الحل السوري الممكن بين الداخل والخارج(8)


03 كانون الأول 2014

راتب شعبو

راتب شعبو: طبيب وكاتب سورى من مواليد 1963. قضى من عمره 16 عامًا متّصلة (1983 - 1999) فى السجون السوريّة، كان آخرها سجنُ تدمر العسكري. صدر له كتاب دنيا الدين الإسلامى الأوّلَ، وله مساهمات فى الترجمة عن الإنكليزيّة.

أسوأ ما في الوضع السوري اليوم أن الكلمة العليا فيه باتت للقوة المحضة، على النقيض تماما مما أراده السوريون حين بدؤوا انتفاضتهم منذ أقل من أربع سنوات بقليل. العدالة والكرامة والحرية التي طالب بها السوريون المنتفضون كانت تعني جعل مبدأ الحق فوق مبدأ القوة، ما يعني خضوع مبدأ القوة لمبدأ الحق أو ما يسمى "سيادة القانون" الفعلية، بعد أن اعتدنا على "سيادة القانون" الخطابية البعثية المغثية. بالفعل علا مبدأ الحق في بداية الثورة لأن أصحاب الحق امتلكوا لأول مرة القوة، قوة اجتماعهم ووحدة هدفهم. ولكن ما انتهى إليه الحال اليوم هو أن مبدأ القوة عاد للسيطرة كما كان عليه الحال من قبل ولكن بفارق مهم هو تعدد مراكز القوى العسكرية على الأرض وتعدد مرجعياتها، وهذا ما أهدر مجدداً القيم التي انتفض السوريون بغرض الانتصار لها.

بهت حضور الحق في لوحة الصراع السورية الحالية، حين تراجع المتظاهرون من الشوارع والساحات لتحل محلهم جماعات مسلحة. (سأقول على الفور، من باب الاحتياط المسبق نظراً لحساسية هذه النقطة، ليس في موضوع هذا المقال مناقشة أسباب التسلح، وإمكانية الاستمرار دون تسلح أم لا، ودور النظام وغيره في التسلح ..الخ، المقال يتعامل هنا مع نتائج التسلح كما تكرس في سياق الثورة السورية). مع هذا التحوّل انتقلت القوة من جموع الناس المتظاهرة والثائرة والموحدة الهدف إلى تشكيلات عسكرية كان تبرير وجودها الأولي "حماية المتظاهرين" لتصبح فيما بعد بديلاً عن المتظاهرين لا بل طاردة لهم، ولتمتلك منطقها العسكري والسياسي الخاص والمستقل عن منطق الجمهور الذي فجر الثورة.

بين أن تكون قوة الثورة كامنة في إرادة التحرر التي يبديها الجمهور في الشوارع ويعبرون عما يريدون بحضورهم وبأصواتهم المباشرة ولافتاتهم، وبين أن تصبح القوة في يد قادة تشكيلات عسكرية مبعثرة ومتعددة الاتجاهات يظنون أنهم يعبرون عن "إرادة الثورة"، تبدل هام يغير في طبيعة المسار نفسه. ويزيد من خطورته عدم خضوع التشكيلات العسكرية هذه لجهة سياسية محددة وعدم وجود مركزية سياسية في قيادة الثورة، ليس فقط بسبب تبعثر التعبيرات السياسية السورية بل أيضاً بسبب تبعثر التأثيرات السياسية الإقليمية والدولية على هذه التعبيرات.

ورافق هذا التحوّل (التحوّل من شكل الاحتجاج بالتظاهرات إلى الاحتجاج بالبندقية) تحوّل آخر لصيق به هو تراجع سطوة الدافع الداخلي للثورة وتنحي منطق الثورة (التحرّر) لصالح سيطرة الدافع الخارجي المتمثل في سياسات واستراتيجات الدول الداعمة للتشكيلات العسكرية، وسيطرة منطق الخارج (تعزيز النفوذ). فالتحول العسكري لا بد أن يستدعي رعاية دول تؤمن السلاح والمال والاستخبارات وما إلى ذلك، ومن البديهي أن لهذه الدول سياسة مستقلة عن الثورة وعن منطقها، لا بل معادية لها في العمق. بهذا تحولت الثورة في سورية إلى ميدان صراعات إقليمية ودولية سحقت الثورة تماماً وأحالت مادتها الأساسية (الشعب السوري) إلى مجرد ركام بشري (سجناء، نازحين، مشردين، لاجئين، مقعدين ..الخ) فضلاً عن مئات آلاف الضحايا، دون أن تفتح باباً للخلاص.

اليوم حين نبحث عن مخرج للوضع السوري المتأزم والكارثي سنجد أن كل الترسيمات الانتقالية، مهما بلغت من الحنكة، فاقدة للفعالية ما لم تحز على القوة الكافية لفرضها. وحين يكون الأمر هكذا، أي حين يحتاج الحل إلى قوة تفرضه فإن ترسيمة الحل لن تعبأ بالمنطق أو بالعدل بل ستعبأ فقط بما يناسب القوة القادرة على فرضه. هكذا يحدث دائماً حين تنفك القوة عن الحق كما هو اليوم الحال في سوريا. القوة اليوم في يد النظام، وفي يد تنظيمات إسلامية، وفي يد التحالف الدولي الذي يحارب الإرهاب. والحق في يد الشعب الذي أُقصي بعد أن جعلته هذه القوى يدفع أكبر فاتورة صراع عرفها في تاريخه.

يحدث أن تجلس أطراف الصراع إلى طاولة تفاوض ويتوصلوا إلى حل سياسي (تسوية) دون وجود قوة "خارجية" تعمل على فرض هذا الحل. يحدث ذلك حين تصل الأطراف المتصارعة إلى اليأس من القدرة على الانتصار. اليأس والإنهاك يمكن أن يقود الأطراف إلى التفاوض الجاد والتوصل إلى تسوية، بصرف النظر عن أسباب قوة كل طرف. أي يمكن لأطراف خارجية أن تساهم في تحقيق هذا التوازن الذي يفرض على الطرفين المتصارعين البحث عن حل تفاوضي. كذا كان الحال في الحرب العراقية الإيرانية، وكذا كان الحال في السودان بين الجنوب والحكومة المركزية، وهو كذلك اليوم في فلسطين، أكان بين إسرائيل والفلسطينيين، أو بين الطرفين الفلسطينيين المتنازعين على السلطة (حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية).. الخ.

في الصراع السوري يدفع الاستقطاب الإقليمي والدولي المتراكب مع الاستقطاب الطائفي الداخلي والإقليمي باتجاه الاعتقاد أننا بحاجة إلى نوع من الحلول التفاوضية الكبرى على شاكلة اتفاق الطائف بين اللبنانيين (1989) أو على شاكلة اتفاق دايتون للسلام بين أطراف الصراع في يوغسلافيا السابقة (1995). في الاتفاقيتين المذكورتين يمكن ملاحظة ما يلي:

1. هناك جهة خارجية تتمتع بقوة الفرض، أكانت هذه الجهة تحالفاً أم دولة كبرى اقتضت سياستها إيجاد حل للصراع، قامت برعاية التوصل إلى الاتفاق وتنفيذه. ولا يبدو أن الصراع السوري سيجد حله دون وجود مثل هذه الجهة. هذا يعني أن الاتفاق الخارجي (ليس فقط بمعنى كف الأطراف الخارجية عن ممارسة صراعها على الأرض السورية بل بمعنى الاتفاق على مستقبل سوريا ورسم خارطة طريق له) بات شرطاً لازماً للاتفاق الداخلي.
2. التسوية في مثل هذه الحالات المستعصية هي على الأرجح تسوية تقسيمية. إما على شاكلة التقسيم الدايتوني "تقسيم جغرافي" أو على شاكلة التقسيم الطائفي (نسبة إلى الطائف) "تقسيم للسلطة". ولا نستبعد أن يتضمن "الطائف السوري" تقسيماً جغرافياً ينطوي على أبعاد طائفية، وهو أسوأ ما يمكن التوصل إليه.
3. الثقل الأول في الميزان هو للمصالح الخارجية صاحبة القوة في الفرض، ثم للأطراف صاحبة القوة على الأرض في الداخل، والوزن الأخير هو للشعب السوري الذي فجر ثورة ذات مضمون تحرري.

إذا صح هذا فإن السؤال هو: هل يمكن التوصل إلى توافق خارجي يفرض ذاته في صيغة داخلية ما؟ كيف يمكن ملاءمة مصالح الدول التي استثمرت الكثير حتى الآن في الصراع السوري الدائر منذ حوالي 4 سنوات؟ كيف يمكن أن تتفق إيران والسعودية مثلاً؟ هل يمكن إيجاد نقطة توافق بين الموقفين الأمريكي والروسي حيال سوريا؟ وفق هذا المنظور يبدو تقرير معهد كارتر (سوريا، خيارات لانتقال سياسي. آب/أغسطس 2014) وكأنه يقلب الصورة، حيث يعطي للتوافق الداخلي أولوية. فهو يعطي لبيان جنيف الذي أصدرته مجموعة العمل من أجل سورية في 30 يونيو/حزيران 2012، قيمة مهمة على اعتباره "الوثيقة ذات المغزى الأهم بشأن النزاع السوري"، مع العلم أن هذه الوثيقة لم تثمر أي حل رغم أنها شكلت الأساس التفاوضي لمؤتمرين.

ينطلق التقرير من السؤال عن أساس يمكن أن يشكل نقطة التقاء لأطراف الصراع في سوريا، في حين أن السؤال ينبغي أن يدور عن الأساس الذي يمكن أن يشكل نقطة التقاء لأطراف الصراع الخارجيين، بعد أن ضعفت استقلالية الأطراف الداخلية إلى حد كبير (مالياً وعسكرياً وبالتالي سياسياً).

مع ذلك، إن الحل السوري لا ينتج بصورة خطية وبسيطة بمجرد توصل الأطراف الخارجية المؤثرة في الصراع السوري إلى اتفاق. فبعد كل شيء، ليست الأطراف الداخلية مجرد استطالات عسكرية وسياسية للخارج، ذلك أن حجم الدعم الذي قدمته الدول الإقليمية والدولية بات يشكل عبئاً سياسياً عليها، لا تستطيع هذه الدول ببساطة أن تغامر به، وهذا، للمفارقة، يجعل للطرف الداخلي المدعوم قوة في علاقته مع الطرف الداعم.

كذا هو حال إيران وروسيا مع النظام، فحجم الدعم الذي قدماه للنظام، وشراكتهما معه في الدمار والقتل تجعلهما رهينتان للنظام كما هو رهين لهما. هذا ما يجعل من الضروري أن تتوصل الأطراف الدولية الداعمة (على ضفتي الصراع) إلى تفاهمات مع مدعوميها أيضاً قبل أن يصبح للتوافق الخارجي فرصة الترجمة العملية في داخل سوريا.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد