عن المعارضة السورية في الذكرى الرابعة للثورة


14 آذار 2015

راتب شعبو

راتب شعبو: طبيب وكاتب سورى من مواليد 1963. قضى من عمره 16 عامًا متّصلة (1983 - 1999) فى السجون السوريّة، كان آخرها سجنُ تدمر العسكري. صدر له كتاب دنيا الدين الإسلامى الأوّلَ، وله مساهمات فى الترجمة عن الإنكليزيّة.

لم تكن أزمة المعارضة السورية التي صاغت تشكيلاتها بعد اندلاع الثورة أزمة برامج أو أفكار. و لم تكن المشكلة في أن برنامج المجلس الوطني مثلاً كان أكثر جذرية أو تشدداً مما ينبغي في حين كان برنامج هيئة التنسيق أقل جذرية أو تساهلاً مما ينبغي. ولم تكن مشكلة المجلس الوطني “ومن بعده الائتلاف" نابعة من علاقاته مع دول الخليج أو تركيا أو غيرها، كما لم تكن مشكلة هيئة التنسيق في سياساتها الحذرة من النظام ورفضها العسكرة والتدخل الخارجي..الخ. لا شك أن ما سبق هو من ضمن مشاكل المعارضة السورية التي فشلت بالنتيجة في تلبية أمل الناس بمعارضة فاعلة وصادقة وجريئة على ذاتها كما على النظام ..الخ، وكانت سيئة الأداء ومحبطة لأنصارها، لكن لم تكن هنا مشكلتها الرئيسية أو القاتلة.

كانت المشكلة الرئيسية في المعارضة السورية هي أنها غير موحدة. منبع أزمة المعارضة كان يكمن دائماً في وجود مراكز متعددة لها، وهي فوق ذلك مراكز متصارعة. كان يمكن لوحدة المعارضة أن تتغلب على بقية النواقص، كان يمكنها أن تتغلب على عدم ملاءمة البرنامج، وأن تسدد المسار الخاطئ، وأن تعوض ضعف أداء المتحدثين باسمها، وأن تفرض على الدول الداعمة مشيئتها الوطنية، وأن تفرض احترامها على الجمهور السوري العام. مهما كان البرنامج الذي كان يمكن أن تتبناه معارضة سورية موحدة فإنها كانت ستتمكن من خلخلة النظام وإسقاطه. ذلك أن النظام السوري في تركيبته المغلقة لا يحتمل تقديم تنازل فعلي لصالح المعارضة (كل "الإصلاحات" التي قام بها النظام تحت ضغط الشارع هي إجراءات شكلية قادر على استيعابها، ولا تمس آليته الخاصة في ممارسة السلطة واحتكارها). وإن أجبر على ذلك، فإن ذلك سوف يعني بداية تصدعه. غير أن وحدة النظام مقابل تبعثر المعارضة أنتج تفاوتاً لصالح النظام لم يكن من الممكن تجاوزه، إلا بتدخل خارجي حاسم لم يحدث، ولم يكن من الحكمة انتظاره أو الاعتماد عليه.

حين نتكلم عن المعارضة السورية لا يتضمن هذا التعبير القوى الإسلامية المتطرفة التي لا تعترف أصلاً بالمعارضة السورية ككيان أو كبرنامج، والتي نشأت كقوى عسكرية وسياسية في الوقت نفسه، لها سياساتها ومرجعياتها الفكرية الخاصة بها.

الحق أن المعارضة السورية عانت من تبعثر مركب، الأول هو تعدد المراكز السياسية المعارضة، وهو ما أعطى للدول ذات المصلحة في استمرار النظام "روسيا وايران"، القدرة على اللعب على هذا التعدد، بحيث تمكنت أن تُفشل مسعى الدول المساندة للثورة في فرض المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني، باعتباره الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري "مع كل ما يحمله هذا التعبير من اختزال ومع كل ما حملته سياسة تلك الدول تجاه الثورة السورية من زيغ". والثاني هو تعدد المراكز العسكرية وتعدد مرجعياتها الفكرية والسياسية وتعدد مصادر دعمها المالي والعسكري. والثالث أن المراكز السياسية للمعارضة السورية كانت منفكة عن المراكز العسكرية الفاعلة ضد القوات العسكرية للنظام الأمر الذي حرمها من حرية رسم سياسة خاصة بها وتنفيذها، بل كانت هذه التعبيرات السياسية دائماً رهينة القوى العسكرية الفاعلة على الأرض، حتى صارت سياساتها تقوم على استرضاء القوى العسكرية وتبرير أخطاءها..الخ، في علاقة معكوسة عما هو منطقي في العلاقة بين الجناح العسكري والسياسي لأي تنظيم. وهذا ما جعل من القوى العسكرية مراكز سياسية أيضاً وساهم في المزيد من تبعثر المعارضة.

هل كان يمكن للمعارضة السورية بعد اندلاع الثورة أن تكون موحدة؟ رغم افتراضية السؤال، ورغم أنه لا يحمل قيمة عملية الآن، إلا أنني أميل للإجابة بنعم. صحيح أنه كان يمكن للنظام "لو توحدت المعارضة السورية" أن يفتعل معارضة يشتت بها المعارضة، ولكن ما كان له أن يخلق "معارضة داخلية" لها اعتبار، إذا امتنع عن المساهمة معه معارضون "تاريخيون" بأسمائهم وتاريخهم. ولكن ما الذي منع وحدة المعارضة إذن؟ لا شك أن البحث في هذا السؤال يوصل إلى أسباب عديدة، قد يكون منها طبيعة الشخصية السورية التي شكا منها ذات يوم شكري القوتلي لجمال عبد الناصر حين قال: "إن نصف الشعب السوري أنبياء ونصفهم الآخر زعماء". غير أني أجد أن السبب الأهم في تشتت المعارضة السورية بعد الثورة هو غياب شخصية وطنية جامعة تشكل قطب الرحى للمعارضة. لم ينتج العمل السياسي المعارض في سوريا شخصية وطنية تحوز على قبول وطني واسع رغم كثرة أسماء المناضلين. وربما كانت شخصية رياض الترك "الذي لقب بمانديلا سوريا دون أن يتمكن من ملء هذا الدور"، المرشح الأمثل لشغل هذا المحل الوطني المحوري، لولا أنه تخلى طوعاً عن وجهه المستقل في رهانات متكررة، وخاسرة دوماً، على القوى الإسلامية.

النتيجة أنه ما لم تتمكن المعارضة السورية من التوحد والخروج من تحت عباءات الأوصياء، فإنها لن تفلح في إنجاز تغيير حقيقي، وسيبقى سقف آمالها هو نموذج المعارضة العراقية التي "انتصرت" بقوة الغزو الأميريكي، وأوصلت العراق إلى حال مزر من التفكك والارتهان والطائفية.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد