قمع استراتيجي وثورة مرتجلة


17 كانون الثاني 2015

راتب شعبو

راتب شعبو: طبيب وكاتب سورى من مواليد 1963. قضى من عمره 16 عامًا متّصلة (1983 - 1999) فى السجون السوريّة، كان آخرها سجنُ تدمر العسكري. صدر له كتاب دنيا الدين الإسلامى الأوّلَ، وله مساهمات فى الترجمة عن الإنكليزيّة.

كان في سلوك النظام السوري منذ بداية اندلاع الثورة السورية أمران يشدان النظر، الأول هو أن النظام أدخل الجيش منذ البداية، حين كان يبدو أنه ليس في الحراك ما يستوجب إدخال الجيش، ليقوم بدور قوى الأمن، الشيء الذي فرض على الجيش القيام بأعمال قمع وفض مظاهرات ونصب حواجز ..الخ. الثاني هو أن النظام تهيأ لمواجهة الثورة على أمد بعيد، فرغم الترويج الإعلامي للحديث عن قرب انتهاء "الأزمة" وأنها "خلصت" وامتلاء الشوارع بعبارات تسخيف ما يجري من مثل (صغيرة يا كبير) و(سورية بخير)، وتتفيه الثورة بتسميتها "فورة" على ألسنة الموالين للنظام، كان حديث الأشخاص ذوي الشأن السياسي في النظام يدور عن "أزمة" طويلة الأمد لا تقل عن خمس سنوات، وذلك منذ الأشهر الأولى للثورة. وكان يجري تعميم هذا التقييم عبر القنوات الحزبية والأمنية كنوع من التهيئة النفسية لكوادر النظام واستنفار استعدادهم لصراع طويل.

النظام الذي يبني تماسكه على الفساد والقمع يدرك بلا شك أنه مقبل يوما ما على مواجهة واسعة مع الشعب، أو على الأقل يضع هذا الاحتمال في حسبانه ويدرسه. ولأن الأنظمة الشبيهة بالنظام السوري هي أنظمة ضعيفة المرونة السياسية في الداخل، وتقوم ديمومتها على مبدأ "كل شيء أو لا شيء"، وهو المبدأ الذي وجد تعبيره في سورية بصيغة "الأسد أو نحرق البلد"، فإنها تستثمر في ابتكار وسائل لإحباط الثورات لا تقتصر على القمع المباشر، وهي لهذا تجند طاقات فكرية للدراسة والسبر والتحليل والاستباق تتفوق بكثير على ما يمكن أن تتوفر عليه الثورة من إمكانيات موازية.

تمثلت سياسة النظام تجاه الثورة في عدم الاستهانة بالحراك منذ البداية، وهذا ما دفعه، وكأنه ينفذ مخططاً مسبق الإعداد، إلى إخراج الجيش من الثكنات إلى الشوارع، لاستعارة قيمة سياسية كان يحتاجها النظام بشدة في بداية الثورة حيث كان النظام في الحضيض سياسياً ومعنوياً، خاوياً من أي قيمة وطنية "اعتداءات اسرائيلية متكررة دون رد"، واقتصادية اجتماعية "انخفاض مستوى المعيشة وزيادة منسوب الفساد"، وسياسية "قمع واحتكار مزمن للسلطة السياسية". الجيش يحمل قيمة معنوية في الوعي العام، كحامي للوطن. والجيوش لا يتم تحريكها في الداخل عموماً إلا لمواجهة أزمات وطنية هامة، مثل الكوارث الطبيعية أو أعمال الشغب والتخريب الواسعة. استهلك النظام القيمة المعنوية للجيش السوري الذي صار، بعد حين، في نظر قطاع واسع من الشعب جهاز قمع أكثر مما هو "جيش وطني"، وفيما بعد صار يوصف "بالعدو". وجراء هذا الزج بالجيش ضد المتظاهرين، اضطر قسم كبير من أفراد الجيش للفرار سواء كموقف إنساني أو سياسي أو حتى كهروب من الخدمة، ما مهد لنشوء "الجيش السوري الحر". في هذه الأثناء كان النظام السوري قد قطع شوطاً في استراتيجيته الأساسية تجاه الثورة، وهو دفعها باتجاه العنف والأسلمة. وهو الرهان والهدف الذي اشتغل عليه النظام منذ البداية، وقد كان مخلصاً لهدفه هذا كما يخلص الغريق لحبل النجاة.

لم يكن إنزال الجيش إلى الشوارع منذ البداية اعتباطياً، فقد حقق ذلك للنظام ثلاث خدمات: استعارة قيمة معنوية في البداية، وتسريع في عسكرة الثورة، ومن ثم تكييف الجيش نفسياً وعسكرياً للعمل كجهاز قمع.

أما الثورة فقد تركت لتطورها "الطبيعي" الأمر الذي جعلها سهلة الانقياد لاستراتيجية النظام. الإمكانيات الفكرية والسياسية التي توفرت للثورة السورية كانت "بنت لحظتها"، لم يكن ثمة ما يمكن أن نطلق عليه اسم "حزب الثورة" أو "تنظيم الثورة"، لم يكن ثمة إعداد أو تطوير لرؤية أو نهج. كل ما توفرت عليه الثورة السورية هو طاقات مبعثرة تطوعت لخدمة الثورة بصورة غلب عليها الارتجال وغاب عنها التنسيق بصورة شبه تامة. كان "مثقفو الثورة" على درجات مختلفة من الوعي وألوان مختلفة من التوجهات، فلم يتبلور خط فكري واضح للثورة، فضلاً عن أن المثقفين كانوا على طول الخط ضعيفي التأثير على ما يجري في الواقع وكانوا يعوضون عن ذلك بقبول ما يجري والتنظير له وأحياناً تمجيده. لم يكن للثورة خيار محدد لصالح السلمية أو العسكرية، ولم يكن للثورة توجه موحد بين العلمانية والإسلامية، ولم يكن لها توجه محدد بين التدرج والجذرية ..الخ. وهذا ما جعل لمراكز خارجية، هي في الواقع مراكز تابعة لأنظمة تنتمي إلى منظومة النظام السوري نفسها، قوة التأثير الأولى على الثورة.

لا شك أن هناك دولاً قدمت الدعم المالي والإعلامي والسياسي واللوجستي ..الخ للثورة السورية، وفرضت لذلك "رؤيتها" عليها كثمن لما قدمته، غير أن الحقيقة أيضاً أن الثورة السورية لم يكن لها رؤية خاصة تواجه بها رؤية هذه الدول. أي لم يكن العوز المالي والعسكري واللوجستي ..الخ هو فقط ما أوقع الثورة تحت رحمة الخارج، بل والعوز الفكري والسياسي أيضاً. وحين غطى التدخل الخارجي العسكري على هذا العوز الأخير (مثال ليبيا) فإنه ظهر لاحقاً بكل مأساوية في فترة ما بعد "الانتصار".

تقول الثورة السورية اليوم وهي على أعتاب دخول عامها الخامس، لا يستجيب القدر إذا أراد الشعب الحياة، ما لم تمتلك هذه الإرادة حدوداً دنيا من الوعي والتنظيم والخطة. وتقول تجربة "الربيع العربي" إن الأنظمة طوّرت علم الديمومة أكثر مما طورت الشعوب علم التغيير.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد