلى بث أيديولوجيا البعث في عقول الطلبة، حتى ولو كان ذلك بشكل غير رسمي، بسبب الاعتبارات التي سقناها آنفاً؛ وهنا لا بد من الإشارة إلى ملاحظة في غاية الأهمية، وهي التركيز على الدور المهم والحاسم الذي لعبه المدرسون في العملية التربوية والتعليمية؛ فإذا كان من الصعب في ظروف الحرب التي تعيشها هذه المدن، تصميم مناهج تعليمية جديدة، وهو أمر بالطبع من الصعب أن يقوم به أفراد أو حتى منظمات متواضعة، كان والحال كذلك لا بد من العمل على صعيد العملية التربوية، وهي مهمة غالبا ما قام بها المدرسون، حيث شرحوا قدر الإمكان، وبأساليب مبسّطة، ما يجري في محيط التلاميذ من صراع فرض نفسه فرضاً على العملية التعليمية، كما تصدى الأساتذة إلى الأسئلة الكثيرة التي راح يطلقها الأولاد، حول ما يجري حولهم، والعنف المتصاعد في بلدهم.

ومن هنا كان التركيز على دور الأساتذة فيه من الوجاهة ما يجعله أكثر أهمية في اللحظة الراهنة من التركيز على استبدال مناهج التعليم المعتمدة. وهنا تجد مقولة التربية قبل التعليم مشروعيتها، إذ يترتب على كادر التعليم المساهمة في تربية جيل هو الأكثر تضرّراً من الحرب الدائرة في سوريا.

ففي الوقت الذي يبدو فيه أن طبيعة منهاج التعليم وتركيبته وطبيعة ما يبثه من أفكار وأسس تربوية، ينال الأهمية القصوى في الظروف الطبيعية، تصبح هذه الأهمية من نصيب كوادر التعليم، الذين يتوجب عليهم إجراء الكثير من التعديلات، على طرائق التعليم التي عليهم اعتمادها، وإجراء تغييرات جوهرية على أساليب التعليم لأطفال في عمومتهم هم ضحايا للحرب إن كان بشكل مباشر أو غير مباشر.

وفي الحقيقة، قلما نجد اهتماماً كافياً على هذا الصعيد، إن كان على مستوى قوى المعارضة الرسمية، كالائتلاف الوطني، أو على صعيد المنظمات غير الحكومية، وهو تقصير خطير يرمي بظلاله على طبيعة الأفكار التي يتم تسريبها إلى التلامذة عبر أساتذتهم، وهي أفكار في غالب الأحيان منحازة وغير بريئة.

  • التعليم في المنطقة الوسطى، ريف حماه وريف ادلب

كلما اقتربنا من المدن والبلدات الحدودية التي تسيطر عليها المعارضة السورية، وتحديداً في اتجاه الحدود التركية، كلما لمسنا فروقات على العملية التعليمية عما يحدث في مناطق أخرى من البلاد؛ وقد يكون مردّ ذلك إلى سهولة الاحتكاك مع العالم الخارجي، وسهولة وصول الناشطين السوريين والأجانب على حد سواء إلى هذه المناطق والتأثير بها.

في ريف حماه الشمالي والغربي، حيث تمكنت قوى المعارضة من السيطرة على العديد من القرى والبلدات مثل بلدة كفرنبودة التي طالها الكثير من التدمير، وقلعة المضيق في ريف حماه الشمالي، يسود نظام تعليم يشبه في تفاصيل كثيرة ما أدرجناه أعلاه في كلّ من حوران وريف دمشق، مع تعديلات طفيفة كما سنلاحظ.

على صعيد منهاج التعليم، فإن المنهاج المعتمد هو المنهاج الرسمي، مع تعديل على مادة "التاريخ" وحذف كل ما فيها من ذكر للعائلة الحاكمة ومنجزاتها، بالإضافة إلى حذف كل ما يمت بصلة إلى نظام الأسد وحزب البعث، وحذف مادتي التربية الوطنية والدراسات الاجتماعية[8].

بينما كادر التعليم فهو غالباً مدرسون لديهم خبرة، ومنهم طلاب جامعيين، وبعضهم رجال دين وبعضهم الآخر يحمل شهادة جامعية لكن ليست باختصاص التعليم. وقسماً كبيراً منهم ما يزال يتلقى مرتباته من الحكومة السورية، والبعض الآخر يتلقى مرتباته من المنظمات المدنية العاملة في المنطقة.

وكلما ابتعدنا قليلاً باتجاه محافظة إدلب، وتحديداً كلما أصبحنا بمحاذاة الحدود التركية، كلما بدأنا نلمس التعديلات على مناهج التعليم.

ففي العديد من البلدات التي تسيطر عليها قوى المعارضة في ريف إدلب، لعبت المنظمات المدنية دوراً مهماً في العملية التعليمية، ومن هذه المنظمات التي كان لها دوراً مهماً في ذلك منظمة "هيئة الشام الاسلامية"[9]، التي تأسست في تشرين أول/اكتوبر 2011، ورخصت في  مجلس محافظة حلب بقرار رقم (14) وتاريخ 31-8-2013، وهي منظمة ذات توجه إسلامي "وسطي" كما يتم وصفها عادة، ولها العديد من النشاطات المدنية ومنها بطبيعة الحال اهتمامها بالعملية التعليمية.

ووفق وثائق "الهيئة"، فإن القائمين عليها تمكنوا من طباعة 200 ألف كتاب مدرسي، وتوزيعهم على المدارس السورية المختلفة، داخل سوريا في المناطق التي تسيطر عليها قوى المعارضة، وفي مخيمات اللجوء في تركيا؛ وبحسب القائمين على هذه "الهيئة"، فإن المنهاج الذي تم طباعته هو المنهاج السوري الرسمي مع إجراء "تعديلات جذرية عليه"، لذا "بُذلت جهوداً مضنية لتنقية الكتب من هذه الأفكار قدر الوسع والطاقة، وسبقت عملية الطباعة فترةُ رصدٍ للملحوظات، ليتم بعد ذلك تعديلُها على النسخ الإلكترونية، ثم طُبعت هذه الكتب بالألوان في مطابع عالية الجودة"[10]، وفق ما صرحت به "الهيئة".

وكان من أهم التعديلات "الجذرية" التي قامت بها الهيئة: "تمت إزالة جميع صور الأسد ووالده الراحل. وتم استبدال العلم السوري بعلم المعارضة، وتم حذف الإشارات إلى الأسد بأنه "القائد الخالد". لم يعد يشار إلى عصر الإمبراطورية العثمانية بعبارة "الاحتلال العثماني". كما لم يعد يشار للانقلاب الذي قام به الأسد الأب في عام 1970 بـ "الحركة التصحيحية". تم أيضا تغيير مسمى حرب عام 1973 مع إسرائيل التي فشلت فيها سوريا في استعادة مرتفعات الجولان من "حرب تشرين التحريرية" إلى مجرد "حرب تشرين""[11].

وأما السؤال حول أهلية من قام بعملية التعديل، وصفته الرسمية وما يمثله، فهو شيء غير واضح، وهو لأمر غريب أن تقوم منظمة مدنية ليس لها صفة رسمية محددة، أو تعمل على الأقل مع تمثيلات سياسية محددة ومعترف بها، أن تقوم بإنجاز هذه المهمة الضخمة والخطيرة لمجرد أنها تمتلك القدرة على تمويل مثل هذا المشروع، والذي بلغ فقط كلفة طباعة الدفعة الأولى من الكتب المدرسية البالغة 200 ألف كتاب، حوالي 300 ألف دولار!، من غير المعروف تماماً مصدرها ومصدر مانحيها؛ وخصوصاً عندما نعلم أن "هيئة الشام الإسلامية" ليست هيئة مدنية حيادية، ولا هي متخصصة بالشأن التعليمي، وهي إضافة إلى ذلك كله لا تخفي توجهها الإسلامي وما تبذله من جهود للترويج لأفكارها بين أوساط التلامذة السوريين، وهو أمر لم يستشر به أي طرف من السوريين، هذا عداك عن أن القرار حول طبيعة المنهاج الذي يجب اعتماده وعلاقته بالثقافة المرغوب بترويجها، هو قرار وطني. الوضع السوري اليوم غير مؤهل بدرجة كافية لاتخاذه، وهو أمر في غاية الخطورة على صعيد بناء الثقافة المجتمعية السورية في السنوات والعقود المقبلة.

إلى جانب "هيئة الشام الاسلامية"، تنشط منظمات أخرى تهتم بالشأن التعليمي، وقد يكون من أبرز هذه المنظمات منظمة "عِلم" والمعروفة "بالهيئة السورية للتربية والتعليم"، ومقرها في تركيا.

تمكنت منظمة "علم" من طباعة 3 مليون نسخة من المنهاج السوري لمرحلة التعليم الأساسي، والمرحلة الثانوية العامة، ووزعت هذه الكتب على العشرات من المدارس السورية في تركيا، وفي الأراضي السورية التي تقع تحت سيطرة المعارضة، كريف حلب الجنوبي والشمالي، وبعض من ريف إدلب.

المنهاج الذي تم طباعته، هو المنهاج السوري الرسمي، مع إجراء تعديلات كثيرة عليه، حيث تغيّرت أغلفة جميع الكتب المدرسية وحلّت عليها أغلفة جديدة تحمل شعار منظمة "علم" وإلى جانبها شعارات المنظمات المانحة، كجمعية قطر الخيرية[12]، إلى جانب تغيير أغلفة الكتب، قام القائمون على عملية تعديل المنهاج، والذين لم ينجح الباحث بالتوصل إلى أسمائهم!، بحذف كل ما يتعلق بشخصية الأسد الأب والابن، وكل ما يتعلق بحزب البعث وإنجازاته.

ففي كتاب الدراسات الاجتماعية للصف الثالث على سبيل المثال، وفي درس بعنوان "شخصيات تاريخية"، تم استبدال شخصية الرئيس الراحل "حافظ الاسد" بشخصية "هاشم الأتاسي"، الرئيس السابق لسوريا.

كما عمد القائمون على تعديل المنهاج على استبدال الشعارات المعتمدة في المنهاج الرسمي والرموز "الوطنية"، بشعارات أخرى تخص الثورة السورية، وشخصيات وطنية ثورية من شهداء وغيرهم، كان لهم أثر في الثورة التي اندلعت في آذار 2011.

لا يعرض موقع منظمة "علم" أسماء مؤسسيه أو أعضاء مجلس إدارته بشكل مباشر[13]، وعلى الرغم من أن كلفة النشاطات التي تقوم بها المنظمة، تكاد تحتاج إلى دول لتوفر هذا الحجم من الدعم، إلا أننا لا نعلم بالضبط المصادر التي تحصل عليها المنظمة لدعم نشاطاتها، وهو ما أثار العديد من الانتقادات والتلميحات المبطنة من قبل بعض الناشطين السوريين، حول علاقة تنظيم الاخوان المسلمين السوري ووقوفه خلف منظمة "علم"، بالإضافة لدعم قطري لا يخفي نفسه.

ففي حفل "الإشهار" الذي عقد في القاهرة بتاريخ 21-4-2013، وبحضور شخصيات عربية وسورية كثيرة، وفي أثناء "عشاء العمل" الذي حدث بعد مؤتمر الإشهار، تذكر المنظمة في تقريرها حول المؤتمر: تبرع رجال أعمال مختلفين بالأموال لدعم المنظمة، حيث بلغت هذه التبرعات 6 مليون دولار!. وذكر التقرير مجموعة من الأسماء الحاضرة في تلك الأثناء والتي لم يشر إليها التقرير باعتبارها مصدر التبرع، وهي في عمومها محسوبة على تنظيم الإخوان السوري أو قريبة منه، مثل الدكتور "محمد راتب النابلسي" والداعية "نور الدين قرة علي" والشيخ "سارية الرفاعي".. وغيرها من الشخصيات والمنظمات والفعاليات الدينية[14].

وإذا ما نظرنا موضوعياً إلى المنهاج المعتمد في هذه المناطق التي نتناولها بالبحث، سنجد أنها وفي العموم تركز على العملية التربوية والتعليمية من منظور حديث، وأنها إلى حد ما، تبتعد قدر الإمكان عن الأيديولوجيا وما يتعلق بها؛ بيد أن الخطورة التي تقف خلف هذا المشهد المتفائل والذي يبدو عليه الحياد، فيتمثل بالغايات التي تقف خلف نشاطات هذه المنظمات.

فغالباً ما يكون الثمن المدفوع مقابل هذا الدعم الذي توفره هذه المنظمات هو الولاء، ولاء العاملين وولاء الأهالي، وولاء –وهو الأهم- التلامذة السوريون من مختلف الأعمار. ولا غرابة في الأمر هنا أو تجني على أي طرف، فقد كانت شهدت الساحة السورية ممارسات تقترب من ذلك، فوظفت على سبيل المثال "السلل" الإغاثية، في سبيل الحصول على ولاء مستحقيها، ومنحت هذه المساعدات لأولئك المستعدين لتقديم هذا الولاء، واستغلت العديد من المنظمات "الخيرية" والتي تقف غالبا خلفها جهات سياسية، حاجة الناس وبؤس حياتهم بسبب ظروف الحرب، في سبيل مقايضة ولائهم مقابل سلة غذائية.

وعلى الرغم من هذه اللوحة الكالحة، وهي كذلك فعلاً، تنشط منظمات مدنية مستقلة، وتثبت عبر أعضائها المتطوعين في غالبيتهم، إمكانية العمل رغم الظروف المعقدة التي تحيط بالعمل المدني المستقل.

ففي أيار من سنة 2013 تمكن مشروع "غراس"[15] من فتح أول مدرسة في مدينة معرة النعمان في ريف إدلب، بالتعاون مع جمعية "بسمة أمل" الموجودة في المدينة، حيث تشاركت الجمعية مع المشروع في العمل الميداني، وكان التمويل عن طريق المشروع ذاته؛ وبحسب الناشطة المدنية د. خولة الحديد، فقد بدأت فكرة مشروع "غراس"، عندما قرر مجموعة من الشباب، المباشرة في تأسيس مشروع يهدف إلى توفير التعليم البديل عبر إقامة مدارس ميدانية، يتم  فيها تعويض الطلاب ما فاتهم من التعليم وضمن الإمكانيات المتاحة[16].

ونتيجة المثابرة التي أبداها فريق العمل، والذي ضم أكثر من 50 متطوعاً، تمكنوا من افتتاح سبع مدارس، موزعة بين مدينة معرة النعمان، وريفيها الشرقي والغربي، كما تمكن فريق العمل من توفير التعليم المجاني لألف طالب بين الصف الأول إلى الصف الثالث الأساسي، عبر دورة مكثفة لمدة ثلاثة أشهر.

ولا يختلف المنهاج التعليمي المعتمد هنا، عن باقي المناطق المشابهة، حيث يتم اعتماد المنهاج الرسمي مع حذف مواد الدراسات الاجتماعية والتربية الوطنية، وحذف كل ما يشير إلى العائلة الحاكمة او حزب البعث.

4- خاتمة

تعرضت العملية التعليمية في سوريا في ضوء الحرب الدائرة فيها منذ بضعة سنوات، إلى أضرار كبيرة، ستترك آثارها السلبية على المدى المتوسط والطويل؛ بينما سيكون أكثر المتضررين هم الأولاد السوريين في سن الدراسة (5-17) عام. حيث ستؤدي هذه الأزمة إلى حرمان الآلاف من الأولاد السوريين لحقهم في تعلّم آمن ونافع. ومن جهة أخرى، سيؤدي "التشظي" في المنهاج التعليمي، واختلاف أشكال إعطاء هذا المنهاج من قبل كادر التعليم، إلى تفكك محتمل في الثقافة الوطنية السائدة، من حيث المرجعيات القيمية والأخلاقية وحتى الوطنية، التي يعد التعليم بوابتها من أجل بناء ثقافة وطنية تشد أبناء الوطن الواحد وتوحد معاييرهم القيمية والأخلاقية.

وأياً يكن الأمر، فإنه يتوجب على القائمين على العملية التعليمية في سوريا، إخراج التعليم بأسرع وقت ممكن من حلقة الصراعات السياسية الدائرة اليوم، وتجنيب الأولاد السوريين الانخراط في هذه الصراعات، وهو ما يفترض العمل على اختيار مناهج تعليمية تركز على أصول التربية والأخلاق، وبث معايير الثقافة الديموقراطية التي تؤسس، لدى الأجيال الشابة، وعي ضرورة الاختلاف واحترام الرأي الآخر؛ وهو أيضاً ما يفترض تضافر جهود جميع الأطراف المعنية بالعملية التعليمية، بدءً بكوادر التعليم، وليس انتهاء بمصممي المناهج التعليمية.

وعلى الرغم من أن ظروف الحرب الدائرة في سوريا لا تسمح بدرجة كافية بتضخيم أحلامنا بتوفير تعليم لائق، إلا أن ذلك يفترض ألا يمنع المهتمين بالشأن التعليمي من بذل الجهود المناسبة من أجل توحيد جهود هذه الأطراف وبناء شراكات متينة مع جهات دولية، قادرة على أن تمد كادر التعليم بالمؤهلات المطلوبة، كما أنها قادرة على توفير الدعم من أجل تصميم مناهج تعليمية تتناسب مع روح العصر وما تفرضه من ضرورة زرع ثقافة حقوق الانسان وحق الاختلاف لدى العقول الفتية، والتركيز على أن الانسان بحد ذاته قيمة عليا.

المراجع:

[1]- قرية تسيل، على موقع wikimapia، مجهول تاريخ النشر، على الرابط: http://cutt.us/Jj4o

[2]- المعلومات في الفقرة أعلاه وفي الفقرات التالية، حصل عليها الباحث من المدرس بلال الغمرة من بلدة تسيل، وأنا مدين له بالكثير من التفاصيل المتعلقة بالعملية التعليمية في بلدة تسيل، وبعض قرى حوران الأخرى.

[3]- تم جمع المعلومات بالاعتماد على بعض المدرسين في بلدة تسيل.

[4]- "الجيش الحر"، مصطلح يطلق على الأجنحة المسلحة للمعارضة السورية.

[5]- المعلومات في هذه الفقرة والفقرة التي تليها من حوار مع المدرسة الفاضلة هند مجلّي، من درعا، والمسؤولة في منظمة غصن زيتون.

[6]- في أحد دروس الصف الثالث في مرحلة التعليم الأساسي، ويجري فيه الحديث عن منجزات القائد الخالد وما بناه من مدارس..إلخ، يقوم أحد التلامذة بعكس الكلام، فيعدد عدد المدارس التي تم قصفها وعدد الأطفال الذين قتلوا.. إلخ، حديث مع إحدى الأمهات.

[7]- حصل الباحث على المعلومات في هذه الفقرة والفقرات التي تليها من حوار مع المدرسة ريم من مدينة يبرود.

[8]- حصل الباحث على المعلومات في الفقرة السابقة من حوار مع المدرس عبد الحميد الشحنة، مدرس من مدينة حماه.

[9]- هيئة الشام الاسلامية، الموقع الرسمي على الويب: http://islamicsham.org/

[10]- "هيئة الشام الإسلامية تطبع مائتي ألف كتاب دراسي وتوزعها على الطلاب السوريين في تركيا"، المكتب التربوي والتعليمي- هيئة الشام الإسلامية، 11 مارس 2013 م.

[11]- "لوس أنجلوس تايمز تنشر تقريراً عن مشروع هيئة الشام الإسلامية لتعديل المناهج الدراسية"، المكتب التربوي والتعليمي- هيئة الشام الإسلامية، 15 مايو 2013 .

[12]- طباعة الكتب، منظمة "علم" الهيئة السورية للتربية والتعليم، مجهول التاريخ، الموقع على الويب: http://cutt.us/BngDM

[13]- يعتبر الاستاذ "نعيم مفتي" الأمين العام لمنظمة "علم"، بحسب ما ذكر التقرير الذي غطى حفل إشهار المنظمة بتاريخ 21-4-2013، في القاهرة، في إحدى قاعات جامعة الأزهر.

[14]- راجع التقرير الذي أعدته الدكتورة خولة حسن الحديد بعنوان: "تسييس التعليم في سوريا الثورة. من المستفيد؟ وما آفاق المستقبل؟"، بتاريخ: يوليو 15, 2014، على موقع جريدة "كلنا سوريون".

[15]- "غراس" مشروع سوري مدني تربوي, يهدف عبر إقامة مدارس ميدانية إلى توفير التعليم المجاني للأطفال الذين حرمتهم الحرب هذا الحق؛ من تعريف المشروع على صفحته على موقع فايسبوك.

[16]-  تقرير من إعداد . خولة الحديد، بعنوان: "واقع التعليم الأساسي في المناطق السورية الثائرة"،

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد