دراما بديلة.. من الوهم إلى الواقع


15 تموز 2014

 
ليس جديداً القول إنّ الازدهار الذي عاشته الدراما التلفزيونية السورية، قرابة عقد من الزمن، إنما كان بفضل رعاية فوق العادة من النظام السوري، بل وصل الأمر في كثير من الأحيان إلى اعتبار المُنتج التلفزيونيّ في مصاف المنتج الثقافي السوري الأوّل، وجرى تسويق النجوم على أنهم مثقفو سوريا، فكثيراً ما كانوا يُستضافون على الشاشات للحديث في السياسة والدين وقضايا المجتمع والثقافة.. إلخ، وقد حدث هذا على حساب إهمال، إن لم نقل "تجفيف"، كل الأنواع الأدبية والفنية الأخرى، من سينما ومسرح وتشكيل وأدب ونقد وترجمة، فقط لأنّ النظام كان يريد من الدراما ما تقدّمه له من صورة وردية وحضارية بالذات.
نسوق ذلك دون أن ننكر بالطبع الكثير من الاختراقات الفنية، والفكرية والسياسية أيضاً، التي قدمتها الدراما السورية، حتى وصلت بها إلى مصاف فنية رفيعة المستوى، كأعمال من مستوى "التغريبة الفلسطينية" و"الانتظار" و"بقعة ضوء" (في بعض الأجزاء) و"الحصرم الشامي".. وسواها، حيث غيّر السوريون المنظور العام إلى الفن الترفيهي التلفزيوني، وعملوا على جعله فنّاً جاداً مليئاً بالمضامين الإنسانية، لكنّ الحديث هنا يقتصر على طريقة النظام السياسي في استعماله لشكل فني، بغية إيصال رسائل لمحيطه وللداخل على حدّ سواء. ولنا أن نتذّكر جيداً أن كثيراً من هذه الأعمال كانت تخرج إلى النور استجابة لتوجيهات معينة من قبل صناّع القرار السياسي بتناول قضايا وإهمال أخرى، أو الإيعاز بتوجيه النقد إلى أشخاص في المؤسسة الرسمية، لا إلى المؤسسة نفسها، إضافة إلى تحريم تناول "الجيش العربي السوري" على الإطلاق.

https://www.youtube.com/watch?v=ecOQfJ7RizY

ومع مجيء الثورة السورية وجدنا تلك العلاقة، بين الدراما والنظام، في أبهى صورها، يوم وقف غالبية فنانوها في صف النظام، وشاركوا في دعايته عن المؤامرة والحملات التي تستهدف استقرار سوريا ومكانتها، وقد نظّمت لذلك قناة "الدنيا" حلقات مدروسة لهذا الغرض، تحت التهديد المبطن للمعارضين، أو بقبول مطلق من المؤيدين. دون أن نُغفل ما سجّله كثير من الفنانين السوريين من مواقف مشرّفة مثل فارس الحلو وجمال سليمان ومي سكاف وعبد الحكيم قطيفان ويارا صبري وآخرون.
مع بداية الثورة كان على الدراما السورية أن تحدّد موقفها، بل كانت مطالبة بذلك من قبل شارعي المعارضة والموالاة، ولاحظنا في السنة الماضية ظهور أعمال عديدة تناولت الواقع السوري الجديد، مع اختلاف توجهاتها، فبينما استنفرت أجهزة ومال وزارة الإعلام لإنتاج مسلسلات من قبيل "تحت سماء الوطن"، والذي صوّرت حلقات كاملة منه تحت حماية الجيش والمخابرات في مناطق مشتعلة كداريا، كانت هناك أعمال حاولت تلمّس آثار ما جرى على سوريا وأهلها، كان أبرزها مسلسل "منبر الموتى"، الجزء الأخير من ثلاثية "الولادة من الخاصرة"، والذي تناول الروايتين الرئيسيتين في سوريا، وحاول تقديم نظرة بانورامية عن انطلاقة الثورة. يقول كاتب المسلسل سامر رضوان لـ"سيريا أنتولد syriauntold": "لدينا شارع منقسم وقد قدمنا وجهة نظرنا عن بداية الحدث بلا مواربة أو تجميل.. وكل ذلك أملاً بالعودة عن هذا السعار والجنون، وإنهاء هذا الانقسام.. وكل ما أتمناه هو تقديم وجهة نظر متوازنة". وفعلاً سار العمل في حقلٍ من الأشواك في عرض رأي شارعيْ الموالاة والمعارضة، وهذا ما قاده إلى غضب الطرفين عليه، فما من أحد يقبل بالآخر.
بالتزامن مع ذلك ظهرت بادرة بسيطة من حيث الأفكار والأدوات، لكنها مهمّة من حيث التوجّه، وكانت ولادتها في حمص المحاصرة آنذاك، إذ تم إنتاج مسلسلين عرضا على "يوتيوب" هما: "مرايا الحصار الحمصي" و"بقعة ضوء حمصية". أهمية تلك التجربة كانت في لفت الانتباه إلى إمكانية استئناف قوة الدراما السورية في التأثير من خلال أعمال تتناول الواقع الذي يريد النظام طمسه من جهة، والذي لا تلتفت إليه جهات الإنتاج ورؤوس الأموال المرتبطة بالنظام بطبيعة الحال.
وإذا كانت الوتيرة قد خفّت هذا العام لأسباب كثيرة، أولها غموض المشهد السوري على  الجميع، ومن ضمنهم الفنانون، وعزوف الفضائيات العربية عن شراء الإنتاجات السورية، تأتي البادرة من خلال "يوتيوب" ليقدّم لنا مسلسلات رمضانية سورية ثورية، كان أبرزها مسلسل "أم عبدو الحلبية" الذي لاقى تجاوباً كبيراً، مع أنه يبث على "يوتيوب".

https://www.youtube.com/watch?v=QNCU6Y3-EBg

المسلسل الذي كتبته عفراء هاشم وأخرجه بشار هادي (أنتجته "فضائيات بكرا أحلى" و"شركة لمبة")؛ يقوم على مجموعة ممثلين من الأطفال، والعمل عبارة عن حلقات قصيرة منفصلة، تجري أحداثها في مدينة حلب، وتصوّر واقع السوريين ومآسي التشرد والقصف. 
يستعير مسلسل "أم عبدو الحلبية" شخصية امرأة شعبية هي أم عبدو بطلة العمل (تؤديها الطفلة رشا)، ومن خلال هذه المرأة يتم طرح قضايا اجتماعية وسياسية، في قالب كوميدي، رغم أن أجواء ومواقع التصوير الحقيقية مائة بالمائة تقول عكس ذلك، وهذا بحدّ ذاتها إشارة في غاية النباهة من صنّاع العمل الذي يوصلون بين ما يوصلونه بريداً عاجلاً وحاراً في استمرار الحياة رغم انف الموت والقتلة. 
يثير المسلسل قضايا تتصل بالواقع اليومي للناس مثل "حملات التلقيح" التي يقوم بها الناشطون، كما يتناول ظاهرة "الكتائب النسائية المسلحة"، ومصاعب حياة اللاجئين، وكله في إطار من الضحك الأسود.
الدراما السورية الجديدة تستأنف مسيرة الرواد في تقديم عمل فني ينوء بهم عام، ولعل الجدير بالاحتفاء الآن أنها تنضم إلى مقاومة السوريين المدنيّة.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد