ما أشبه اليوم بالأمس


29 آذار 2015

راتب شعبو

راتب شعبو: طبيب وكاتب سورى من مواليد 1963. قضى من عمره 16 عامًا متّصلة (1983 - 1999) فى السجون السوريّة، كان آخرها سجنُ تدمر العسكري. صدر له كتاب دنيا الدين الإسلامى الأوّلَ، وله مساهمات فى الترجمة عن الإنكليزيّة.

منذ أن سيطر السلاح على أشكال المقاومة السلمية في الثورة السورية لم تهدأ تنبؤات طرفي الصراع باقتراب الحسم، كل طرف يبشر بقرب الحسم لصالحه. تتكرر هذه التنبؤات منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولكنها تخيب دائماً، وستخيب دائماً على الأرجح لأن الوضع السوري لم يعد يقبل الحسم، فلا يوجد في الواقع سيطرة حاسمة لأي من أطراف الصراع، ولا تتطور البيئة السياسية أو العسكرية باتجاه الحسم لصالح أي طرف.

تصدرت قوى إسلامية متطرفة جبهة مواجهة النظام بفعل قوتها العسكرية، وهي قوى تضاهي النظام في إفلاسها السياسي. إذا كان الأفق السياسي للنظام لا يتعدى إعادة السوريين إلى الوضع الذي ثاروا عليه (وهو فوق ذلك عاجز عن هذا)، فإن الأفق السياسي للقوى العسكرية الفاعلة على الأرض لا يتعدى الوعد باستبداد إسلامي لن يكون له في سوريا من أسباب الحياة شيئاً. أي إن كلا طرفي الصراع الفاعلين والمؤثرين على الأرض يستند إلى "مشروعية" عسكرية وليس إلى مشروعية سياسية، كلاهما يسند هزاله السياسي بذراع عسكرية قوية، هي نفسها الذراع التي شتتت وسحقت أصحاب المشروعية السياسية من الثوار السوريين الذين تشتتوا في كل بقاع الأرض. لم تجتمع في سورية القوة مع المشروعية السياسية سوى في بداية الثورة، ولذلك فإن الثورة تعثرت فيما بعد وتبعثرت مع تبعثر حاملها.

أكثر من ذلك، فإن حجم الرأسمال السياسي الخارجي الذي استثمر في هذا الصراع، لا يسمح بالحسم، حتى لو اضطر الأمر إلى التدخل المباشر لنصرة الطرف المتقهقر كما يحصل في اليمن اليوم.

مع تبخر الطاقة الثورية وانتهاء حال الشعب السوري إلى حضيض بات بمثابة صد لبقية الشعوب العربية عن مواصلة موجة "الربيع العربي"، يستمد الصراع السوري طاقته اليوم من خارجه، أقصد من سعي الدول الأخرى في الإقليم وفي العالم، لتحقيق مصالح لها في هذا البلد الذي صار سوقاً مفتوحة لسياسات شتى الدول ذات الطموح. هذا ليس جديداً، وكان من المنطقي استشرافه مع التحول العسكري للثورة وبدء الدخول القوي للتنظيمات الإسلامية المتطرفة على خط الثورة، لكن الجديد هو إسباغ الثورية على من لا علاقة له بالثورة إلا كعلاقة الحطابين بعلم النبات، وفق تعبير ذكي لأحد الأصدقاء. هذا ما شوّه في الواقع وفي الوعي العام مفهوم الثورة وعزز الاستقطاب الحاد العقيم في المجتمع.

في تأمل اللوحة السورية اليوم، وعلى ضوء التحولات الإقليمية والعالمية، يبحث المرء عن أفق تحرّري يريح إليه تفاؤله فلا يجد. القوى المعارضة غير الإسلامية موزعة بين شرين، شر النظام وشر القوى الإسلامية المتطرفة. بعضهم يرى في إيران قوة تحرّر والبعض الآخر يستبشر خيراً بالصحوة العربية السعودية. اللافت والمؤسف أنه هذا التوّزع هو التوّزع نفسه الذي شهدناه في سوريا في ثمانينات القرن الماضي مع اندلاع الصراع بين النظام السوري والإخوان المسلمين. دون أن يسجل الواقع السياسي لليسار والعلمانيين غير الاستبداديين أي تقدم منذئذ. دائماً يعجز هؤلاء عن تشكيل قوة مستقلة فاعلة، فلا يبقى أمامهم في لحظة احتدام الصراع سوى الانحياز لصالح أحد طرفين لا يقيمان وزناً لأي من الأهداف السياسية التحررية.

في الواقع لا يندرج اصطفاف اليساريين السوريين إلى جانب هذا الطرف أو ذاك في خانة التحالفات، ذلك أن التحالف يحتاج إلى حد أدنى من القوة التي تدعم الاستقلالية الذاتية وإلا فإن الطرف الضعيف في التحالف يصبح ملحقاً وليس حليفاً. لنلاحظ أنه لا يمكن للطرف اليساري السوري الذي اختار، بصرف النظر عن الأسباب، أن يناصر هذا الشر أو ذاك، أن يستقل بنفسه مثلاً أو أن يقوم بنقد جدي ما "لحليفه" أو يساهم في رسم وتحديد سياساته. بات كل طرف مرهوناً بسياسات "حليفه" القوي دون أي قدرة على التمايز. هذا يعني إن سياسة "التحالف" (هي في الواقع سياسة التحاق، أكرر) تغمر الوجه المستقل لليساريين وتحملهم مسؤولية أفعال وسياسات الشر الذي اختاروا "التحالف" معه، دون أي مكسب سياسي. التغيّر الوحيد الذي جرى بعد عقود من أحداث الثمانينات في سوريا القرن المنصرم، هو زيادة التنظيرات الهادفة إلى تسويغ "الالتحاق" بأحد الشرين، وكأنه من المحظور على العلمانيين الديموقراطيين السوريين تشكيل قوة مستقلة.

وإذا كان انتصار الثورة في سوريا، وفي غيرها من البلدان العربية، مرهون بقوة التيار اليساري العلماني الديموقراطي، فإن سياسة "التحالفات" اليسارية هذه مع النظام أو مع الإسلاميين ليست سوى قتل للثورة في مهدها. يبقى السؤال: أين تكمن الأسباب التي تجعل اليسار السوري منقسماً على نفسه دائماً، فيجد بعضه على نحو متكرر أن "أحد الشرين" أقرب إليه من البعض الآخر؟

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد