عن السياسات الصحية المستقبلية في سوريا


15 أيلول 2014

فؤاد محمد فؤاد

شاعر سوري ودكتور مدرس في الجامعة الأميركية في بيروت

تحوّلت الأزمة السورية بعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف من بدء الثورة، إلى صراع مفتوح بالكامل على احتمالات كثيرة، وتجاوز الصراع حدوده الداخلية ليصبح إقليمياً بامتياز، بل ودولياً في الكثير من عناصره.

وطالت الأزمة الانسانية الناجمة عن الحرب والاقتتال والتشريد والتهجير والإفقار أكثر من 13 مليون سورياً يعانون، بحسب تقارير الأمم المتحدة، من نقص شديد في الغذاء والمياه الصالحة للشرب والمأوى والتعليم. كما أدى تصاعد الصراع المسلّح والاستخدام الكثيف للأسلحة الثقيلة من قبل القوات النظامية السورية ضد مواقع مدنية إلى ارتفاع في أعداد اللاجئين إلى الدول المجاورة ليصل إلى أرقام غير مسبوقة في تاريخ المنطقة.

إن التراجع الحاد في الحصول على الرعاية الصحية والأدوية للسوريين أمر بالغ الأهمية، سواء داخل سوريا أو في البلدان المضيفة، وهو ما سيكون له آثار عميقة وبالغة الخطورة على مستقبل السوريين. كما أن غياب الاستراتيجيات الصحية والخطط الضرورية لمواجهة الأزمة الناجمة عن استطالة الصراع سواء على الصعيد الإغاثي الآني أو على المديين المتوسط والبعيد الأمد سيفاقم في المستقبل تردي الوضع الصحي و يزيد من عبء المشكلات التي ستواجه الدولة القادمة.

ويعود سبب النقاش العام حول الشأن الصحي إلى تكريس مفهوم يرى في الصحة مجرد خدمات صحية وأدوية وتجهيزات، وليست شأناً عاماً يتداخل فيه الاجتماعي بالاقتصادي بالسياسي بالثقافي، وأنه يؤثر ويتأثّر بمجمل الديناميكيات التي تطال المجتمعات في لحظات حراكها وتغييراتها الكبرى.

لقد أظهرت الأزمة الحالية أن الصحة كمفهوم والجسم الصحي كأفراد ومؤسسات، كانت طرفاً وهدفاً في الصراع. فمنذ البداية اعتُبر أن تقديم الخدمات الصحية والاسعافية للمحتجين المصابين أثناء التظاهرات أمرٌ يعادل بخطورته التظاهر ذاته، وعوقب الأطباء والمؤسسات التي كانت تقوم بهذا العمل بقسوة. وبهذا، تم الاقرار منذ البداية أن الصحة ليست حقاً للجميع وأنها، شأنها شأن أي حق عام يستحقه الإنسان بالمواطنة، هي للبعض فقط على حساب بعض آخر. وهي معرّضة للتقييد والمنع والسلب بما يصل لدرجة الإلغاء، وأنها تمنح كأعطية وتفضّل وتكرّم وليست حقاً أساسياً، كما جاء في الدستور، ترعاه الدولة ويحميه القانون.

إن طرح قضية الصحة العامة والسياسات الصحية وخياراتها في المرحلة الانتقالية وما بعد الأزمة للنقاش العام، واعتبارها جزءاً أساسياً من الحوارات التي يجب أن تدور حول سوريا المستقبل، هو في حد ذاته تبنٍ لهذا المفهوم الشامل  للصحة وربطها بمحدداتها المتعدّدة والمتشابكة. كما أنّ حوارات الصحة بهذا المعنى قد تكون مدخلاً آمناً وتوافقياً، يمكن أن يتجاوز فيه وعبره السوريون حدة الخلافات التي لطالما وسمت المناحي الأخرى في نظرتهم إلى مستقبلهم.

وفي حال استمرار الوضع العسكري والأمني الحالي، فإن النظام الصحي السوري سيتعرّض لتغيّرات بنيوية حادة قد تؤدي في نهاية المآل الى انهياره تماماً. ولم يعد النظام الحالي يلبّي الخدمات المناطة به إلا في حدودها الدنيا، وهذا ما أدى إلى استبداله بنموذج غير واضح لايمكن تعريفه بأنه "نظام"، ويعتمد على خدمات القطاع الخاص المتبقي (والذي يلبي عادة الخدمات العلاجية وليس الوقائية) كما يعتمد على المساعدات الاقليمية والدولية والجمعيات المتباينة الاهتمامات والخبرات وما يعنيه ذلك من تضارب في الأجندات وعدم ثبات واستمرار الخدمة في المستقبل.

ونتيجة الأعمال العسكرية والعنف المتصاعد واستهداف المدن والبلدات لجأ أكثر من ٣ مليون سوري إلى دول الجوار، كما نزح داخل الأراضي السورية أكثر من 7 مليون شخص بحثاً عن ملاذ آمن. وقد بلغ عدد ضحايا الاقتتال وقصف المناطق السكنية حوالي ٢٠٠ ألف، وتقدر المنظمات الدولية عدد الجرحى بأكثر من نصف مليون، ولا توجد تقديرات دقيقة لأعداد الجرحى الذين أصيبوا بعجز دائم وبتر أطراف، وإن كان الرقم عالياً. كما أصيبت البنية التحتية الصحية بأضرار بالغة، فحوالي ٧٠% من المشافي خارج الخدمة أو تعرضت لأضرار جسيمة، وأدى هذا الأمر إلى زيادة الأعباء بشكل كبير على المشافي الباقية. فعلى سبيل المثال تستقبل إحدى المستشفيات العامة مريضاً إسعافياً كل 32 ثانية، كما تحوّلت العديد من المشافي إلى أماكن لإيواء النازحين.

أدى استهداف العاملين الصحيين والأطباء، سواء بسبب تقديمهم المساعدة الطبية للمحتجين في مرحلة التظاهرات أو بسبب الاختطاف المتعمّد بهدف الفدية المالية أو الضغط المعنوي، أو بسبب التقييد على العمل نتيجة عدم إمكانية الوصول إلى المراكز الصحية والعيادات، إلى خروج العديد من العاملين الصحيين خارج البلاد والبحث عن أماكن عمل أخرى.

ووفقاً لتقرير منظمة أطباء بلا حدود: " أن الأطباء أصبحوا يصنفون باعتبارهم (أعداء للدولة ) بسبب علاجهم للمصابين في الصراع، وإن الجانبين يستخدمان المستشفيات كجزء من استراتيجية الحرب. وفيما تستهدف الغارات الجوية للقوات الحكومية منشآت طبية، بدأ مسلحو المعارضة تصنيف منشآتهم على أنها "مستشفيات الجيش السوري الحر"، وهو ما يزيد من مخاطر التعرّض لهجمات.

وقد أدى هذا الاستهداف إلى نقص حاد في القوى العاملة الصحية وخاصة ذوي الاختصاص. وشمل النقص أيضاً الكوادر التمريضية والفنية التي كانت في معظمها من أصول ريفية، والتي لم تعد تستطيع الوصول إلى أماكن تقديم الخدمة أو أنها نزحت باتجاه أصولها المناطقية بحثاً عن ملاذ آمن وخوفاً من التهديد.

ومن ناحية أخرى، فإن الهجرة الشديدة التي أصابت الكوادر الطبية والصحية المدربة والمؤهلة، ستجعل البلد تحت ضغط غياب قيادات صحية قادرة على تنفيذ أي برنامج مستقبلي، ويجعله خاضعاً لتصوّرات المنظمات غير الحكومية وبرامج المنظمات الدولية التي لا تراعي دائما المصالح الوطنية.

تعرّضت كثير من المؤشرات الصحية التي كانت مجال تباهي النظام الصحي إلى تغيّرات حادة، وقد تكون في بعض الحالات غير قابلة للاصلاح في المستقبل المنظور.

ومع تدفق المساعدات الإنسانية، إلا أنها تبقى أقل بكثير من الاحتياجات المتنامية خاصة في ظل غياب حاد للتنسيق بين الجهات الدولية والمحلية. كما أن غياب نظام للمعلومات يمكّن من تحديد الأولويات وتوّزع الخدمات الصحية الحالية، ونوعية وعدد مقدمي الخدمة يؤثر بشكل كبير على وصول هذه المساعدات بشكل فعال إلى محتاجيها.

إن السياق الذي يتحرك ضمنه النظام الصحي هو سياق حرب وتفتت البنى السياسية وانهيار اقتصادي، مما يعني أن المحتوى والعملية برمتها تعرّضت لتشويه شديد، وتم استبدال الفاعلين الأساسين، والذين غالباً ما يتألفون في السياق الطبيعي من إدارات وطنية مع تعاون دولي، تم استبدالهم بمنظمات عالمية ومحلية متعددة ومشتتة و مرتهنة إلى التمويل الدولي.

خلاصة القول أن النظام الصحي في سوريا في مرحلة الأزمة الحالية توقف عن أن يكون نظاماً.

خيارات السياسة الصحية في المرحلة الانتقالية وعلى المدى البعيد

عند استمرار الصراع لفترات طويلة كما في المثال السوري فإن الحدود الفاصلة بين مرحلة الأزمة والمرحلة الانتقالية، خاصة في المجالات التي تتعلق بالصحة، تلتبس عادة ولا يمكن رسمها بشكل واضح. ويجب الانتباه عند التخطيط للمرحلة الانتقالية بربطها بالمرحلة بعيدة المدى بحيث يمكن الانتقال بسلاسة من مرحلة الأزمة إلى مرحلة إعادة البناء إلى مرحلة تأسيس نظام صحي عصري ومستدام. ولابد من النظر أحياناً نظرة إيجابية واعتبار أن المطلوب ليس فقط إصلاح ما خرّبته الأزمة من النظام الصحي السابق، وإنما في الفرصة لإعادة تشكيل النظام الصحي بما يتناسب مع احتياجات السكان وطموحاتهم.

وعلى أيّ حال فعند التخطيط للسياسة الصحية في المرحلة الانتقالية، يجب مراعاة أن يكون لكل الناس مدخل إلى الخدمات الصحية التي تحدد ألوياتها بحيث تهدف إلى تخفيض المراضة والوفيات. وأن يتم التنسيق بين مختلف الجهات العاملة على الصحة سواء دولية أو محلية، وذلك للحصول على أفضل الخدمات الممكنة للناس وأن تصمم الخدمات بحيث تراعي مبادىء الرعاية الصحية الأولية.

في العام الحالي ٢٠١٤، صنف البنك الدولي ٣٥ دولة في العالم بأنها دول هشة. أي أنها تتميز "بضعف قدرتها المركزية أو ضعف شرعيتها تاركة مواطنيها عرضة للكثير من المخاطر". ثماني من هذه الدول الخمس والثلاثين كانت من منطقة شرق المتوسط وهي أفغانستان والصومال والعراق واليمن وغزة والضفة الغربية وليبيا والسودان وسوريا.

يحتاج الوضع القائم في سوريا الآن الى استجابة متعددة ومعقدة تأخذ بالاعتبار كل السيناريوهات القادمة المحتملة، مما يعني أن يأخذ التخطيط للسياسات الصحية المستويات المختلفة والمراحل المتوقعة للصراع الحالي، وهو يشمل الاستجابة الآنية للاحتياجات بقدر التخطيط على المستوى المتوسط والبعيد. وبينما تركز معظم دراسات السياسات على البعد الأمني والسياسي للفترة القادمة، فإن هناك القليل مما يخطط له على مستوى صحة السكان.

وكما في تجارب البلاد التي مرت بحروب أهلية وصراعات داخلية أو إقليمية، كتجربة العراق وأفغانستان والبلقان، فإن الاستعداد للمرحلة القادمة يجب أن يبدأ قبل انتهاء الصراع، وأن تعبير المرحلة الانتقالية بالنسبة لقضايا الصحة العامة تعني "الآن"، أي أنها تعني أن يبدأ الاستعداد للمرحلة الانتقالية ومابعدها من لحظة وعي ضرورة البدء بها، وهي غالباً ما تكون لحظة ما داخل الصراع نفسه .

تتضمن المشاكل الآنية للصحة العامة المطروحة في المسألة السورية: قضايا من مثل زيادة عدد القتلى نتيجة الصراع وارتفاع عدد الجرحى والاصابات البليغة التي غالباً ما ينجم عنها إعاقة وعجز جزئي أو دائم، مشاكل المهجرين والنازحين، وأضرار البنية التحتية الأساسية (المياه الصالحة للشرب، الأدوية، المرافق الصحية..الخ).

وعلى المستويين المتوسط والبعيد المدى يجب البدء بالتفكير في عملية إعادة بناء المرافق الصحية وتعويض الفاقد من الكوادر الفنية والقوى العاملة الصحية، تأهيل المصابين والدعم النفسي لمئات الآلوف من الضحايا وأسرهم. وفوق هذا كله يجب التخطيط لبناء نموذج للرعاية الصحية وتقديم الخدمات يأخذ بالاعتبار كل المتغيرات الحاصلة ويتجاوزها.

الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد