بين الماضي والحاضر، العسكرة في سوريا.. إلى أين؟؟


28 أيار 2015

غيث الحلاق

(كاتب سوري مقيم في إيطاليا)

لم تعرف البلاد السورية جيشاً وطنياً غير تابع لقوى خارجية أو إدارات إستعمارية إلا في عهد الملك فيصل بن الحسين، فقد سبقت مرحلة تشكيل الدولة الوطينة مرحلة نزاعات على تركة الامبراطورية العثمانية بين القطبين الاستعماريين الأبرز في تلك الفترة؛ إنكلترا وفرنسا. وأمعنت حكومتا الدولتين في ألا يتم توزيع ما تركه العثمانيون خلفهم إلا حسب إرادتهم ومصالحهم، وقد تم التخطيط لذلك قبل انتهاء الحرب العالمية الاولى عن طريق اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة التي عقدت عام 1916م بين بريطانيا وفرنسا بمباركة من الإمبراطورية الروسية وقتها. وفي خطوة أولية لتطبيق الإتفاقية، أرسلت الحكومة الفرنسية أول قوة عسكرية دخلت سوريا في 6 تشرين الثاني من عام 1918م[1]، واستقرت هذه القوة في جبال اللاذقية الساحلية وأقامت نقاطاً عسكرية هناك.

بعد إعلان تشكيل المملكة العربية السورية في المؤتمر السوري العام الذي انعقد في 8 آذار 1920، وتولية فيصل بن الحسين قائد القوات العربية التي دخلت سوريا في تشرين 1/ 1918م ملكاً على سوريا وإعلان الدولة الوطنية، شعر الملك فيصل بضرورة تشكيل جيش وطني مدرب خصوصاً بعد تزايد التهديدات الفرنسية وزيادة الإشارات على تحضّر فرنسا وبريطانيا لتطبيق مشروعهما الاستعماري خصوصاً بعد أن خرج مؤتمر سان ريمو في 25 نيسان 1920م بمقررات كان أولها أحقية سوريا بالاستقلال ولكن تحت الإنتداب الفرنسي، فكان أن عهد الملك فيصل إلى مرافقه والضابط السابق في أركان حرب الجيش العثماني يوسف العظمة[2] بمهمة تشكيل جيش سوري، ومن ثم عين الفريق علي الرّكابي حاكماً عسكرياً على سوريا[3]. وقام العظمة بالمهمة وأسس جيشاً وطنياً سوريا قارب تعداده 10.000 مقاتل وكان أول جيش وطني سوري قيادةً وتشكيلاً.

نتيجةً لرفض سوريا نتائج مؤتمر سان ريمو والذي يفرض الإنتداب الفرنسي بمضمونه على السوريين، وجّه قائد القوات الفرنسية المكلفة بدخول البلاد السورية الجنرال هنري غورو[4]؛ إنذاراً في 14 تموز 1920م عرف باسمه فيما بعد تضمن في نصه طلب قبول الانتداب الفرنسي أولاً، وحلّ الجيش السوري ثانياً، وسيطرة القوات الفرنسية على محطات السكك الحديدة الواصلة بين الشام والحجاز أخيراً، ومنح حكومة الملك فيصل مهلة أربعة أيام للتنفيذ، فما كان من الملك فيصل بعد ان أدرك ووزرائه عدم قدرة السوريين على مقاومة الجحافل الفرنسية المتقدمة نحو دمشق إلا إن قبل ببنود الإنذار، وأصدر قراراً بحل الجيش الوطني وتسريح ضباطه، الأمر الذي عارضه وزير الحربية "يوسف العظمة" بشدة، وصمم على مواجهة القوات الفرنسية المتقدمة إلى دمشق، وجمع عددا من الجنود والضباط الذين لم يستلموا أمر تسريحهم بعد، إضافة إلى عدد من المتطوعين من دمشق وحوران وجبل العرب وعدة مناطق سورية، إضافة لكتيبة من المتطوعين النجديين على رأسهم الشيخ ناصر بن علي بن دغيثر القائد السابق في جيش الشريف حسين[5]، وشكّل جيشاً غير منظم القوام قارب تعداده 4 آلاف مقاتل، واصطدموا بالقوات الفرنسية في منطقة ميسلون على طريق دمشق بيروت في 24 تموز 1920م، وفاقت القوات الفرنسية قوات الوطنيين العرب عدّةً وعتاداً، وحسمت الطائرات والمدفعية الفرنسية المعركة، واستشهد يوسف العظمة ومن معه في تلك المعركة، ودخلت القوات الفرنسية دمشق لتنتهي حقبة الدولة الوطنية وقتئذٍ، وتنتهي معها حكاية الجيش الوطني السوري الأول في تاريخ سوريا.

***

لم تبرز قوات سورية على الساحة زمن الانتداب الفرنسي باستثناء بضع مئات من الجنود السوريين العاملين في مجال الدرك وحفظ الأمن والحراسة في المدن وقلة منهم من تم تجنيده في صفوف الحامية الفرنسية المقاتلة وباتوا يعرفون فيما بعض (بقوات الشرق)، وهي فصيل عسكري ركيزته جنود سوريون وقيادته فرنسية، وكان التصاعد المسلح الأبرز هو للثوار من أبناء الأرياف في حوران وجبل العرب والشمال السوري والغوطة الدمشقية والساحل السوري، والذين وقفوا في وجه الانتداب الفرنسي والقوات الفرنسية في سوريا، والذين كانوا نواة إشعال الثورة السورية الكبرى التي استمر ت لسنوات انتهت بخروج الفرنسيين والجيش الفرنسي من سوريا في 17 نيسان عام 1946م.

قبل انسحاب القوات الفرنسية من سوريا، كانت القوات المسلحة السورية ممثلة بمجلس الدفاع الأعلى، واللجنة السورية العليا لاستلام الجيش من القوات العسكرية ويقودها العقيد صلاح البزري، وفيما عارض الانكليز تشكيل جيش سوري وأكدوا أن السوريين لا يحتاجون لأكثر من لواء هجانة لحماية الجزيرة والبادية ويدعم قوات الدرك المنتشرة في المدن، إلا أن الجيش السوري تشكل بقرار وطني من الحكومة السورية وبدعم من الفرنسيين أنفسهم الذين باعوا جزءاً كبيراً من أسلحتهم ومستودعاتهم للحكومة السورية من أجل تسليح الجيش السوري الوليد، بخطوة اعتبروها ردّا على الإنكليز الذي ساهموا (من حيث وجهة نظرهم) في جلاء الفرنسيين وإنهاء نفوذهم في البلاد السورية، وكان قوام الجيش السوري وقتها عند تشكيله في 1 آب 1946م ، حوالي 12.000 مقاتل، وعين أحمد الشرباتي وزيراً للدفاع[6].

وبعد حملة ضغط سياسي داخلي قادها زعيم الحزب الاشتراكي العربي "أكرم الحوراني" من أجل تأهيل كوادر عسكرية وطنية مدربة تكون نواة رئيسية للجيش الوطني السوري[7]، استجابت الحكومة السورية وأقرت فتح الكلية العسكرية في حمص بعد أن كانت مدرسة عسكرية في السابق، وبسبب المغريات التي توفرت في الدراسة في الكلية العسكرية من تأمين المأكل والمشرب والتعليم المجاني والمصروف الشهري للطلاب، فقد جذبت الكلية بالدرجة الأولى الطلاب من الأرياف التي كانت تعيش واقعاً اقتصاديا صعبا في تلك الفترة، إضافة لأبناء الطبقات الفقيرة من سكان المدن، فيما ترفع أبناء العائلات الرأسمالية والمعروفة في المدن عن الانتساب لها في ظل توفر الخيارات الأوسع للعمل في التجارة والمهن المختلفة، وشكلت الأقليات العلوية والدرزية والاسماعيلية والكردية والمسيحية النواة الأكبر من طلاب الكلية الحربية، الأمر الذي ظهرت نتائجه بعد أعوام على تغيير شكل الحياة السياسية في سوريا.

عام 1948، وبعد صدور قرار تقسيم فلسطين، كانت أول مشاركة فعلية لأفراد وضباط من الجيش السوري  بعد الاستقلال حيث تطوّع العديد من هؤلاء في صفوف القوات العربية التي تجهزت للدفاع عن فلسطين، ودخل لواء سوري مقاتل فلسطين واشتبك إلى جانب  القوات العربية الأخرى القادمة من الحجاز والعراق والأردن مع العصابات الصهيونية، وكان التفوق الصهيوني في تلك المعارك هو المسيطر لعدة أسباب أولها كثرة اليهود المتطوعين للقتال من البلدان الاوروبية، وثانيها وليس آخرها تباطؤ الحكومات في الاردن والعراق في اتخاذ القرارات والتلكؤ في توجيه الأوامر لقواتها، وبعد معارك فلسطين مباشرة قدم وزير الدفاع الشراباتي استقالته[8]، وتسلم جميل مردم منصب وزير الدفاع.

حتى تلك الأيام لم يكن الجيش السوري بضباطه وأفراده مرتبطين بسياسات أحزاب أو بأفراد أو بسلطات معينة، بل أن ضباطه كانوا يفضلون النأي بأنفسهم عن العمل السياسي على اعتبار أن ولائهم كان للوطن وليس لحزب أو سياسي معين. وانعكس ذلك على مواقف العسكريين في حرب فلسطين حيث أكدوا أن الواجب الوطني في الدفاع عن فلسطين أهم من الانضباط العسكري، وبناء على ذلك فقد ترك العديد من الضباط والجنود مكاتبهم وثكناتهم وتوجهوا إلى الجبهة في فلسطين.

الجيش والنزاعات السياسية، بداية التدخل:

الفترة ما بين عامي 1948 م و1958 م كانت فترة بروز العسكرة على الساحة السياسية، وتحكمها بالقرار السياسي والحكم، وذلك عن طريق عدد من الانقلابات التي قام بها ضباط بارزون في الجيش السوري، وكان ذلك نتيجة طبيعية للضخ الذي بدأت به الاحزاب السياسية في سوريا لمتطوعيها داخل الكلية الحربية منذ انشاءها، ما أدى إلى انتشارات الولاءات السياسية داخل الجيش بعد سنوات مضت، وانعكس ذلك على الساحة من خلال عدة انقلابات، إضاقة الى اللعب على وتر الخسارة في حرب فلسطين من قبل السياسيين والضباط، واستغلال الأمر للقيام بهذه الانقلابات كسباً لتأييد كان متوقعاً في الشارع السوري وهو ما لم يحدث.

التدخل الخارجي كان واضحاً في تلك المرحلة من قبل الدول المجاورة لسوريا والدول الكبرى، وتقلبت المواقف السياسية من الانقلابات حسب المصالح ما بين السوفييت والأمريكان والسعودية والعراق والأردن.

في ذلك الوقت برز اسم عبد الحميد السراج الضابط المخابراتي الذي كان أول من نظم جهازي الأمن والبوليس في سوريا، وعين رئيساً للمخابرات العسكرية السورية، ومع سيطرة السراج على الأجهزة الأمنية في سوريا، بدأ الحكم الأمني بمظاهره الاولى في البلاد. السراج الذي كان مقرباً من الرئيس المصري جمال عبد الناصر في ذلك الحين، ساهم بشكل كبير في الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958، وأصبح رجل جمال عبد الناصر الأول في سوريا. مرحلة الوحدة بين سوريا ومصر تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة شهدت إضعافاً مقصودا للجيش السوري في الاقليم الشمالي، وتجلى ذلك في عدة مظاهر مثل تسريح عدد كبير من الضباط الفلسطينيين، ونقل الكلية الجوية من حلب إلى مصر وتخفيض عدد الضباط السوريين المقبولين في الكليتين الحربية والجوية[9].

حسب الدلالات، فإن هدف عبد الناصر الأكبر من إضعاف الجيش السوري كان بالدرجة الأولى قتل مصادر القوة العسكرية في الاقليم الشمالي وحصرها في الاقليم الجنوبي من جمهورية الوحدة، فبعد أن حلّت الأحزاب السياسية في سوريا لم يكن هناك من منغص بالنسبة لعبد الناصر سوى القوة العسكرية السورية خصوصا بعد سلسلة الانقلابات التي شهدتها البلاد في السنوات العشر الماضية، وذلك كان دافعاً كافياً بالنسبة لعبد الناصر الذي سعى لأن يكون زعيماً مطلقاً دون منازع على البلدين.

غير أن الضربة الموجعة جاءت لعبد الناصر و السراج معاً من أكثر الناس قربا من المشير عبد الحكيم عامر ، وهو عبد الكريم النحلاوي رئيس مكتب شؤون الضباط[10]،ففي 28 أيلول/ 1961 م، وبدعم من السعودية والأردن، قاد النحلاوي قوة عسكرية وحاصروا مركز قيادة الجيش وبداخله المشير عبد الحكيم عامر، ولم يأخذ الأمر أكثر من 24 ساعة قبل أن يغادر عامر وأعوانه البلاد، ويعلن بعد ذلك بأيام الحكم الذاتي في سوريا من جديد.

وفي نيسان 1962 م، قام ضباط بعثيون وناصريون بانقلاب جديد يهدف للاطاحة بالنحلاوي وحكومته، حيث كان النحلاوي شخصا أصوليا بالنسبة لهم، إلا أن هذا الانقلاب فشل بسبب تباين الأهداف بين الضباط البعثيين الذين كانوا يهدفون لتصحيح مسار سياسة البلاد ومن ثم العودة إلى العلاقات مع مصر، وبين الضباط المصريين الذين كان هدفهم الأساسي إعادة الوحدة سريعا مع مصر، وعادت البلاد في تلك الفترة إلى مرحلة تقلب سياسي ظاهر قبل أن تقوم اللجنة العسكرية التي تشكلت في مصر بقيادة الضابط العلوي محمد عمران بانقلابها عام 1963 م، معلنة بداية عهد جديد في تاريخ الجيش السوري خاصة، والبلاد السورية بشكل عام.

عقائدية وتسييس الجيش السوري:

لعل تلك المرحلة كانت المرحلة المفصلية في تاريخ الجيش السوري، فتسلم صلاح جديد مكتب شؤون الضباط، وحافظ الأسد مسؤولية دعم الوجود الحزبي في صفوف الجيش، أدى إلى صبغ الجيش السوري بصبغة بعثية حزبية وأقلوية دينية باتت واضحة للعيان، وأساساً؛ فإن النسبة الغالبة في الجيش كانت من الأقليات، غير أن الأمر كان عائداً لعوامل اقتصادية واجتماعية أهمها ابتعاد أبناء الطائفة السنية عن الجيش تفضيلهم العمل في المجالين التجاري والصناعي، إلا أن التيار الأقلوي أصبح سياسةً متعمدةً خصوصا بعد حملة تطهير للجيش من الضباط القوميين والناصريين وتسريحات جماعية للضباط السنة، وأيضاً مابعد انقلاب جديد على عمران عام 1966 أيضاً وتسلم الأسد وزارة الدفاع من خلال تسريحات لعدد من الضباط الدروز المحسوبين على حمد عبيد قائد الجيش السابق، وظهر مصطلح ( عدس ) في أوساط الجيش السوري للدلالة على الوجود الأبرز في صفوف الجيش في تلك الأيام والمتمثل بـالخليط الطائفي ( علوي، درزي، إسماعيلي).

حتى اليوم لا تزال آثار الاستراتيجية التي اتبعها حافظ الأسد كوزير دفاع ظاهرة في الجيش، فالطائفية أصبغت على الجيش بشكل شبه كامل في التعيينات والمناصب والإدارات الهامة، ولم يكن الثمن الذي تم دفعه في حرب 1967 مع اسرائيل هو الوحيد، فالتركيز على التركيب الداخلي للجيش والتنظيم الحزبي لصفوفه على حساب التدريب العسكري والتسليح الفعال أدى الى خسارة الحرب عام 1967، وتبعه الفشل المعنوي الآخر في أحداث أيلول الأسود في الأردن بعد تدخل القوات السورية إلى جانب المقاومة الفلسطينية. كل ذلك كان كافياً ليكشف عن أزمة الضعف الواضح في صفوف الجيش وعدم تماسكه وتدريبه الكافيين، وبعد أن قام الأسد بانقلابه (الأبيض) أو ما عرف بالحركة التصحيحية عام 1970، وبدأت مرحلة جديدة بالاسم فقط، وليس في السياسة الداخلية والعسكرية. حاول الأسد إظهار  علمانيته عن طريق تعيين عدد من رجالات الدولة الكبار كمصطفى طلاس وزيراً للدفاع، وحكمت الشهابي رئيساً للأركان، وفاروق الشرع وزيراً للخارجية ومحمود الزعبي رئيساً للحكومة، وكلهم رجال سنة سعى الأسد من خلال تسليمهم تلك المناصب إظهار  كرهه للطائفية ونظرته العلمانية في الحكم، إلا أن الواقع أثبت ماهو عكس ذلك، فلم يكن لهؤلاء أي تأثير في القرارات المصيرية والكبرى، فالقرار الأول والأخير بالنسبة للجيش بقي بيد الأسد وبيد شقيقه رفعت الذي استلم قيادة ما عرف بسرايا الدفاع التي كان يرأسها محمد عمران سابقاً، إضافة إلى سيطرة رؤساء الأفرع الأمنية المختلفة. وبقي الجيش خاضعاً لذلك النفوذ طوال فترة حكم الأسد وما مر بها من أحداث عسكرية هامة كحرب تشرين والحرب اللبنانية والحرب مع الإخوان المسلمين وحتى وفاته، وحافظ عليها من بعده وريثه بشار حتى هذا اليوم.

ملامح القوات المسلحة في فترة حكم آل الأسد (1970-2011):

لو أردنا حصر ملامح الجيش السوري في فترة حكم عائلة الأسد منذ أكثر من أربعين عاماً، لاستطعنا تلخيصها بأربع ركائز أساسية دأبت السلطة على تدعيمها وترسيخها في صفوف الجيش.

  • الطائفية: تجلى واضحاً تعميق دور الطائفة العلوية من خلال عدة مظاهر أولها إعطاء الأولوية لأبناء الطائفة في القبول في الكليات الحربية بأنواعها، وفي دورات التطويع المختلفة في صفوف الجيش والأمن، إضافة إلى حصر المراكز الحساسة والمؤثرة بيد ضباط كبار من أبناء الطائفة. ( قادة أجهزة الأمن، قادة الفرق والفيالق)، ولعل في ذلك التوجه نوعاً من ضمان عدم حدوث أي حركة انقلابية عسكرية تشابه تلك التي كانت تحدث في الخمسينات والستينات من القرن الماضي.
  • مركزية القرار: فالقرار الأول والأخير من القصر الجمهوري وليس من وزارة الدفاع، ولا يمكن أن تعطى أي صلاحية لأي ضابط في الجيش مهما علتْ رتبته في أي أمر ميداني أو عاجل أو طارئ أو لحظي، ويبقى الأمر الأول والأخير بيد القائد العام للقوات المسلحة المتمثل بشخص الأسد الأب سابقاً والابن حالياً.
  • التحزيب والبعثية: وذلك ما غدا واضحاً من خلال التنسيب الإجباري كشرط للالتحاق بالكليات العسكرية، وأيضاً دورات العضوية التي تجرى للمتطوعين والمجندين الغير منتسبين من أجل تنسيبهم في صفوف الحزب، وأخيراً وليس آخراً إدخال مادة (التوجيه السياسي) كمادة أساسية تدرس للأفراد في الجيش.
  • الرقابة الأمنية: فقد تم إحداث منصب ضابط أمن في كل قطعة عسكرية بدءاً من الكتيبة وحتى الفيلق، هذا المنصب لم يكن موجوداً قبل عام 1970، ويرتبط ضابط أمن القطعة العسكرية بشكل مباشر مع إدارة المخابرات العسكرية، ويمتلك صلاحيات واسعة نسبياً ضمن قطعته المعين بها.

تلك كانت أبرز الأسس التي اعتمدها النظام السوري تحت حكم آل الأسد في تسيير الجيش وقيادته لاكثر من أربعين عاماً. وقد نجحت تلك السياسة في جعل الجيش مؤسسة لحماية النظام بالدرجة الأولى قبل حماية البلاد، إلا أن النظام حصد النتائج العكسية لهذه السياسة لاحقاً بعد اندلاع الثورة السورية في آذار 2011م.

العسكرة في سوريا بعد اندلاع الثورة السورية في آذار 2011م وحتى الوقت الحالي:

آذار من عام 2011 كان بداية للتحولات في سوريا من جميع النواحي، وكان أبرز تلك التحولات على الصعيد العسكري والميداني، حيث بدت ظاهرة الانشقاق ظاهرة متزايدةً يوماً بعد يوم. منذ أول إعلان إنشقاق من الجندي وليد القشعمي في 11/4/2011 مروراً بإعلان العقيد رياض الأسعد تشكيل لواء الضباط الأحرار وحتى اليوم. لقد دفع النظام السوري ثمن تراكمات واحتقانات عدد كبير من أفراد وضباط الجيش لسنين طويلة، شعور الظلم لدى عدد كبير من أبناء الطوائف وعدم مساواتهم مع أبناء الطائفة العلوية في الامتيازات والمناصب والمواقع، إضافة إلى زج عدة وحدات عسكرية منذ بداية الثورة السورية في مواجهات مع المتظاهرين المدنيين وارتكاب أكثر من مجزرة في أكثر من بقعة فوق البلد السورية، كل ذلك كان كافياً لتصدع الكيان الداخلي للجيش وتزايد حالات الانشقاق يوماً بعد يوم إلى أن وصلت في نهاية العام الأول من الثورة إلى ما يقارب 22 ألف حالة انشقاق.

لم يكن تكرار الخيار الأمني والعسكري الذي اتبعه النظام السوري في الثمانينات في حماه وحلب وإدلب ضد جماعة الإخوان المسلمين ناجحاً كما كان يتوقع في عام 2011. فالحراك الشعبي لم يكن دينياً في بدايته، وذلك كان التحدي الأكبر الذي أضعف المنطق الأمني الذي تم استعماله منذ الأيام الأولى، وكانت الضربة التالية للنظام بتشكيل نواة الجيش السوري الحر الذي رفع شعار الدفاع عن المدنيين وإسقاط النظام الامني والقمعي. فكانت الخطوات الإدارية والإعلامية هي الحل الاول الذي سعى من خلاله النظام لضبط صفوف الجيش بعد أن بدأ التشقق يزداد، منعت الإجازات عن المجندين، وبدأ الضخ الإعلامي والنشرات السياسية اليومية داخل القطع العسكرية، كان الغرض أن يعيش أفراد الجيش القصة التي يريدها النظام لا القصة التي تحصل خارج أسوار الثكنات. ولعل النظام قد نجح في الأشهر الأولى في هذه الاستراتيجية إلا أن طول أمد الثورة وزج معظم القطع العسكرية في المعارك كان كافياً ليتضح الأمر على حقيقته.

ومع تزايد حالات الانشقاق وعدم التحاق النسبة الأكبر من المطلوبين للخدمة الالزامية في الدورات الجديدة، لم يجد النظام بداً من فرض الخدمة الاحتياطية على المسرحين من الجيش لكل من لم يتجاوز الأربعين من عمره، وكانت الاستجابة الأكبر من أبناء الطائفة العلوية بالدرجة الاولى ومن الأقليات الأخرى بالدرجة الثانية، وفي محاولة كسب التأييد من مختلف الطوائف للنظام قام النظام بإعفاء علي حبيب (علوي) من مهمة وزارة الدفاع وإسناد المهمة إلى داوود راجحة (مسيحي) ومن ثم فهد الفريج (سني) بعد اغتيال راجحة في تفجير مبنى الامن القومي في اواخر 2012، ولم يكن في ذلك إلا محاولة فاشلة من قبل النظام في كسب ما يمكن كسبه من تأييد في أواسط السنة الذين يشكلون النسبة الأكبر من المناطق الثائرة ضده.

ومع فشل ذلك أيضاً، انتقل النظام إلى سياسة جديدة تمثلت في ضخ قيادات متطرفة أغلبها كان في سجونه في تدمر وصيدنايا وأطلق سراحها، هذه القيادات أسست تشكيلات مسلحة مختلفة تحت مسميات دينية متشددة سعى النظام من خلالها إلى صبغ الثورة بطابع ديني تشددي متطرف، وربما كانت تلك الخطوة الخطوة المفصلية التي غيرت مسار الاحداث في سوريا ميدانياً وعسكرياً على الأرض. وبذريعة وجود تلك الفصائل المتشددة تم التدخل بشكل مباشر من قبل ميليشيات شيعية لبنانية وإيرانية وعراقية، ليصبح المشهد السوري موزعاً بين أربع قوى رئيسية على الأرض هي:

  • القوات الحكومية: متمثلة بالجيش السوري والقوى الامنية المختلفة واللجان الشعبية أأو ما سمي بجيش الدفاع الوطني، وتسيطر على العاصمة دمشق وأغلب مراكز المدن والساحل السوري بشكل شبه كامل.
  • الميليشيات الشيعية: متمثلة بحزب الله اللبناني وجماعة أبي الفضل العباس العراقية ومجموعات من الحرس الثوري الإيراني، وجميعها تقاتل إلى جانب القوات الحكومية السورية.
  • الجماعات المتشددة: وأبرزها على الأرض تنظيم داعش وجبهة النصرة وجيش الإسلام. وتسيطر هذه الجماعات على معظم مناطق الجزيرة والبادية السورية إضافة إلى مساحات واسعة من الشمال السوري والغوطة الدمشقية. وترفع هذه الجماعات شعار إقامة دولة إسلامية وحكم إسلامي.
  • الجيش السوري الحر: بفصائله المختلفة وتمركزه الرئيسي في الجنوب السوري (درعا والقنيطرة) والشمال (حلب وإدلب) وبعض المناطق في ريفي حمص وحماه وبعض مناطق غوطة دمشق والقلمون.

العسكرة في سوريا،وتساؤلات للمدى المنظور:

لا شكّ أن الأحداث والقوى والتوازنات على الأرض لا تبشر بانتهاء النزاعات المسلحة على الأرض قريباً، على الأقل في السنوات القليلة القادمة. فحتى لو سقط النظام؛ فإن زواله لن يكون زوالاً لآثاره. النزاعات ستستمر، وسيستغرق الوصول إلى مرحلة توافق على زوال المظاهر العسكرية وحكمها ومخلفاتها فترة ليست بالقليلة. وفي ذلك الوقت، سيكون التحدي الوطني الأكبر تشكيل قوة عسكرية وطنية ولائها الأول والأخير للوطن.

لعلّ التاريخ والأحداث والتجارب أثبتت أن التجربة الأنجح للجيش في سوريا كان تجربة الجيش الوطني عام 1920م، وعندما نقول التجربة الأنجح، فإننا نعني بالنجاح هنا النجاح المبدأي والأخلاقي للجيش لا النجاح العسكري. الجيش الوطني الذي تشكل عام 1920 على الرغم من قلة عدد أفراده وضعف خبرتهم وتدريبهم، إلا أنه كان جيشاً وطنياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، جيشاً يحارب دفاعاً عن وطن لا عن شخص، جيشاً نأى بنفسه عن التوجهات السياسية والتكتلات الحزبية الموجودة وقتها داخل البلاد، فاستطاع كسب التأييد الشعبي الأكبر، وتجلى ذلك جلياً في معركة ميسلون حين تسابق الأهالي ومن جميع الشرائح للتطوع في صفوفه ضد الفرنسيين، وليس جيشاً يتحاشى الناس الانضمام منه كما هو الحال في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، أو جيشاً ينفر منه أفراده وينشقون عن صفوفه كما في السنوات الاخيرة.

الجيش يكون قوياً حين يتوحد بولاءه المطلق للوطن فقط ولا شيء سواه، العقائدية والحزبية والطائفية والتكتلات الأخرى على اختلافها داخل أي كيان عسكري لا تؤدي لشيء إلا لتدمير هذا الكيان وتفكيكه، وحتى العقيدة النازية في الجيش الالماني لم تفلح في توحيد هذا الجيش والنأي به عن الانشقاقات والخيانات والاختلافات. الولاء في أي جيش حين يكون للأرض التي تحضن أفراد هذا الجيش فقط دون سواها يكون كلمة السر في الحفاظ على تلك الأرض وحمايتها بعيداً عن أي اعتبارات أخرى.

تجارب سنوات طويلة من تحوير دور الجيش من الدفاع عن الأرض إلى الدفاع عن مصالح وجيوب الضباط ومناصبهم هي ولا شك كافية لتكوين ملامح الجيش السوري المستقبلي ذو القوام الصحيح والقيادة الصحيحة. الجيش السوري الذي شُتت في الأربعينات، وسُيّس في الخمسينات، وأُضعف في عهد عبد الناصر، وأصبح طائفياً بعثياً في زمن الأسد هو بالتأكيد جيش لا مكان له في سوريا المستقبل، وليس في تجربته سوى إثبات على فشله كجيش وطني يمثل البلاد السورية ويدافع عنها، ولنا في صدام وجيشه وفي القذافي وكتائبه عبرةٌ ولا شك تثبت ذلك التصور.

المراجع:

[1]كمال ديب، تاريخ سوريا المعاصر، ص 49.

[2] يوسف بك العظمة (1884 م – 1920 م)، قائد عسكري سوري ووزير الحربية في حكومة الملك فصيل وضابط سابق في الجيش العثماني فترة الحرب العالمية الاولى.

[3]علي رضا الركابي (1868 م – 1942 م)، سياسي سوري سابق ورئيس أول حكومة وطنية سورية في عهد الملك فيصل عام 1920 م.

[4] هنري غورو (1867 م – 1946 م )، قائد عسكري فرنسي قاد القوات الفرنسية في الحرب مع تركيا وعين مندوبا ساميا فرنسيا في  سوريا ولبنان.

[5] صحيفة الرياض، العدد 16972، 12 كانون1/ 2014 م ، http://www.alriyadh.com/1002762

[6]  التجديد العربي، 11 آب 2011، http://www.arabrenewal.info/2010-06-11-14-11-19/28002-%D9%8A%D9%88%D9%85-%D8%AA%D8%A3%D8%B3%D9%91%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A.html

[7] كمال ديب، تاريخ سوريا المعاصر، ص 101.

[8] جريدة بردى، العدد 555، 29 آب 1948 م، http://www.syrianhistory.com/ar/photos/6465?tag=%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF+%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%AA%D9%8A .

[9] كمال ديب، تاريخ سوريا المعاصر، ص 101.

[10]http://www.aljazeera.net/programs/centurywitness/2010/1/26/%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AD%D9%84%D8%A7%D9%88%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%82%D9%84%D8%A7%D8%A8-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D8%AC1

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد