مقاربات ثقافية للمسألة الكوردية في سورية (7)


20 آذار 2015

جاد الكريم الجباعي

مفكر سوري من مواليد 1945. له عدد من الكتب والمؤلفات منها: طريق إلى الديمقراطية، وردة في صليب الحاضر، قضايا النهضة، جدلية المعرفة والسياسة، من الرعوية إلى المواطنة

نشر موقع "سوريا تكتب" ست مقالات مكثفة حول المسألة الكوردية في سوريا، لستة من المثقفين السورين[1]، اختيروا، على الأرحج، لأنهم ينتمون إلى "القومية الكوردية" بالولادة[2]. فإذا كان صحيحاً أن الثقافة توحد من تفرقهم السياسة، إذ تعيد بناء العلاقة بين الفكر والسياسة، بتوسط الأخلاق بينهما، فإن هذه المقاربة سوف تهتم بإظهار أثر السياسة في الخطاب الثقافي، انطلاقاً من افتراض أن "السياسة" في سوريا كانت ولا تزال هي القاطرة التي تجر جميع العربات، وأن الثقافة، من ثم، كانت ولا تزال تابعة للسياسة، مع ملاحظة غلبة الأيديولوجيا على الأخيرة إمعاناً في حجب حقيقة السلطة أو تمويهها. وإذ لا يتسع المجال للبرهنة على صحة هذا الافتراض أو عدم صحته نعلّق كل ما نستنتجه من قراءة المقالات المشار إليها على مناقشة هذا الافتراض، وقد غدت مطلوبة أكثر من أي وقت مضى. ما يعني أن لهذه القراءة طابعاً تأويلياً وذاتياً، كأي قراءة أخرى، ولا سيما أنها ستعتمد مقولتي الموقع والمنظور أداتين للتحليل، وهذا ينطبق عليها هي ذاتها.

ما من شك في أن كتاب المقالات، موضوع القراءة، يحددون مواقعهم في المجال الثقافي السوري، ويحرصون على مناقشة المسألة الكوردية، من هذا الموقع، مناقشة موضوعية. ولكن المجال الثقافي السوري ذاته مخترق بالسياسة، التي يغلب عليها الطابع الأيديولوجي، كما أشرنا، ومن ثم فهو مجال متشظٍ أو متنثِّر تنثُّر المجالين الاجتماعي والسياسي، وتسيطر عليه ثقافة قومية عربية أصولية وعنصرية، إحيائية أو بعثية، ولا فرق، حاولت أن تخفي هذين التشظي والتنثر بخطاب تاريخي – سياسي " مضاد للتاريخ"، بتعبير ميشيل فوكو، علاوة على القوة العارية والقمع المعمم. ولكن هذا الخطاب أنتج خطابات مضادة من نوعه، وفرط القوة والإمعان في القمع أديا إلى الانفجار، بتضافرهما مع عوامل أخرى. وهذا كله مما يؤثر في رؤية كل من هؤلاء الكتاب، بل يحددها، مثلما يؤثر في رؤية غيرهم من المثقفين السوريين العرب وغير العرب، ويحددها، وفي رؤية كاتب هذه السطور، ومن ثم فإن الملاحظات الآتية لا تستهدف أشخاص هؤلاء السادة، الذين أكن لهم كل الاحترام والتقدير، وتربطني ببعضهم صداقة عميقة، بل تستهدف السياسة، بما هي ممارسة، في الواقع السوري، وتبعية الثقافة لها.

هامشية مركبة:

تحمل النصوص المعنية في نسيجها الداخلي وبطانته شعوراً بالانتماء إلى جماعة مهمشة، أصابها من التهميش والإفقار والتقفير أكثر مما أصاب بقية الفئات الاجتماعية، وتحمل من ثم شعوراً بالمظلومية. وهي أي النصوص، تنتمي إلى ثقافة الهامش السوري، أي الثقافة الإنسية، العلمانية، الديمقراطية، وهذه محاصرة بين ثقافة الهامش التقليدية، الشفوية منها والمكتوبة، من جانب وبين ثقافة المركز القومية العربية، التي وصفناها، من الجانب الآخر، فمن غير المنطقي إهمال إثر هذا الحصار في بنيتها، وما يولده من مفارقات. تضاف إلى ذلك هامشية اجتماعية – اقتصادية – سياسية ناتجة من عمليات الاصطفاء والاستبعاد، القائمة على الولاءات ما قبل الوطنية، التي مارستها ولا تزال تمارسها السلطة / السلطات الاجتماعية والسياسية والثقافية.

كان يمكن لهذه الهامشية المركبة، أن تكون قوة سلب، وليس من قوة سلب غيرها، تقض مضاجع المجتمع التقليدي وثقافته الراكدة من جهة، ومضاجع السلطة المستبدة وثقافتها العنصرية من جهة أخرى، لولا تنثر المجال الثقافي بوجه عام، وثقافة الهامش بوجه خاص، وتبعية المثقفين للمؤسسات الأيديولوجية، ولا سيما الأحزاب القومية منها، سواء بالانخراط في عضويتها أو بالانحياز إلى أي منها وتبني أيديولوجيته. فمنذ ستينات القرن الماضي انحسرت ظاهرة المثقف المستقل حتى التلاشي، وتعسرت ولادة الفرد الحر من رحم العصبية وتعسر فطامه عن ثدييها، حسب مصطفى حجازي، وترسخت تقاليد ثقافية ليست بعيدة عن التقاليد الاجتماعية والسياسية السائدة. وهذا كله مما يحدد الموقع موضوعياً.

باستثناء مقالة رستم محمود، التي خرجت بوعي وتصميم، من ثنائيات: كورد وعرب وأقلية وأكثرية وقومية أولى وقومية ثانية .. إلخ، وخرجت عليها، ولم تقع في شرك "المكونات"، وهي مقولة رديئة، درجت على ألسنة السياسيين السوريين، منذ الاحتلال الأمريكي للعراق وسقوط نظام البعث وانحلال دولته عام 2003، باستثناء هذه المقالة، لم تأت المقالات الخمس الأخرى بما يختلف جوهرياً عن خطاب الأحزاب "السياسية" الكوردية المختلفة والمتخالفة، وهو خطاب أيديولوجي ملتبس ومتناقض، مثله مثل الخطاب القومي العربي، ولا سيما في مسألة الانتماء "القومي" والانتماء الوطني. فالسياسي هو الأبرز في النسيج النصي لهذه المقالات ومنطقها الداخلي. وهذا ما ينقلنا من الموقع إلى المنظور أو زاوية النظر.

غير أن في المقالات جميعها مزيجاً من الوصف الموضوعي والتحليل الذاتي، الذي نقدره حق قدره، فليس هنالك موضوعية بلا ذاتية، وليس من قوام غير بيولوجي للذات سوى علاقاتها الجدلية بمواضيع فكرها وعملها وفاعليتها الاجتماعية والإنسانية.

رؤية قوموية:

دفعاً لأي سوء فهم أو سوء تفاهم، تجب ملاحظة أن المقالات كلها تتجه نحو حل وطني ديمقراطي للمسألة الكوردية في سورية، يقوم على مبادئ المواطنة: المساواة والحرية والعدالة والمشاركة والاعتراف المتبادل بالجدارة والاستحقاق، ومبادئ حقوق الإنسان ... ولكنْ، ثمة عامل أساسي هو ما يحدد كون هذا التوجه إما توجهاً أيديولوجياً قابلاً للنكول عنه قبوله لتأويلات وتلاعبات واشتراطات قوموية شتى، تندرج في باب المناورة السياسية، فتفقد المبادئ المشار إليها معانيها، وتتحول إلى مجرد شعارات، وإما كونه توجهاً فكرياً سياسياً راسخاً على أسس معرفية وأخلاقية وقابلاً للنمو والانبساط في الواقع وفي التاريخ. هذا العامل هو المنظور.

ثمة منظوران يتجاوران ولا يتحاوران: الأول هو منظور التعايش بين "مكونات" مختلفة إثنياً اختلافاً مطلقاً، يتخفى خلف "العقد الاجتماعي"، الذي لا يعني، وفق هذا المنظور، سوى "عقد" أو تسوية، بين جماعات تبتلع أفرادها، أي بين قوى الأمر الواقع وعصبياته، ما دام المجتمع حقل قوى متراجحة ومحكوماً بمبدأ الغلبة و"حق الأقوى"، وهما وصفة ناجعة ومجربة لإنتاج الاستبداد وإعادة إنتاجه. والثاني هو منظور التشكل التاريخي: الاجتماعي – الاقتصادي والثقافي والسياسي والأخلاقي، أو التحول التاريخي من مجتمع ما قبل مدني وجماعات ما قبل مدنية إلى مجتمع مدني وجماعات سياسية، هي الكيمياء التي تحول التعارضات الاجتماعية (الطبقية) إلى تعارضات سياسية، وهذه، أي التعارضات السياسية، من أبرز مضامين العلاقة الجدلية بين المجتمع المدني والدولة السياسية، التي تحمل جنين الديمقراطية، على اعتبار "الديمقراطية هي المجتمع الديمقراطي"، لا النظام السياسي، التمثيلي أو البرلماني فقط، ولا البنية الصورية، الدستورية والقانونية فحسب.

لعل المفارقات والتناقضات المشار إليها ترجع أساساً إلى عدم التفريق بين المجتمع المدني والدولة السياسية، جراء غياب هذين المفهومين عن الثقافة السورية أو شحوبهما فيها، على مدى نصف قرن ويزيد، وعدم التقاط الفرق بين الفرد الطبيعي، العربي أو الكوردي، المسلم أو المسيحي، الغني أو الفقير، المنتج أو المستهلك، النشيط أو الخامل ...، الذي هو أساس المجتمع المدني، وبين المواطن، وهو نفسه الفرد الطبيعي مجرداً من الصفات المذكورة وغيرها، وهو أساس الدولة السياسية. المواطِنة أو المواطن شخص قانوني، مثله مثل الدولة في المجتمع الدولي، سواء كانت الدولة مركزية أم فدرالية، فالصفة هنا تغير شكل الدولة، لا حقيقتها، وحقيقتها هي الديمقراطية، أي الشعب (ديموس)، بتعبير ماركس، وهذا مرادف للقول إن حقيقة الدولة هي عموميتها، أي كونها دولة جميع مواطناتها ومواطنيها بالتساوي، وكل دولة، كدولة البعث هي تناقض في ذاتها، وتناقض مع حقيقة الدولة.

النظر إلى المسالة الكوردية، في الإطار السوري، من زاوية كرد وعرب مختلفين إثنياً اختلافاً مطلقاً، وهذا من البداهات الأيديولوجية، لا يفضي إلا إلى واحد من أمرين: إما أن يتخلى الكورد عن كرديتهم والعرب عن عروبتهم ليصيروا "مواطنين متساوين" مساواة مطلقة، وهذا غير ممكن موضوعياً وذاتياً، ولا يمت إلى مفهوم المواطنة في الدولة السياسية بأي صلة، وإما إلى التعايش، الذي أشرنا إليه، وهو تعايش هش وملغَّم على كل حال، كما تدل على ذلك التجربة السورية وغيرها ولا سيما اللبنانية والعراقية. التشكك في محاكاة التجربة العراقية، في مقالة فاروق حجي مصطفى، في محله، لأن الفدرالية العراقية لم تقم على عقد اجتماعي بين أفراد حرائر وأحرار، بل بين جماعات سميت مكونات، وينظر إليها على أنها مكونات نهائية للمجتمع والدولة، تبتلع أفرادها وتبتلع سائر الفئات الاجتماعية في كل منها، وتنفي فكرة المجتمع، لا فكرة المجتمع المدني فقط، إذ لم يتغير شيء عن عهد صدام حسين سوى علاقات القوة بين العصبيات أو المكونات، أما مبدأ الغلبة فلا يزال سارياً.

إنه لمن الحيف أن ينظر إلى أي مجتمع من خرم إبرة الإثنيات، أو القوميات كما يفضل كثيرون من الكورد والعرب أن يقولوا، أو من خرم إبرة المذاهب والطوائف الدينية، أو من خرم إبرة الطبقات أيضاً، في مجتمع ليس مجتمعاً مدنياً بعد، وليس متبنيناً طبقياً بعد، بحكم طبيعة التطور الرأسمالي المشوه ونشوء رأسمالية الدولة ورأسمالية المحاسيب، بتعبير حنا بطاطو. هذا لا يعني التنكر لوجود الإثنيات والمذاهب الدينية والطبقات الاجتماعية وحقوقها، والوجود عزيز على قلوبنا، بغض النظر عن أشكاله، بل يعني ضرورة التفكير في إمكان إلغائها سياسياً، وإطلاق حريتها وإحقاق حقوقها في المجتمع المدني، على نحو ما عالج كارل ماركس المسألة اليهودية في ألمانيا، في ضوء تطور المجتمع المدني والدولة السياسية الحديثة، وهو على الأرجح ما أشارت إليه مقالة رستم محمود.

أما عن إرادة الكورد أن يكونوا سوريين باختيارهم، فهي نفسها إرادتهم ألا يكونوا سوريين باختيارهم؛ فالمسألة إذاً هي مسألة خيارات الكورد، التي لا يحق للعرب أو غير العرب مصادرتها، أولاً، ومسألة من الذي يحدد هذه الخيارات ويعبر عنها ثانياً. وإذ لا نشك ولا نشكك في أن إرادة الكورد هي إرادتهم العامة، لا نعتقد أن هذه الإرادة "هوية نوعية في التاريخ .. لا تقاس أهدافها وشرعية مقاصدها بمعيار كمي"، كما يرى الصديق سربست نبي، لأن هذه الهوية النوعية تلغي وجود الأفراد وحرياتهم وحقوقهم، وتستهين لا بكرامتهم الإنسانية فقط، بل بحيواتهم أيضاً، على نحو ما فعلت الهوية النوعية العربية، في سوريا والعراق خاصة. كما أن نفي أن تقاس هذه الإرادة بمعيار كمي يرفع الوجود الكوردي، من وجود واقعي، في العالم وفي التاريخ، إلى وجود ماهوي، ويرفع الإرادة إلى مستوى جوهر ميتافيزيقي، هو عدة شغل أيديولوجية، كالوجود القومي العربي المتعالي على التاريخ سواء بسواء، علاوة على أنه ينفي مبدأ الانتخاب والتمثيل، ووجوب استفتاء الأفراد في المسائل المتعلقة بمصيرهم، ويجنح إلى مبدأ التمثيل بلا انتخاب والنيابة بلا تفويض، كما هي حال الأحزاب القومية، التي يدعي كل منها أنه يمثل الأمة، بل أنه ممثلها الشرعي الوحيد.

الوطنية الحديثة، وقل أو قولي: القومية الحديثة، بما هي منظومة حريات خاصة وعامة وحقوق مدنية وسياسية، هي شكل وجود الأفراد والجماعات والفئات والطبقات، وهو شكل حديث، لا الشكل الأخير، من أشكال الوجود الاجتماعي – الاقتصادي والسياسي، وكذلك الوطن، بدلالاته الفكرية والسياسية والأخلاقية الحديثة، لا بدلالاته اللغوية. لذلك ننظر إلى عمليات التهميش والإقصاء على أنها عمليات تغريب الأفراد والجماعات في وطنهم، قد تتمادى، وتمادت بالفعل، إلى تغريبهم عنه، كما هي الحال في سوريا اليوم. ولكن، ثمة رهان تاريخي، قد يكون مجرد أمل أو تطلع، على عملية تشكل تجري تحت، تحت هذا الخراب.

الهوامش:

[1] - المثقفون المعنيون، حسب تسلسل نشر مقالاتهم، هم، مع حفظ الألقاب،: فاروق حجي مصطفى وهيثم حسين ورستم محمود وعماد مفرح مصطفى وسربست نبي وراتب شعبو.

[2] - نضع القومية الكوردية والقومية العربية وغيرهما بين حاصرتين لالتباس مفهوم القوميةفكرياً وسياسياً، في ثقافتا السائدة.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد