عن مستقبل البلد وخيارات السوريين المستحيلة: السلَمية نموذجاً


13 نيسان 2015

عبدالله أمين الحلاق

كاتب وباحث سوري، ويكتب في عدد من الصحف منها: الحياة والنهار والمستقبل

شهدت مدينة "السلَمية" في آذار  ونيسان 2015، تطورات ميدانية لم تتعرض لمثلها منذ انطلاق الثورة السورية، ومشاركة هذه المدينة فيها. ذاك أن المدينة التي تعرضت لحملات اعتقال لم تتوقف حتى هذه اللحظة، وقضى بعض أبناءها تحت التعذيب في سجون الأسد، باتت اليوم بين فكي كماشة النظام الذي يسيطر عليها بفعل مخابراته وعسكره ولجانه الشعبية، و"داعش" الذي هاجم تخوم المدينة في 20 آذار، قبل أن يقتحم قرية "المبعوجة" ويرتكب مجزرة سقط فيها عشرات المدنيين، من دون أن يبدو على "حامي الأقليات" أي استياء، بالطبع.

والحال، أن "السلَمية" لا تبدو ذات خصوصية، رغم وجاهة الاعتقاد بتلك الخصوصية لأسباب كثيرة،  بقدر  ما تبدو صورة عن سوريا ونسخة مصغرة عنها، وخاصة مع ضعف القوى الثورية فيها، المدنية والعسكرية، أو شبه غيابها "تغييبها" لصالح النظام والقوى الجهادية التي تتربص بالمدينة وأهلها. إنها سوريا التي كان شعبها لأربعين عاماً مخيرّاً بين النظام والفوضى، أو الأسد والقاعدة، دون خيار ثالث، قبل أن تأتي الثورة وتكسر هذه الثنائية، ولنعود في بعض المناطق التي يحكم النظام سيطرته عليها إلى تلك الثنائية وهذين الخيارين، رغم أن الخيار  بيد الأسد وداعش، وليس بيد السكان غالباً .

لم يتعامل النظام مع "السلَمية"  بذات العنف الذي عامل به مناطق سورية أخرى انتفضت ضده، لأسباب كثيرة، ليس الوحيد من بينها أن "حامي الأقليات" لا يمكن أن يرمي تلك "الأقليات" التي ثار بعضها ضده ببرميل متفجر، مكتفياً بالاعتقالات والاغتيالات هنا وهناك، والتضييق على الناشطين للخروج من البلاد، طالما أنه لم يكف عن تسويق روايته في حربه ضد "التكفيريين والجهاديين والعصابات الإرهابية المسلحة"، بحيث يصبح البرميل المتفجر  أو  صاروخ السكود مخصصاً لمناطق متجانسة طائفياً، وليعتبر التجانس الطائفي ذاك والانتماء إلى "الأكثرية".. انتماءً  إلى "التكفيريين والسلفيين" وفق القاموس الأسدي الرائج. وغني عن القول، أن الانتقائية في تركيز الموت السوري على فئة دون أخرى، أتى في مكان ما منه، ضمن العمل على  زج شريحة كبيرة من المجتمع السوري في العسكرة ضد النظام، في الوقت الذي حافظت فيه مدينة "السلَمية" على مسافة كبيرة عن عسكرة الثورة لأسباب موضوعية أساساً، رغم وجود كتائب عسكرية لم تمارس أي عمل عسكري داخل المدينة، وإنما في الريف المحيط بها.

بعد أكثر من 4 سنوات على الثورة السورية، لا يبدو أن ذلك الفرز الأمني – العسكري - الطائفي الذي حافظ عليه النظام في السنة الأولى على الأقل، بين مناطق الأقليات ومناطق الأكثرية، يمكن أن يستمر. كما لا يبدو أن "السلَمية" ستبقى بعيدة عن نيران ومدافع وقصف الطرفين، النظام والقاعدة.  ينطبق هذا الكلام على "السلَمية"  كما ينطبق على أي مدينة سورية أخرى لا تزال بعيدة عن قلب الصراع العسكري، وكما انطبق قبلها على إدلب وحمص وغوطة دمشق. التفكير بخصوصية ما والرهان على  استمرار  "الاستقرار" الأسدي، ينم عن أزمة وطنية عميقة في العقل المناطقي، ذلك الذي ينظر إلى مدينته وحسب معتبراً حالها ذاك "أبداً" لن يتغير مع تغير الواقع السوري كل يوم. هذا بؤس في النظر إلى ديمومة "الاستقرار" الذي ادعاه النظام في هذه المناطق، والذي اتضح أنه مرحلي وكاذب، وأن لا عاصم لمدينة سورية من اللحاق بالمدن الأخرى، وهو ما لا نأمله ولا نتمناه، رغم وجود مؤشرات قوية وسيئة تبدّت في الشهرين الأخيرين في المدينة .

كان خطاب جلّ المدن السورية والبلدات السورية في بداية الثورة يختزن شعارات وطنية، مناهضة للطائفية والنزعات المناطقية، ومع تحول الصراع السوري وذهابه إلى مواضع ومآلات مختلفة عن "البدايات"، بات واضحاً أن ثمة انزياحاً للخطاب الوطني يزداد منذ العام الثاني للثورة، مع ازدياد حدة الاستقطاب في الصراع السوري، وهو صراع لا يزال يحافظ على بعض نقاط الثورة في سوريا، بينما استحال حرباً أهلية في نقاط أخرى، و"استقراراً" في مناطق داعش يقابله "استقرار" في مناطق سيطرة قوات الأسد أيضاً. وعليه، يعلو صوت وطني في هذه المدينة وصوت طائفي في تلك، وخطاب طائفي وخطاب وطني يتجاوران في نفس البلدة أو القرية أو المدينة أحياناً، بالتزامن مع التوثّب احتياطاً لمجازر أخرى محتملة من "داعش"، الأمر الذي ينشأ بسببه انقسام بين من يجد النظام مخلّصاً، وآخر يجد النظام والتكفيريين، عن حق وصواب، وجهين لعملة واحدة، وآخر يرحب بأي فصيل "معارض" للنظام وإن انتمى إلى "القاعدة".

يظل هذا الكلام حبراً على ورق، وتبقى الخيارات غير متاحة للسوريين الموجودين بين أيدي النظام أو الجماعات التكفيرية، وتبقى أمزجة الناس مختلفة، وهم الموجودون داخل سوريا "في ظروف اقتصادية وأمنية بالغة السوء"،  وفي مختلف مناطقهم المتفاوتة والمختلفة في طبيعتها وفي طبيعة القوى التي تسيطر عليها، بعد انتزاع المبادرة الشعبية التي أطلقت ثورة آذار 2011 من يد السوريين، عبر عنف منظم قطف الأسد ثماره بعد 4 أعوام من الثورة ضده. ويبدو، أن هذا العنف وقطف الثمار المترافق معه سيستمر، طالما أن لا رادع للأسد ولا أفق لكسره وإسقاطه في ظل ضعف القوى العسكرية التي تنضوي تحت لواء الثورة، لصالح قوات النظام السوري والجماعات التكفيرية، وفي ظل غياب أي اكتراث دولي بالمسألة السورية التي لن تعالج وتُحل على أرضية الأقليات والأكثرية، وتبعاً لهذه المنطقة وتلك، وإنما بالنظر إلى الرقعة الجغرافية السورية كرقعة واحدة من دون الأسد. اللهم إلا إذا كان ثمة تقسيمٌ ما يلوح في الأفق، وعندها سيكون للتمزق والانقسام ولبعض العصبيات غير المعلنة منذ خمسة عقود،  حدودٌ تعلن بينها لأول مرة على طريق إيقاف بحر الدماء المتدفقة، وهو بؤس يضاف إلى البؤس السوري الذي لم يتوقف، ولا يبدو أنه سيتوقف قريباً..

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد