دولة المؤسسات والعدالة الاجتماعية تنثر بذارها في ولاية الرقة


22 آذار 2015

أيهم سلمان

خريج كلية الإعلام في جامعة دمشق، عمل في الصحافة المكتوبة منذ 2003، وفي الإعلام السمعي البصري لاحقاً ، واختص في الصحافة الفنية والثقافية. كتب للعديد من الصحف السورية والعربية منها: شرفات الشام الثقافية، جريدة الرواق، موقع شوكوماكو الالكتروني، صحيفة العرب اللندنية.

"دولة الإسلام.. باقية"، هذا الشعار الرنان الذي أطلقه تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام منذ ظهوره في مدينة (ولاية) الرقة، قد يبدو للوهلة الأولى شعاراً معنوياً، ترهيبياً، لكن سلوك التنظيم يؤكد جدّيته، فالتاريخ السوري قد شهد شعارات أخرى للأبدية والخلود، وأبرزها شعار "إلى الأبد يا حافظ الأسد"، الذي حكم الأسد بموجبه البلاد ثلاثين سنة في حياته، و14 عشر سنة بعد مماته، تحول ذات الشعار مع تغيّر الموجة الثورية إلى "قائدنا للأبد، سيدنا محمد" واتخذ شكله الأخير مع ظهور مشروع الدولة الإسلامية.

خرجت مدينة الرقة من يد النظام في آذار 2013، على يد خليط من الثوار والمجاهدين، وصُبغت المدينة على إثر ذلك، بألوان الراية الإسلامية، وعلم الاستقلال السوري، منذ ذلك الحين بدأت في المدينة مرحلة جديدة من التجاذبات والصراعات بين المشروعين، قبل ذلك ومنذ استقرار البعث، لم تعرف المدينة إلا لوناً واحداً، رغم وجود عدد كبير من معارضي النظام فيها من خلفياتٍ مختلفة، شيوعيون، بعثيون إصلاحيون، قوميون، أكراد و إسلاميون.

أظهرت المدينة كل ألوانها في الفترة الذهبية الأولى للتحرير، وشهدت نشاطاً مدنياً واسعاً لشبانها المتحمّسين، ممن قادوا الحراك المحدود ضد النظام قبل سقوط المدينة بأشهر، بدءوا بحملات لإعادة إحياء المدينة، وتصديرها كنموذجٍ لسورية خارج عباءة البعث. انقضى شهر العسل سريعاً، فالمدينة التي سقطت بقوة السلاح، لن يحكمها سواه، ذاب النشاط المدني، وتساقط صنَّاعُه، برز اللون الأسود أمام بقية الألوان الأخرى، وبدأ مشروع الاستئثار الجديد ينمو أكثر فأكثر.

أيام البعث وحتى ما قبله، لم تعرف المدينة شكلاً إسلامياً متشدداً، فالحياة الاجتماعية كانت في أبسط صورها، بحكم عدّة عوامل، منها عراقة المدينة، وتنوع هويات قاطنيها، من أرمن وأكراد وأتراك، وموظفين حكوميين من مختلف المناطق السورية انتدبوا للعمل فيها، وأغلبهم من الأقليات، إضافة إلى العسكريين الذين قضوا في المدينة سنتين كحد أدنى، خلال خدمتهم الإلزامية على تخوم المدينة، أو في المراكز الأمنية داخلها. النماذج المتشدّدة كانت نادرة في المدينة، رغم الشكل الاجتماعي، إلا أن بعض مظاهر الانفتاح كانت بارزة ، فربما يتقبّل الرجل المتديّن فكرة انتماء ابنه إلى الشيوعية، أو يزوج ابنته لأحد أبناء الأقليات، يسمح لزوجته بالخروج للعمل، ومرافقة أقربائها من الذكور، كما أن المجالس المختلطة غالباً، تستخدم فيها العبارات النابية بين النساء والرجال على سبيل المزاح، ظواهر "الانفلات الاجتماعي" بالمفهوم السائد كانت مألوفة أيضاً، فالملاهي المصغرّة كانت منتشرة في المدينة وعلى أطرافها، تقوم فيها بعض النساء الملقبات بـ"الحجّيات" بالرقص للزبائن المخمورين، العلاقات الجنسية كانت متاحة بشكل محدود، حتّى المثليّة منها، وبعض بيوت الدعارة كانت معروفة للجميع.

نموذج المدينة السالف لم يكن قابلاً للأسلمة والتشدّد إلاّ بالقوة، حاولت بعض الكتائب الإسلامية المسيطرة على المدينة فرض مفاهيمها، واصطدمت مع المتحريين والمعتدلين، لم تستطع السيطرة عليهم بشكل كامل، حتى دخول تنظيم الدولة الإسلامية الذي حوّل الرقة من مدينة إلى "ولاية"، واتّخذ منها عاصمةً للدولة التي يطمح لها، بعد تناقص عدد المنادين بالاعتدال، وخروج الأقلّيات من المدينة، ثم بدأ بطرد وتصفية كل أفراد الفصائل المسلّحة الأخرى ممن رفضوا مبايعته، والانضواء تحت سلطته، فأطبق بذلك على الرقة بشكل كامل.

يبدو أن التنظيم دخل المدينة بخطط واستراتيجيات مسبقة، مستندة إلى فهم طبيعة المدينة وتركيبتها، هذا الفهم ليس مجرّد تصورات وانطباعات، بل يرقى إلى مستوى أبحاثٍ اجتماعية وتاريخية، لم يدخل إلى المدينة ليكتشف ما يناسبها، بل عرف ذلك سلفاً، فمنذ دخوله بدا حريصاً على ضبط الحالة الفوضوية التي كانت تحكمها، أمّن احتياجات من بقي من سكانها، وباشر ببناء مؤسساته وبناه التحتية، وألغى تدريجياً كل آثار النظام، استبدل المدارس بأخرى جديدة تناسب نهجه الثقافي، ثم بدأ التحضير لافتتاح جامعاته ومستشفياته ودوائره الحكومية الشرعية، نشر شبكة اتصالات خاصّة، وأوجد حلولاً لتزويد المنازل بالكهرباء والماء، سن قوانينه وافتتح مؤسساته العدلية والأمنية، اعتمد على الخبراء ممن كانوا يعملون في المرافق الحيوية الحكومية لاستصلاحها، واعتنى عناية فائقة بكل التفاصيل التي من شأنها الإيحاء بخطة متكاملة لإدارة المنطقة، داعياً بشكل ضمني سكان الرقة لاختبار هذه التجربة، علَّها تكون الخيار الأفضل، بالمقارنة مع حكم النظام أو معارضته المسلّحة، خاصة أنه يدخل إلى بيئة ملتزمة دينياً حتى وإن كانت مختلفة عنه في درجة تشدّدها، إضافة لأنه يفهم ويستثمر رغبة البعض، في التخلص نهائياً من نظام البعث الأمني، حتى ولو حل الشيطان بديلاً له.

يستفيد التنظيم كذلك من تجربة نظام الأسد في السيطرة على هذه المناطق، ويمارس سياسة نظيرة، خاصة على المستوى الأمني، حين يعتمد الأسلوب السوفييتي ذاته، ويطوّع ضابطاً أمنياً سابقاً في المخابرات الروسية، كانت له علاقات وثيقة، مع كبار الضباط المخابرات السورية، ليكون المسئول الأمني في الرقة، حتى أنه اتخذ من مراكز النظام الأمنية في المدينة مقرات له، ومارس داخل المدينة ذات النهج والسلوك، فهو يعلم ما يدور في بيوت المدينة من أحاديث تنتقده، لكنه لا يكترث إلاّ بالحالات التي تشكّل خطراً على كيانه، كالصحافيين المتسلّلين، والشخصيات التي تؤثر على الرأي العام الداخلي، فيعمد إلى إبعادها أو تصفيتها، حتى على المستوى الاجتماعي، ورث التنظيم تحالفات نظام الأسد مع زعماء العشائر، وحاول تحجيم من رفض مبايعته منهم، في ذات الوقت يستدرك بعض أخطاء سلفه، فشعاراته الأبدية تخلّد الأمة لا الأفراد، حرص في سبيل ذلك على الشكل الحصين لمؤسساته، وركّز على تطبيق قوانينه بحذافيرها، بالحد الأدنى من الفساد المفضوح، فالجميع تحت سلطة الشريعة، بمن فيهم أمراء التنظيم، في ظاهر الأمر على الأقل، هذا المبدأ قد يبدو مقبولاً لمن يؤمن أن ظلم الجميع عدالة.

يستفيد التنظيم كذلك من الظرف الدولي، ويفهم تماماً استخدامه الراهن من قبل جميع الأطراف، القوى الدولية التي ما زالت تلعب بورقة القضاء على الإرهاب، ونظام الأسد الذي يؤّكد عبره دعاياته الأولى حول الإمارات السلفية وإبادة الأقليات، وتركيا التي تستثمره لتبديد تخوفاتها من رغبة الأكراد في تأسيس دولتهم، وإيران لتحتفظ بمكانها على الرقعة، وأخيراً وأولاً إسرائيل التي تسعى إلى شرعنة يهوديتها، وتجد في "داعش" توأماً مناسباً يخدم هذا الغرض.

 علاقة الاستفادة والاستخدام المتبادل هذه قد تدوم طويلاً، وهي الفرضية الأخطر، فاستمرار هذا النزاع دون حسم، بالتأكيد سيمدّد عمر نظام الأسد وتنظيم الدولة معاً، صحيح أن الأخير هو فكرة غريبة وغير مقبولة حالياً، وأن معظم سكان المناطق التي يسيطر عليها ما زالوا يؤمنون بهويتهم الوطنية أو الإنسانية، إلاّ أن استمراره لسنوات قادمة يعني أن جيلاً جديداً سينشأ في رعايته، بذرة لها قدرة انشطارية، هذا الجيل سيدافع عن وجوده من وجهة النظر التي تشرّبها، هنا تتحول "داعش" من حالة عرضية إلى كيان قائم.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد