الخلفيات الثقافية للإرهاب: في سبيل إستراتيجية وطنية للثقافة


22 كانون الثاني 2015

جاد الكريم الجباعي

مفكر سوري من مواليد 1945. له عدد من الكتب والمؤلفات منها: طريق إلى الديمقراطية، وردة في صليب الحاضر، قضايا النهضة، جدلية المعرفة والسياسة، من الرعوية إلى المواطنة

ثقافتنا هي ما نحن عليه، وما يمكن أن نكون. من هنا تأتي صلة الثقافة بالهوية، على اختلاف دلالاتها ومضامينها؛ ما يعني أن "الهويات القاتلة" والمتقاتلة، في سوريا، وفي غيرها، كيانات ثقافية، تنطوي على جرثومة العنف والإرهاب، بما هي هويات أو عصبيات قاتلة لإنسانية أفرادها أولاً، وإلا لما كان الإرهاب ممكناً. فمن هُدر كيانه الاجتماعي وشخصه القانوني والأخلاقي، وقُتل فيه روحه الإنساني، كما حدث عندنا على مدى نصف قرن، يقبل أن يُفعَل به أيُّ شيء، وأن يفعل هو أيَّ شيء، كما لاحظ مصطفى حجازي بحق. إن قتل الروح الإنساني في الأفراد هو أساس ما يسميه دركهايم الأنوميا أو "انحلال القيم" المؤدي إلى الانتحار (الفردي والجماعي).

ثقافتنا هي من تجز الرؤوس وتقطع الأيدي والأرجل، هي من تغتصب، ومن تتاجر بالأعضاء البشرية، وهي من تلقي بالبراميل المتفجرة على المدن والبلدات والقرى، ومن تطلق الصواريخ المحملة بالموت الكيماوي وغير الكيماوي ومن تقتل المعتقلين تحت التعذيب ... هي من تقتل وتدمر وتحتفل بالنصر، وهي التي وضعت نقطة على حاء الحرية التي كتبت على جدران البيوت في المدن السورية، واعتقلت عشرات آلاف الشابات والشباب لأنهن أردن الحرية وأرادوها ..إذا لم نعترف بذلك لا نستطيع القبض على الهمجي المتخفي في وعينا وفكرنا وسلوكنا، حتى عندما نتزوج ونغتصب زوجاتنا حين نرغب في ممارسة الجنس، وحين "نؤدب" بناتنا وأولادنا .. وستكون الحرب سلسلة طويلة. الثقافة ليست غطاء للمصالح، بل هي المصالح ذاتها، في صورتها الوحشية. كلنا نعرف أن للمصالح صوراً مدنية كثيرة.

الحرب الدائرة في سوريا نوع من انتحار جماعي؛ فقد كشفت عن الآثار الكارثية للثقافة العدمية وانحلال القيم، الذي بلغ ذروة لم يعد بعدها سوى الإرهاب. لقد كان الفساد والإفساد والقمع الوحشي أو العنف اللاقانوني والإفقار المتمادي والتهميش والإقصاء والإذلال وانحلال القيم المجتمعية والإنسانية، في العقود الماضية، انزلاقاً يومياً إلى الكارثة، لأن السلطة لم تكن تنظر إلى الشعب، ولم تكن تتعامل معه، إلا بصفته قطيعاً بشرياً، ولم تكن تنظر إلى الأفراد، ولم تكن تتعامل معهم، إلا بصفاتهم أدوات لتحقيق غاياتها، فجردتهم من إنسانيتهم، وتجردت هي وأفرادها من الإنسانية.

تلكم كانت سيرورة "حيونة الإنسان"، التي رصدها ممدوح عدوان، والتي صار معها "الموت ولا التعريص مع دولة هذه الأيام" شافياً لمن تبقى لديه بعض من قيم إنسانية وبعض من كرامة، كما في مسرحية "يوم من زماننا" لسعد الله ونوس. فليس من الممكن أن نستبعد الآخر ونزدريه ونهينه، وننكِّل به، إلا بعد أن نجرده من صفاته وخصائصه الإنسانية. لكن من يفعل ذلك ينسى أنه قد تجرد هو نفسه من إنسانيته، إن لم يكن مجرّداً منها من قبل.

ولما كانت الثقافة، وليدة العلاقة الجدلية بين المعرفة والعمل والفاعلية الإنسانية وما ينتج منها من علاقات متبادلة بين الأفراد والجماعات وما يتعين من مؤسسات، فإنه من غير المنطقي فصل الثقافة عن الممارسة، على ما للثقافة من وقع طيّب في النفوس، ولما لصفة المثقفة والمثقف من إيحاء إيجابي ناجم فصل الثقافة عن السلوك، وعن طبيعة العلاقات بين الأفراد والجماعات والمؤسسات التي تنشأ منها. الثقافة، بإطلاق اللفظ، ليست درعاً تقي من العيوب، بل قد تكون هي العيوب ذاتها وما ينتج العيوب، كالثقافة العنصرية، مثلاً، قومية كانت أم دينية ومذهبية. كنا نقول: كل ثقافة تنطوي على قيم إنسانية ومدنية، كالحرية والمساواة والعدالة ..بالمقابل، يجب أن تقول: كل ثقافة تنطوي على قيم سلبية، لا إنسانية، كالتعصب والكراهية ورفض الآخر المختلف .. التقدم والتأخر مرهونان بغلبة ما هو إنساني أو العكس. لا يمكن استئصال الشر من العالم.

الثقافة ممارسة نظرية وعملية، فكرية واجتماعية وسياسية، لا هي إيجابية بإطلاق ولا هي سلبية بإطلاق، وفقاً للدلالة القيمية للسلب والإيجاب، ما يوجب نقد الثقافة، بمعناها الواسع، أو غربلتها في كل حين؛ لذلك، لا نرى في الإرهاب المتنقل بحرية، في سوريا وغيرها، سوى ممارسة عدمية، مؤثلة ومتجذرة في ثقافتنا الشفوية والمكتوبة، وفي النصوص التأسيسية، للجماعات الثقافية المختلفة، الإثنية والمذهبية، وتأويلاتها، أي في متون الثقافة وحواشيها، وتتكفل التربية التقليدية والتعليم الرسمي، "القومي الاشتراكي"، والتلقين الأيديولوجي عامة والديني خاصة بإعادة إنتاجها.

حتى عام 2011 كان الوضع الثقافي في سوريا كارثياً؛ لأن 77,9% من السكان، ممن هم فوق الخامسة عشرة، سوية المتعلمين منهم لا تتعدى الشهادة الإعدادية، حسب إحصاء 2010، وهذه الشهادة ليست أكثر من محو أمية. وإذا أضفنا إليهم نسبة الحاصلات والحاصلين على شهادة ثانوية فقط، (بحكم تدني مستوى التعليم ونوعيته)، أي 12,6%، تغدو نسبة الأميين والملمين وأشباه المتعلمين 90,5% من المجموع، ما يعني أن معظم هؤلاء متروكون للثقافة التقليدية، ثقافة العائلة والعشيرة والطائفة الدينية، الشفوية بصورة أساسية، ولوسائل الإعلام المسموعة والمرئية. والحاصلون على شهادة معهد أو كلية جامعية أو شهادة عليا تغلب على ثقافتهم أيديولوجيات سلفية، قومية أو دينية، أو مستقبلية، كالأيديولوجية الاشتراكية، وهم عماد الأحزاب السياسية وجماهيرها، إلا من نأوا بأنفسهم عن "السياسية"، التي لا تزيد على كونها أيديولوجيا. وإذا افترضنا أن معظم الأميين والملمين وأشباه المتعلمين مُفقَرون ومهمشون ومهدورة إنسانيتهم ومسدودة في وجوههم آفاق الحياة الكريمة .. يغدو مفهوماً أن يكونوا حاضنة لشتى أنواع العصبيات وقوة معبّأة واحتياطية للجماعات المقاتلة من الجانبين. وقد تدهورت الأوضاع أكثر في خلال الحرب. فلا يمكن التفكير في مستقبل سوريا إلا بأخذ هذه الوقائع الصلبة في الحسبان.

ثمة مقاربات كثيرة لإعادة الإعمار، لم تلاحظ أن إعادة الإعمار مثل إعادة الإنتاج، أي إعادة بناء ما تهدم باللبنات ذاتها والأشكال ذاتها والأساليب ذاتها، ورتق ما انفتق وتمزّق بالخيوط ذاتها والمسلّة ذاتها. يمكن للحرب أن تتوقف، ولكن الثقافة السائدة ستعيد إنتاجها أو شروط إمكانها، بصور أخرى في أوقات أخرى، ما دامت سائدة، ومبرّأة من الشك، ومنزَّهة عن النقد.

فإن عملية الإعمار والبناء، المادية واللامادية المنشودة هي، في التحليل الأخير، وقعنة أو تموّضع لمعرفة من سيقومون بذلك وثقافتهم. وإذ يتبلور ميل أوضح فأوضح إلى عقد اجتماعي جديد، يقوم على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطن وقيم العدالة فلا بد من إيلاء الإعمار الثقافي، أي الإعمار الإنساني الأهمية التي يستحق والأولوية التي يستحق.

على الصعيد العملي لا بد التمهيد لاستقلال الثقافة عن السلطات الاجتماعية والدينية والسياسية بالتفات المثقفين داخل البلاد وخارجها إلى أولوية التأسيس الثقافي للاجتماع والاقتصاد والسياسة، وهو في الوقت ذاته تأسيس أخلاقي، بدلاً من انضوائهم في تشكيلات أيديولوجية، ضررها عليهم وعلى مستقبل البلاد أكثر من نفعها، لأنها تعيد إنتاج التقاليد السياسية والثقافية الرثة، التي قادت البلاد إلى ما هي عليه. فقد بيّنت التجربة السورية، أيام "ربيع دمشق" أن تأثير الثقافة والمثقفات والمثقفين في القوى السياسية، المعارضة والموالية، من خارجها أكثر قوة وجدوى من الانخراط في صفوفها والتبعية لها.

استقلال الثقافة عن السلطة التنفيذية وأجهزتها شرط أولي للنقاش والتوافق على إستراتيجية ثقافية، تستند على دراسات معمقة وبحوث ميدانية ومعطيات واقعية، تشمل التربية والتعليم والمؤسسات الثقافية، وتُدرَج في الرؤية الوطنية العامة، وتكون أساساً للإعمار والبناء، على جميع الصعد.

في إطار هذه الإستراتيجية يمكن التفكير، من اليوم، في تأسيس مجلس وطني للثقافة من مثقفات ومثقفين مشهود لهم بالكفاءة والخبرة، ويضم في عضويته ممثلات وممثلين عن منظمات المجتمع المدني، يعمل على إنهاء تبعية الثقافة للسلطة السياسية والدينية والأمنية، ويجمع شتات المثقفين والجمعيات والمنابر الثقافية، التي تكاثرت، خارج البلاد، ويضع تصوّراً عملياً، بل خطة عملية، لتنفيذ الإستراتيجية الثقافية، تشمل:

-الضمانات الدستورية والقانونية لحرية العاملات والعاملين في المجال الثقافي، وحقوقهم المدنية والسياسية.

- إلغاء العقبات التشريعية والرقابية التي تقيّد الحرية وتخضع الثقافة للسلطة التنفيذية وأجهزتها الأمنية، وإيكال الحكم في المنتجات الثقافية للقضاء المدني، في حال ادعاء المتضررين منها أو المعترضين عليها.

- تحديث نظام التربية والتعليم من حيث المناهج والكتب المدرسية والجامعية والكادر البشري وطرق التربية والتعليم، وتحديث المؤسسات، وفقاً لحاجات النهوض والتقدم، وضرورة مواجهة الثقافة التقليدية والأيديولوجيات المشحونة بالعنصرية والضغينة والكراهية بالمعرفة العلمية، التي يجب أن تكون أساساً لتعليم اللغة العربية وآدابها واللغات الأجنبية وآدابها، انطلاقاً مما هي عليه اليوم لا مما كانت عليه في "قديم الزمان"، وتعليم التاريخ المقارن، بدلاً من السردية المسماة تاريخاً، وتاريخ الأديان المقارن بدلاً مما يسمى "التربية الدينية"، واعتماد منجزات العلوم الحديثة في المناهج والكتب المدرسية إلى جانب تاريخ العلوم، وإدراج التربية الجنسية في المناهج والكتب المدرسية. فإن فصل الإيديولوجيا عن التربية والتعليم هو ما يضمن تجديد العملية التربوية والتعليمية وتحديثها وتعميق المعرفة العلمية وجعلها أساساً لثقافة حديثة.

- بناء مؤسسات جديدة لإنتاج الثقافة وإعادة إنتاجها، وكيفية توزيع الموارد والمنتجات الثقافية توزيعاً عادلاً، بين الريف والمدينة وبين الفئات الاجتماعية، وآليات تدفق المعلومات وسهولة الحصول عليها، إلى جانب مؤسسات البحث العلمي، وفقاً لدراسات علمية دقيقة وبحوث ميدانية ومسوح إحصائية دقيقة، يفترض أن يكون العمل جارياً عليها.

ولما كان المردود المتوّقع من إستراتيجية ثقافية عامة بعيد المدى، تجب المسارعة إلى تأهيل، ولو جامعة واحدة من الجامعات السورية، كجامعة دمشق، بادئ الأمر، لتكون في مستوى أفضل الجامعات العالمية وعلى غرارها، مهما تكن كلفة ذلك باهظة، لأن هذا يعادل لقمة العيش في الأهمية. وبذلك يمكن اختصار الوقت، وإعداد الكادر البشري اللازم لنهضة علمية وثقافية. يجب ألا يكون التعليم في سوريا تجهيلاً مرة أخرى.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد