في داريا: الرسم بين نوبتي طيران


20 تشرين الثاني 2014

"الثورة مستمرة"

هي عبارة لو قالها اليوم أحد معارضي الفنادق، لكفرت به الناس.

أو قالها أحد نشطاء المنفى، لاعتبرت نوعا من المكابرة.

أو قالها ناشط بعيد عن أعين النظام أو دائرة القصف اليومي لاتهم بالمزاودة.

لكن أهميتها تكمن في أن أحدا من هؤلاء لم يقلها، بل ناشط لازال يعمل على الأرض السورية، وأين؟

في داريا التي قدمت للثورة خلال شهورها العديدة أجمل شهدائها، وأجمل تكتيكات الحراك السلمي، من ورود غياث مطر، إلى تظاهرة الفزاعات و تجربة حرائر داريا و عنب بلدي.

 وحتى بعد أن طالت العسكرة كل شيء في سوريا، تفردت داريا بكونها تقريبا المدينة الوحيدة التي يخضع بها العسكر لقرار المجلس المحلي في البلدة، وهو ما يتجلى عمليا في الغرافيتي المرسوم على الجدران المهدمة في المدينة حتى اليوم، أو ما تبقى منه، حيث الطفلة تعلّم المسلّح ألا يكون بيدقا.

هل قلنا غرافيتي على جدران مهدمة في داريا التي تتعرض لكل أشكال القصف والدمار يوميا، وهي محاطة بالقناصين الذين تنبه لافتات كتبت على عجل منهم؟

f

نعم، إن المتصفّح لصفحة "المركز الإعلامي لمدينة داريا" على الفيسبوك، سيلمح بين الصور الكثيرة التي تعرض دمار المدينة صورا هنا وهناك لرسوم وغرافيتي وعبارات كتبت على جدران البيوت المهدمة، لتسطع أسئلة من قلب هذا الخراب: من يرسم هذا؟ بل من لديه الوقت ليفكر بالرسم ويقتنص وقتا له وسط الحصار والقصف والدمار؟ وهل بقي أحد أساسا ليرسم؟

المفاجأة أن ثمة أحد؟ ولازال يؤمن أن "الثورة مستمرة"، ويصرّ على الرسم لنقل رسالة ثورته عبر  "توجيه رسائل داخلية وخارجية أن الثورة مستمرة مهما طال البلاء, وفي بعض الأحيان تكون الرسمة موجهة للداخل السوري أي كمعارضة" كما يقول لموقعنا "حكاية ما انحكت" أحد نشطاء المركز الإعلامي الذين يقومون بهذا العمل.

الرسوم المتناثرة على الجدران المهدّمة تسطع وسط هذا الخراب، والصور المقتنصة من براثن قناص يتربص بالطفولة، تأتي لتؤكد قوة الحياة، لتدل على أن ثمة بشرا مازالوا يحلمون ويتحدون الموت، وأن ثمة طفولة تنادي طفولة أخرى في العالم الآمن، قائلة لهم: "انتهت رحلتنا في كوكب الأرض".

إلا أن أجمل ما يقوله الغرافيتي هي تلك الرسائل المتبادلة بين محاصر ومعتقل، حين يرسم ويكتب المحاصر على الجدران "معتقلونا عندما يعلو الجرح فوق الألم. نذكركم"، لنغدو أمام أسئلة أخرى: أي جرح علا على ألم المحاصر ليذكر ألم المعتقل؟ هل هي الحرية المفقودة لدى الاثنان؟ الغياب؟ أم ماذا؟ وهل تأتي الرسوم لتكسر هذا الحصار بحثا عن حرية ما؟

نعم إن البحث عن الحرية هو ما يجعل المحاصر يتذكر المعتقل، وهو ما نلمحه بوضوح في غرافيتي رسم على أحد الجدران يدمج بين الأمرين، حيث أقدم أحدهم على رسم معتقل تخرج منه يد مربوطة بقيد يمتد إلى نافذة حقيقية يعاني أهلها من الحصار مع رسالة تحدي تقول: "أموت في النور ولا أعيش في الظلام".

إنها رسالتهم. رسالة الرسامين الذين يذكرهم حصارهم بثقل القيد على معتقليهم، منتظرين زمن الحمام/ الحرية ليهل عليهم، لذا هم يكثرون من رسم الحمام الذي غادر أيامهم وسماءهم، حيث "يعيش الناس وضعاَ صعباَ في ظل فقدان كافة مقومات الحياة خصوصا بعد مرور عامين من دون دواء أو كهرباء, ماء, الغذاء الوحيد المتوفر في داريا هو الحشائش. هكذا نتدبر أمورنا".

gg

من يقوم بهذا العمل؟

اثنان من أعضاء المركز المحاصرين في داريا، هما من يقوما برسم "الرسومات على الجدران المدمرة"، منتظرين "أوقات تكون هادئة أجواء المدينة وخالية من القصف"، فكلما قصف الطيران ودمر رسومهم أعادوا رسمها من جديد إن سمحت لهم الظروف، مدركين أن القصف يهدف في نهاية المطاف إلى محو آثارهم ورسومهم، ليقول أنه لا يحارب إلا إرهابيين. والرسم يأتي هنا ليفند كذب النظام، لأن الإرهابيين لا يرسمون بكل بساطة.

أما كيف يرسمون ويتدبرون أمور المواد والرسم فتلك حكاية أخرى، خاصة أنهم يواجهون "صعوبات كبيرة في تأمين المواد اللازمة للرسمة" كما يقولون لنا.

يقدم الشابان في البداية على رسم اللوحة في المنزل على الورق، ليقدروا الزمن اللازم لانجازها، لأنه ليس لديهم الكثير من الوقت في الخارج، إذ عليهم الرسم بين نوبتي قصف أو طيران وخلال زمن محدد، فـ "قبل نقل الرسمة على الحائط نرسمها على ورق لكي نحدّد كم من الوقت يلزمنا لإنهاء الرسمة". وهو ما يقيّد حركتهم و يجعل الرسم أشبه بالجنون، وهو ما يعترفان به إذ يقول أحدهم بمرارة: "يوجد حراك ولكن ليس بشكل مباشر بسبب القصف المستمر على المدينة".

fff

هذا القصف الذي حوّل ربيع الشعوب إلى خريف الطغاة كما تقول إحدى اللوحات، موّصفة الوضع اليوم، وساخرة منه في آن، متطلعة بذات الوقت إلى زمن الحرية الذي لازال يؤمن هؤلاء بقدومه مهما طال الزمن.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد