حمص-عكرمة: إذ توّحد السوريين


03 تشرين الأول 2014

قليلة هي المحطات في عمر الانتفاضة السورية التي التقى حولها السوريون (مؤيدون ومعارضون)، وأقل هي تلك التي تلّمس فيها كل طرف جراح الآخر وشعر أنها آلامه وجراحه الشخصية. التفجير الإرهابي الذي استهدف مدرسة في حي عكرمة في مدينة حمص فعل ذلك رغم كثرة الخلافات الجانبية حوله، إذ أثبت السوريون على المستوى الأول أنهم موّحدون على صعيد الجرح والإنسانية، حيث لم تتمكن ثلاث سنوات ونيّف من الدماء من فصل ضفتي الوطن عن بعضهما البعض، وهو ما يمكن تلّمسه من صيحات الإدانة والاستنكار التي رفضت استهداف الأطفال والمدنيين، مهما كان انتماء ذويّهم السياسي، مجرّمة الفاعل أيّا كان، إذ قالت ريم تركماني: "الرحمة لأطفال حي عكرمة الشهداء. وسحقاً لهذه المقتلة السورية...إذا لم نوقف دولاب الموت بإرادتنا فهو لن يتوقف عند أي سوري مهما كان موقفه السياسي وخلفيته الإثنية والدينية".

الرفض من ضفة المعارضة والشخصيات العامة والهيئات السياسية المعارضة لما حصل كان حادا وواضحا، إذ قال الشاعر السوري والسجين السياسي السابق "فرج بيرقدار": " 46 طفلاً شهيداً بتفجير سيارة مفخخة في حي عكرمة في حمص، والعدد قابل للزيادة. من أدان مجازر سابقة مشابهة أو أكبر أو أصغر لا بد أن يدين هذه المجزرة إلا إذا تغلَّبت بهيميّته على إنسانيته.. الإدانة أولاً هي الحد الإنساني الأدنى وقبل معرفة الفاعل. البحث عن الفاعل يأتي بعد الإدانة ولأسباب تتعلق بالمحاسبة لاحقاً أو عند الإمكان"، في حين قال "أبو حجر حجر":  "لست بإنسان؛ إن لم يؤلمك موت الأطفال. في الحولة..و مدرسة عين جالوت بحلب..و عكرمة..الإنسانية لا تتجزأ.!".

https://www.youtube.com/watch?v=eHiuJMxci98

إلا أن أهم ما بيّنته المجزرة هو بروز الصوت الموالي وتقدّمه على ساحة الفعل العام، وإن كان لم يرق لمستوى ما يحصل في سوريا بعد، حيث انتشرت على صفحات الموالين بوستات غضب تنتقد التقصير الأمني والسياسي وتطالب بمحاسبة المسؤولين وإحالتهم على القضاء. ووصل الغضب ذروته مع مظاهرة في حي عكرمة نفذها أهالي الضحايا والمؤيدين الذين طالبوا بإسقاط محافظ المدينة و محاكمة اللجنة الأمنية والسياسية في المدينة وإحالتهم إلى القضاء العسكري، حيث بدا الصوت الموالي لأوّل مرة يوّجه انتقادا للجهة التي يواليها بمثل هذه الحدة، حيث قالت صفحة "كلنا نضال جنود" الموالية: "بكل دول العالم. بـ أي دولة بس يصير فيه هيك مجازر كبيرة. وزير التربية بيستقيل. وزير الداخلية بيستقيل. لك وزير الإعلام بيستقيل. إلا عنا بيضلو متمسحين عالكرسي إنو لطيزن مو فارقة معون يموت كل الشعب المهم يبقو عالكرسي"، في حين قالت "أم جعفر" ( اسم وهمي): "حاسي الإرهابيين بالأخير رح يوجهوا شكر للجهة الأمنية اللي مستلمة المنطقة .. بسبب سهولة تنفيذ المهمة".

إلا أن أكثر ما صبّ المؤيدون جام غضبهم عليه هو الإعلام السوري الذي اكتشفوا كذبه وزيفه اليوم، حيث أقدم على تجاهل مأساتهم بالكامل، حين لن يعلن الحداد على أرواح أطفالهم، ولم يشر إلا بشكل عاجل على أوجاعهم، بل وصل الأمر حدّ عدم نشر غضبهم وأقوالهم على الشاشة، حيث انتشر شريط فيديو يصوّر لقاء لم تنشره محطة التلفزيون الرسمية، فـ"في الثانية ٣٨ تقول المذيعة للمصور ... ( لا تطلع هاد، تقصد مواطن كان يعبر عن غضبه بجرأة) فيمسك المواطن المايك من يدها ويصرخ: لو كانت دولتنا بتحرم هل الشعب يلي صرلو صامد ٤ سنين كان وزير الداخلية بيستقيل ووزير التربية بيستقيل والمحافظ بينشال واللجنة الأمنية كلها بتتغير"، الأمر الذي يعكس تصاعد غضب الطبقة المؤيدة للنظام حتى وإن كانت لا تزال تحت سقف بقاء الأسد ونقده.

صورة لشاشة التلفزيون السوري تبين كيف يتجاهل التلفزيون السوري المجزرة. المصدر: صفحة كلنا نضال جنود على الفيسبوك
صورة لشاشة التلفزيون السوري تبين كيف يتجاهل التلفزيون السوري المجزرة. المصدر: صفحة كلنا نضال جنود على الفيسبوك

وهو الأمر الذي كان موضع تهكم بعض المعارضين على شعارات مظاهرة حي عكرمة، إذ قال "علي دياب": " بعد أربع سنين اليوم أهالي حي عكرمة في مظاهرة و اعتصام لإقالة المحافظ. استغرقوا أربع سنوات ليصلوا إلى نقطة الصفر إلى المكان الذي انطلقت منه

شرارة ثورة حمص ...ترى كم من الوقت سيلزمهم ليفهموا أن العلة ليست بالمحافظ بل بأبو حافظ ( ي.ر)"، وهو الأمر الذي التقت فيه بعض الصفحات المؤيدة وإن من موقع آخر، حيث عرضت بعض الصفحات صورة تظهر مطالبة تظاهرات حمص الأولى ( 2011) بإسقاط المحافظ، ومظاهرة اليوم لتستنتج أن الشعب السوري واحد في نهاية المطاف.

وضمن نفس السياق، كتب المعارض "محمد الصالح": "إلى المطالبين باستقالة محافظ حمص :أثناء اعتقالي منذ ثلاث سنوات سألت رئيس الفرع من أي مزبلة لسانات عناصرك ولماذا هذه الوحشية ؟وشكاوى متعددة من هذا القبيل. قال هؤلاء ينفذون أوامري. مشكلتكم ليست مع طلال البرازي ( محافظ حمص)".

التغيّر الأهم الذي كشفته مجزرة الأطفال في حمص هو تغيّر جهة النقد لدى كل طرف من الأطراف، إذ تبدلت المواقع فلم تعد هنا المعارضة تنتقد المولاة أو العكس، بل كل منهما تتجه نحو شارعها ورموزها، فالجهة الموالية انصب نقدها على النظام والجهات الأمنية والسياسية المقصّرة، رغم إيمانها بأن "الإرهابيين" هم من ارتكبوا الأمر، في حين لم تكتفي الجهة المعارضة بإدانة الفعل بل عملت على نقد كل من لم يدن هذه الجريمة من صفوفها، ووقفت بوجه الأصوات التي أظهرت نوعا من "التشفي" بمقتل هؤلاء الأطفال، حيث قال المفكر "جاد الكريم الجباعي": "ما الذي يمكن أن يقال في من يشمت بقتل الأطفال؟ هذا دون مستوى القول. دون مستوى الكلام، دون مستوى اللغة. دون مستوى الإنسان".

من جهة أخرى، غرقت بعض أطياف المعارضة في سجال من نوع آخر، لامس البنية الأخلاقية للمعارضة، حيث كثرت التحليلات حول طبيعة الجريمة وسببها، وعما إذا كانت رد فعل طبيعي لعنف يقوم به النظام ضد البيئات المعارضة، حيث قال الشاعر "فادي جومر" أن "ما حصل في عكرمة هو نتيجة أكثر من طبيعية لردات فعل البشر على جرائم البشر حين تشعر الضحية أن الجريمة ستمر دون حساب. ... حين تنكر حق العدالة في الحياة. انتظر حق العدالة في الموت"، الأمر الذي أطلق سجالا حادا وصل حد اتهام الشاعر بأنه يؤيد مقتل الأطفال ردا على قتل أطفال آخرين، الأمر الذي دفع الشاعر للتوضيح أنه "لما توصف قوانين الحياة.. والفعل ورد الفعل.. وأنه هيك البشر بيتصرفوا .. وانه نتيجة المجزرة .. حتماً مجزرة .. ما بيكون قصدك أنه يا الله.. هبوا.. قوموا اعملوا مجزرة".

هذا الجدل بدوره لقي امتعاض آخرين، حيث قالت الكاتبة "ديمة ونوس": "غريب جداً أن تكون المجزرة/الجريمة التي ارتكبت بحق أطفال حمص، نقطة جدل طويل يتحفنا بها نشطاء الفيس بوك!"، في حين قالت الصحفية "ضحى حسن" :"النقاشات الي عم تصير بخصوص تفجيرات حمص شي بأسي، الي انقتلوا اكتر من ٤٠ طفل مادخلون بكل الوسخ الي عم يصير هدول المفروض يكونوا عايشين عم يلعبوا ويتعلموا.الناس انقتلت واعتقلت وتشردت مشان الثورة مو مشان نصير وحوش بنشبه النظام وشبيحته الي طلعنا ضدن".

لافتات رفعها أطفال حي الوعر المحاصر في حمص تضامنا مع أطفال عكرمة. المصدر: صفحة الثورة السورية على الفيسبوك
لافتات رفعها أطفال حي الوعر المحاصر في حمص تضامنا مع أطفال عكرمة. المصدر: صفحة الثورة السورية على الفيسبوك

وفي الوقت الذي كان مثقفو المعارضة وناشطوها يتبادلون السجالات عبر الفيسبوك قام أطفال حي الوعر المجاور في حمص والمحاصر برفع لافتات تندد بالمجزرة، في أقوى تعاطف إنساني يتجاوز حدود التماس بين السوريين.

على الصعيد الإبداعي قدّم الفنان "أنس سلامة" واحدة من أجمل اللوحات التي صوّرت أطفال المجزرة يرتقون نحو السماء.

مجزرة عكرمة رغم بشاعتها، كانت امتحانا قويا، إذ بيّنت أن صوت السوريين الأقوى كان إنسانيا بامتياز، رافضا لاستهداف الأطفال وساعيا لمنع قتل أي طفل أو مدني تحت أية حجة كانت، إذ قال الفنان "تمام عزام": "أعاد حزني على أطفال ( عكرمة ) ذلك الذي حزنته على حمزة الخطيب".

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد