من عصبية السلطة إلى عصبية وطنية


17 نيسان 2015

راتب شعبو

راتب شعبو: طبيب وكاتب سورى من مواليد 1963. قضى من عمره 16 عامًا متّصلة (1983 - 1999) فى السجون السوريّة، كان آخرها سجنُ تدمر العسكري. صدر له كتاب دنيا الدين الإسلامى الأوّلَ، وله مساهمات فى الترجمة عن الإنكليزيّة.

استطاع حافظ الأسد بعد 1970، أن يحقق استقراراً سياسياً في سوريا عجزت عنه أنظمة الحكم السورية المتعاقبة قبله. لم يتمكن أي من العساكر الطامحين الذين تعاقبوا على حكم سوريا بعد الاستقلال أن يحافظ على سلطته طويلاً دون أي منازع جدي كما فعل الأسد.

كان تعب السوريين من تكرار الانقلابات العسكرية المتلاحقة وميلهم إلى الاستقرار عاملاً مساعداً لقائد "الحركة التصحيحية"، ولكن أيضاً كان دخول الحرب الباردة مرحلة تميل إلى الركود خلال الفترة البريجينيفية، من عوامل استقرار سلطة الأسد من ضمن مجموعة من الضباط العرب الذين استولوا على السلطة بطرق متشابهة وفي موسم انقلابات واحد، من ليبيا إلى السودان إلى الصومال والجزائر والعراق. غير أن الأسد الأب حافظ على سلطته رغم تغير كل المعطيات العالمية ورغم انهيارالمنظومة الاشتراكية التي كان يحسب عليها، وصمد لجملة التبدلات الواسعة التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة، وهو ما لم يتأت لأي من زملائه الديكتاتوريين.

استند الأسد الأب في "مأثرته" هذه إلى إنتاج ما يمكن تسميته "عصبية السلطة". فجعل من سلطته غاية عليا وأولى ومرشدة. وتحولت باقي العصبيات إلى توابع لعصبية السلطة بما في ذلك "العصبية الوطنية". بناء على هذا أصبح معيار الدخول في دائرة الحكم والامتيازات والعلو على القانون هو الولاء، وأصبحت المعارضة طريقاً مباشراً إلى جحيم متعدد الدرجات. غير أن ذلك لم يتحقق للأسد قبل إنجاز الخطوة الأهم وهي السيطرة التامة على الجيش والأمن. لم يعمل الأسد على إبعاد الجيش عن السياسة، على خلاف ما يعتقد حنا بطاطو في كتابه المهم "فلاحو سوريا"، بل عمل على تبعيث الجيش، أي على توحيد اللون السياسي للجيش، وحظر الاتجاهات السياسية الأخرى عن العمل ضمنه، وهو الإجراء الذي أطلق عليه اسم تشكيل "الجيش العقائدي"، أي ربط الجيش بعقيدة النظام السياسية بما يتضمن حقن الجيش بقناعة تقول: أن النظام هو الوطن والوطن هو النظام. الشيء نفسه ينطبق على أجهزة الأمن وبدرجة أشد. كل الإجراءات الأخرى مثل تفضيل لون طائفي في المفاصل الأساسية، تعدد الأجهزة الأمنية، خلق علاقة شخصية بين القادة والقائد العام، .. الخ، تندرج تحت هذا البند. لكن السيطرة على الأمن والجيش ليست فعلاً منتهياً بل عملية تحتاج إلى تغذية مستمرة وإلى إنتاج مستمر للسيطرة، وهو ما تكفلت به "عصبية السلطة".

لا يتكامل تكوين "عصبية السلطة" إلا باجتماع أمرين: الأول هو السيطرة التامة على أجهزة القوة في الدولة بحيث تتمكن السلطة من تأمين نفسها، ولكن هذا على أهميته القصوى لا يكفي دون الأمر الثاني وهو التواطؤ بين كامل طاقم السلطة، بمباركة من رئيس الطاقم، بجعل الولاء للسلطة أهم من أي ولاء آخر مقابل انعدام المحاسبة. هذا يتطلب بطبيعة الحال وقتاً كافياً لجذب النوعية المناسبة من المسؤولين ونبذ غير المناسبين. ومع الوقت تتكرس آلية ذاتية لهذه السلطة تعمل على إنتاج، والأصح إفساد، الأشخاص المرشحين للولوج في ماكينة السلطة وطرد الأشخاص غير القابلين للإفساد، وفي حالات كثيرة يتم طرد هؤلاء بتهم فساد ملفقة.

الفساد وإطلاق اليد في خدمة المصلحة الشخصية والعائلية على حساب المصلحة العامة هو القاسم المشترك لمسؤولي نظام الأسد وبؤرة التواطؤ الجمعي بينهم، لا يعني هذا عدم وجود مسؤولين يوالون السلطة ويخلصون إليها دون اندفاع شره لتحقيق مكاسب شخصية وعائلية. هؤلاء، عدا عن كونهم قلائل، فإنهم غالباً ما يثيرون قلق زملائهم الوالغين في فساد السلطة.

لم تكن هذه الآلية الشاذة من امتلاك البلد بلا "حسنات" يرى كثيرون الآن أنها كافية لغض النظر عن مساوئها. مثل الاستقرار السياسي والأمان. يبدو ذلك اليوم على خلفية المأساة السورية التي جعلت الكثير من السوريين يتوقون، وهذا مفهوم، إلى زمن القبضة الأمنية الحديدية ذاك. كما تاق العراقيون إلى قبضة صدام حسين بعد الانفلات الأمني الذي أعقب سقوطه، وكما يتوق اليوم الليبيون ربما إلى قبضة القذافي. غير أن المأساة التي تعيد نفسها في كل بلد من هذه البلدان التي كانت "مستقرة وآمنة" في ظل الاستبداد، ترينا أن هذه المجتمعات كانت في فترة استقرارها الشاذ (أقصد الاستقرار غير القائم على حدود دنيا من العدالة والتوازن بين الدولة والمجتمع المدني) إنما كانت تشتري حاضرها بمستقبلها. وها هي اليوم تسدد الفاتورة.

هل يمكن أن نقرأ مأساتنا الحالية بطريقة تجعلنا ندرك أن أمان المجتمع يتطلب تفكيك عصبية السلطة لصالح عصبية وطنية؟ وهل ندرك من مأساتنا الراهنة أن مواجهة عصبية السلطة بعصبية مشابهة لن تؤسس إلا للمزيد من المآسي؟

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد