رحاب العلاوي، إذ تصرخ من موتها: لست رقما


27 آذار 2015

على ضفاف الموت اليومي للسوريين في الحرب الدائرة بين النظام والمعارضة المسلحة من جهة وبين الأخيرة والنظام والإرهاب من جهة أخرى، ثمة موت آخر: فاجع، صامت، ثقيل حد أن يشعرنا بالعجز المطلق، كما تقول لنا رحاب العلاوي من عالمها السماوي.

موت صامت لأنه بات يمر مرور الكرام أمام هول التحولات السياسية والإقليمية وصمت وسائل الإعلام وانشغالها التافه بما تعتبره "الأهم".

موت لا نتعود عليه، رغم كثرة الموت واعتيادنا المفجع به وعليه، لأنه حقا موت من نوع آخر.

إذا كانت الحرب تقتل دفعة واحدة لتحصد أبرياء يمنحون على الأقل "حرية" الصراخ قبل الموت أو "إمكانية" مقاومته والهرب منه، فإن المعتقل يجردك حتى هذا من الهامش الضيق، دون أن يحق لك الصراخ أو المقاومة. إنه الموت بالتدريج: اعتقالا، تعذيبا، جوعا، عذابا نفسيا، وهنا، ضعفا، سقوط مقاومة الجسد للمرض، اقتراب شبح الموت بما يعني التفكير به لحظة بلحظة إلى أن يفتك بك بالروح فتسقط دون أن تجرؤ على الصراخ، لأنه ثمة جلاد لم يرتوي بعد، قد يحيل لحظة حياتك الأخيرة إلى ما هو أبشع، فتختار الضحية: الموت بصمت دون أن ينتهي العذاب الذي ينتقل من جسد المعتقل إلى أهله اللذين لا يحظون حتى بمجرد جثمان له أو خبر، إذ يأتيهم الخبر على هيئة موت من نوع آخر.

لوحة للفنان أنور الغيسى. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على الفيسبوك
لوحة للفنان أنور الغيسى. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على الفيسبوك

بعد أن قدم المنشق "قيصر" شهادته عما رآه داخل تلك المعتقلات، مسربا آلاف الوثائق والصور التي أكدت أننا بمواجهة وحش يذكرنا بما قرأناه عن النازية والفاشية وعصور محاكم التفتيش، فصور الموت: فاضحة، عارية، قاتلة حد الصمت، ما جعل قلوب أهالي المعتقلين تغص كموت، وهم يبحثون في صور الموت عما يشبه فلذة أكبادهم، راجين أن لا، وهم يرون ابنهم في كل صورة تعذيب مشوّهة تحمل رقما مهرها الجلاد بسادية قاسية على جباههم، كي يسحب عنهم إنسانيتهم ما يقلل من ندمه ويبرر له فعله من وجهة نظر مؤسسة لا ترى بالأحرار إلا أرقاما يجب أن تفنى، إلا من قلوب أهلهم اللذين صوّرهم الفنان سمير خليل في لوحة له، تعكس ألمهم ووجوههم الممحوة بالحزن وهم يتلّقون خبر استشهاد أبنائهم.

رسم للفنان سمير خليلي يرصد لحظة تلقي الأهالي خبر مقتل أبنائهم تحت التعذيب. المصدر: صفحة الفنان على الفيسبوك
رسم للفنان سمير خليلي يرصد لحظة تلقي الأهالي خبر مقتل أبنائهم تحت التعذيب. المصدر: صفحة الفنان على الفيسبوك

من بين آلاف الصور، حظيت صورة المعتقلة الشهيدة "رحاب العلاوي" على اهتمام مضاعف على وسائل التواصل الاجتماعي، لتختصر قصتها قصة الهولوكوست السوري، حيث انتشرت صورة ألصق على جبينها رقم الفرع 215 الذي أصبح اسمه عند السوريين "فرع الموت" لكثرة الجثث التي خرجت منه ممهورة بفعل التعذيب، علما أن رحاب ابنة الستة وعشرين ربيعا خطفت من منزلها على أطراف العاصمة يوم 15-1-2013، وكانت تدرس الهندسة المدنية في جامعة دمشق، وهي ابنة مدينة موحسن في دير الزور وولدت في مدينة تدمر، ونشطت في مجال الإغاثة ومساندة المعتقلين والنازحين.

قد تكون أنوثة الموت هي من أثار الاهتمام بقضية "رحاب" وأعاد من خلالها تسليط الضوء على قضية المعتقلين الذين يموتون تحت التعذيب، حيث مدت قضيتها النشطاء مجددا بالحماس والدعوة إلى العمل والتحدي، فأصبحت "رحاب" اختصارا لقضية المعتقلين من جهة، والنشطاء المصممين على متابعة الدرب من جهة ثانية، حيث كتبت صفحة "الثورة السورية ضد بشار الأسد": "رحاب الثائرة من دون شهرة إعلامية ولا مؤتمرات دولية، إن لم يخلّدك السوريّون في ذاكرتهم لتكوني عوناً وسبباً لتطهير سورية من وحوش بيت الأسد، وإن لم نكمل ما أردتِ وما حلمتِ به أن يكون لكِ وللشهداء من قبلك، فلن يهنأ لنا العيش من بعدك، بل سنكون من أتعس التعساء، وأشد الخاسرين والمفرّطين بحق دماء الشهداء"، في حين كتبت "سعاد خيبة": "أيتها القديسة بشعرك وجسدك وروحك وطهرك، طهّرينا، طهّري نجس العقول وقذارة الضمائر، العار بصمتهم، العار بسرقاتهم وبتجاهل عذابك وعذابات المعتقلين"، وكتب "فادي الزاوي": "سقطت وجوه العالم في قعر الدنيا، وجهك علا نحو الجنان، لتحيا رموز الشرف والعزة، الرحمة لروحك الطاهرة".

وقال يحيى فواخرجي "في الحقيقة لا أحد منا رحاب هي وحدها تعذبت حتى ماتت، جاعت ولم تأكل، حلمت وما تحقق حلمها.. صدقت حين قالت الموت ولا المذلة وصارت عبارة عن رقم هي ومن معها من شهداء التعذيب. هم الخالدون ونحن لنا العار إن بقي الأسد على كرسيه، يا حرية غمرينا".

بالتوازي مع انتشار صورة رحاب على وسائل التواصل الاجتماعي أقدم عدد كبير من السوريين على كتابة أرقام على جباههم ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، بعضهم بشكل إفرادي وبعضهم ضمن حملة "السوريون ليسوا أرقاما"، تضامنا مع المعتقلين، واستنكارا لهذا الصمت الدولي، وسعيا لتحويل قضية المعتقلين إلى قضية رأي عام وعدم طمسها وسط ضجيج الحرب والسقوط الدولي المريع. وسيكون لنا وقفة خاصة مع الحملة.

الفن السوري بدوره، كان حاضرا إذ تحول وجه رحاب الذي ظهر بالوثائق المسربة إلى لوحة محاطة بالورد في لوحة للفنان أحمد جلل، وإلى وردة تحمل الرقم "2935" واسم الفرع (215) في لوحة للفنان "أنور العيسي" الذي رسم لوحة أخرى لرحاب بعينين دامعتين.

لافتة رفعها أهالي مدينة كفرنبل ضمن مظاهرة لهم. المصدر: صفحة لافتات كفرنبل المحتلة على الفيسبوك
لافتة رفعها أهالي مدينة كفرنبل ضمن مظاهرة لهم. المصدر: صفحة لافتات كفرنبل المحتلة على الفيسبوك

قضية رحاب ومن خلفها المعتقلين، لم تبق حبيسة وسائل التواصل الاجتماعي، إذ رفع أهالي كفر نبل لافتة في إحدى المظاهرات كتب عليها: "رحاب علاوي، وتسمو الشهيدة في رحاب عينيك، وتحرق فصائل اختارت قتل بعضها، وذرت قاتلوك"، لتتحول رحاب من جثة في صورة إلى فكرة رحبة لها رحاب السوريين وقلوبهم، والأهم أنها فتحت رحاب الفعل لكي لا يموت أشقائهم الباقين بصمت.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد