المغتربون الحلبية: أبعد من الإغاثة، وإسقاط للتمويل الخارجي بأيدينا


16 تموز 2014

 

اعتاد عدد من ناقدي الثورة السخرية من الناشطين المدنيين السلميين الذين تحوّل أغلبهم إلى العمل الإغاثي بعد اشتداد القبضة الأمنية، وتراجع النشاط المدني لصالح العسكرة، إذ وجد هؤلاء أنفسهم بين مطرقة الجلوس في المنزل أو فعل ما يمكن فعله بدلا من الوقوف على أطلال البلاد وانتظار نتائج عسكرة لا يبدو أن نهايتها تلوح في الأفق، في حين يرى النقاد أن الأمر في جوهره يعكس ضعف النشاط السلمي المدني أساسا لجهة عدم قدرته على اجتراح وسائل جديدة تجعله قادرا على الاستمرار بنفس الزخم بعد العسكرة، ليرد آخرون بأن الواقع أعقد من ذلك بكثير، حيث أن العمل الإغاثي ليس "عمل ترفي" أو هزيمة للنشاط السلمي بقدر ما هو رديف و مكمّل له، خاصة حين يقوم على رؤية آنية وبعيدة المدى في آن، ويتجاوز الفعل الإغاثي البسيط وحملات الإطعام ليقوم بمهمات تحتاج مؤسسات كبرى مثل إصلاح المنازل المتضررة و حفر وتجهيز الآبار وإصلاح المعطل منها وتجهيز الملاجئ و المدارس وإطلاق العملية التعليمية، ليصل الأمر حدود التفكير بالبناء والتنمية من خلال إنشاء "مجموعة مختصة لدراسة المشاريع التنموية و تنفيذها في حال سنحت الفرصة للقيام بذلك"، تعززها مشاريع قائمة على أرض الواقع اليوم مثل "المخزون الاستراتيجي الغذائي" الذي يحاولون من خلاله استباق الصعوبات التي يمكن أن تواجه الأهالي، وذلك من خلال "تخزين مواد أساسية كالبرغل و العدس الكردي و السكر و الزيت في مخازن مركزية في أكثر من منطقة يتم الإشراف عليها و تخزينها بشكل مدروس"، إضافة إلى القيام بكل مهمات العمل الإغاثي التقليدي مثل تأمين الطعام والأدوية والألبسة وبطرق محترفة وشفافة. إنهم "المغتربون الحلبية" فمن هولاء؟ وما هي حكايتهم؟  وكيف فعلوا كل ذلك وهم الذين لا يعتمدون على أي تمويل خارجي كما تفعل أغلب المؤسسات؟

هذا ما بحثت عنه "سيريا أنتولد Syria untold" لتأتي لكم بهذه الحكاية الخارجة من رحم واقع سوري مليء بالمرارة لتكون شاهدا على أن ثمة أمل يبنيه بعض شبان سوريا تحت ستار اليأس هذا.

تجهيز بئر ماء في حي سيف الدولة في حلب بإشراف المغتربون الحلبية. المصدر: الصفحة الرسمية للمجموعة على الفيسبوك
تجهيز بئر ماء في حي سيف الدولة في حلب بإشراف المغتربون الحلبية. المصدر: الصفحة الرسمية للمجموعة على الفيسبوك

"مجموعات صغيرة من الأصدقاء مبنية على الثقة المطلقة" تلاقت مع انطلاق الثورة لدعم الحراك المدني السلمي المطالب بضرورة التغيير، لتكبر خطوة خطوة كلما انكسر حاجز الخوف سنتيمترا جديدا، حيث اتجهت منذ البداية للاهتمام بأوضاع النازحين السوريين في مدينة حلب ، فمع بداية  "وفود النازحين إلى مدينة حلب اتسع نشاطنا ليشمل إغاثة هؤلاء النازحين في البداية، و بعدها بدأنا بإغاثة النازحين في مناطق مختلفة في سوريا" إلى أن طال القصف والتهجير مدينة حلب، فـ "وجّهنا نشاطنا لمساعدة أهلها الصامدين الصابرين و مع ذلك لم ننسَ أهلنا في المناطق الأخرى من سوريا"، فهم يعملون في ريف إدلب و ريف حمص و ريف دمشق، بالإضافة إلى مساعدة اللاجئين في عرسال اللبنانية و في بعض مخيمات اللجوء داخل الحدود السورية، بالتوازي مع تأمين تكاليف العلاج للعديد من الأفراد من مختلف مناطق سوريا، الأمر الذي يسقط عنهم في نهاية المطاف تهمة الاتجاه نحو العمل الإغاثي بعد تراجع النشاط السلمي، لأنهم منذ البداية اختصوا بالأمر و راكموا عملهم في مجاله إلى أن أصبحوا اليوم يقومون بعمل مؤسساتي كبير هو من مهمات الدولة عادة، مغطين بذلك النقص الذي تركه توقف مؤسسات الدولة عن العمل وانسحاب النظام من تلك المناطق، متعاونين مع مؤسسات ولدت هي الأخرى من رحم الثورة مثل مجلس "مدينة حلب الحرة" و "الهيئة الهندسية"، هادفة لأن يكون لها "دورٌ في إعادة التكافل بين الناس لنزرع الأمل بمستقبل أفضل للسوريين جميعاً"، من خلال نبذ الطائفية والعرقية والإقليمية والتبعية لأي حزب سياسي.

المجموعة التي لم تترك مجالا لم تعمل به من توزيع حصص الطعام إلى صفارات الإنذار إلى تأمين الملاجئ تفاجئك بأنها لا تتلقي أي تمويل خارجي من جهة ما، بل تعتمد على "تبرعات شهرية ثابتة و مستمرة من الأعضاء لتغطية المصاريف الشهرية و المصاريف الإدارية، بالإضافة إلى حملات التبرعات للمشاريع التي نقوم بها على شبكات التواصل الاجتماعي و من خلال نشاط الأعضاء. و هذه التبرعات تذهب بالكامل للمشاريع المخصصة لها، و ذلك لأن المصاريف الإدارية يتم تغطيتها من أعضاء المجموعة"، الأمر الذي يسقط نظرية التمويل الخارجي الذي يتحجج البعض بضرورته لفعل شيء للسوريين، مثبتين أن الأمر لا يحتاج لأكثر من التنظيم والعمل المؤسساتي والشفافية التي تتجلى من خلال قيام الفريق بنشر كل  الأعمال التي قاموا ويقومون بها على صفحتهم على الفيسبوك، إضافة إلى اعتمادهم نشر "تقاريرنا المالية سنوياً و يمكن لمتابعينا و لمتبرعينا الإطلاع عليها" كما يقولون لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold"، وهو الأمر الذي يجعلهم بمنأى عن الرضوخ لأية أجندة لا تتلاءم مع أهدافهم، مقدمين درسا بليغا بضرورة الاعتماد على الذات بدلا من الدعم الخارجي الذي يطالب به البعض وغرقت به أوهام البعض كثيرا سواء على الصعيد العسكري أو السياسي أو الإغاثي.

أطفال يواصلون تعليمهم في مدرسة أم القرى في ريف حلب بعد تجهيز المدرسة من قبل المغتربين الحلبية. المصدر: الصفحة الرسمية للمجموعة على الفيسبوك
أطفال يواصلون تعليمهم في مدرسة أم القرى في ريف حلب بعد تجهيز المدرسة من قبل المغتربين الحلبية. المصدر: الصفحة الرسمية للمجموعة على الفيسبوك

لا يلتفت أعضاء المجموعة للانتقادات الكبرى التي توّجه للعمل الإغاثي، تاركين أفعالهم على الأرض ترد، خاصة وأنهم يعملون في ظل الخطر اليومي: تحت القصف والدمار وفي ظل ظروف إنسانية بالغة السوء لجهة عدم وجود أبسط مقومات الحياة ( ماء، كهرباء، دفء، آمان، تعليم) ساعين لتأمين كل ذلك دون أن يكتفوا به رغم كل الأوضاع الصعبة، وهو ما أدى لأن يخسروا أحد كوادرهم (أحمد خليفه) شهيدا، إذ يصفه زميله بأنه "من أوائل من شاركوا في الحراك السلمي و تعرّض للضرب المبرح عند خروجه في إحدى المظاهرات من جامع "آمنة بنت  وهب". كان من أنشط أعضاء المجموعة و أكثرهم تفاؤلا بانتصار الثورة. و له الفضل الكبير في تنظيم عملنا الإغاثي و إيصال المساعدات إلى المحتاجين في مناطق حلب المحررة بالرغم من خطورة الطريق و تعرضه أكثر من مرة لرصاص القناصة"، تاركين لدمائهم أن تروي الحكاية ولأفعالهم أن ترد على نقاد ينظّرون من خلف شاشتهم.

أكثر ما يلفت الانتباه أيضا هو الاهتمام المكثف للمجموعة بالعمل التعليمي حيث تعمل على تأهيل المدارس وإطلاق العملية التعليمية رغم كل الظروف الصعبة، "لإيماننا بأهمية التعليم و ضرورته لبناء جيل المستقبل"، مدركين أن معركتهم مع الاستبداد والتطرف هي معركة علم في نهاية المطاف، ولهذا رمموا عددا كبير من المدارس منها مدرستي "عين جالوت" وأم القرى".

"المغتربون الحلبية": مجموعة اختصت بالإغاثة، إلا أن عملها وسيرورتها ثبت أنها أبعد من ذلك، خاصة أن طموحها العمل على بناء "تنمية سوريا بأيدينا كلنا حتى ترجع سوريا كما كانت سابقاً "يابان العرب".

إن كلمتي "أيدينا" و "يابان العرب" كافيتان لتعكسا رؤية تفكيرهم القائلة بأن الأمم لا تنهض إلا بسواعد أبنائها، فهل ينجحون؟

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد