"غصن زيتون": بناء مدارس الأمل من قلب العدم


20 نيسان 2014

حين اجتمع الشباب/ الناشطون الثلاثة في أحد مقاهي درعا ليختاروا اسما لمجموعتهم التي قرروا تشكيلها لتكون إطارا يجمع نشاطاتهم ويقوننها، كانت عين أحدهم ترصد وتتأمل دلة القهوة، مدققة في الرسم الموجود عليها، ليصرخ فجأة "غصن زيتون". ضحك الشباب ولم يترددوا لحطة واحدة، وكأن الدلة أضحت فانوسهم السحري الذي لبّى ما يبحثون عنه، فللزيتون دلالته ورمزيته عند السوريين وثورتهم عامة، خاصة في بدايتها الأولى حيث زرع الناشطون غراس زيتون، وقدموا أغصانا وورودا للجيش السوري كي لا يطلق النار عليهم.

وكون المجموعة تأسست للعودة إلى "جوهر العمل المدني السوري، الذي يجمع الجميع" فإن الاسم جاء مطابقا ظاهرا وباطنا لما يريدون، خاصة أن عودتهم هذه مضمّخة بالدم والتجربة، فأحد أصدقائهم (إياد الحاج علي) الذي كان سلميا ومؤسسا للحراك المدني والسلمي ( مظاهرات، إغاثة..) في لحظة ما انزاح نحو العمل العسكري وانتمى لـ "الجيش الحر" وتسلّح، ليستشهد لاحقا. الأمر الذي دفع الفريق المكوّن من ثلاثة أفراد لأن يفكروا بأن "الشباب ذهبت بمناخات عسكرية، لم تقدم كثيرا للثورة، فقررنا أن نعمل بطريقة ثانية أشياء نحن نحبها، وننجح بها، كما كنا في بداية الثورة، فأسسنا "غصن زيتون" في بداية الشهر العاشر من عام 2012" كما يقول الناشط الذي كان يدرس في كلية طب الأسنان قبل أن تطرده إدارة الجامعة على خلفية التظاهر، كما يقول لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold".

 افتتح الناشطون الثلاثة نشاطاتهم بحملة "غرفتي صفي" التي تعاقدت مع ثلاثة مدرسين على إعطاء الطلاب الذين انقطعوا عن المدارس نتيجة القصف والمعارك في بيوتهم، كي لا يبقوا بلا تعليم. إلا أن الأوضاع الصعبة حالت دون قدرتهم على الالتزام بهذا الأمر كثيرا في البداية، فالمدرس الأول اعتقل والثاني أصيب بقذيفة والثالث تزوج، الأمر الذي جعل حملتهم مجرد تجربة استفادوا منها لاحقا في التنظيم، خاصة أن "المعتقل عاد والمصاب عاد في حين أن الذي تزوج لم يعد بعد" يقول لنا ضاحكا.

مبنى دار الزيتون للتعليم في مدينة تسيل بدرعا. المصدر: الصفحة الرسمية للمجموعة على الفيسبوك
مبنى دار الزيتون للتعليم في مدينة تسيل بدرعا. المصدر: الصفحة الرسمية للمجموعة على الفيسبوك

اجتمع الفريق مرة أخرى في الشهر الثامن من عام 2013 وسط أجواء متشائمة فرضتها الأوضاع السيئة و التفكير بجدوى هذا العمل وسط كل ما يحصل، ليقرروا في النهاية البدء من جديد، إذ لا خيار لديهم، " قلنا رح نضرب هالطينة بالعجينة، وبدنا نشتغل. جمعنا عشرة آلاف ليرة، وعملنا حملة "نحنا بدنا نعيش". وهي حملة تؤكد على حق الطفل بالحياة/ كأبسط حق من حقوقه، لتنطلق بعدها حملاتهم واحدة تلو الأخرى فكلما تمكنوا من جمع مبلغ أقاموا حملة، مثل حملة "جاي على بالي العب و ارسم" التي شملت إقامة حصص رسم للأطفال ومسابقة توّجت بإقامة معرض للأطفال في الداخل، حيث توزعت المعارض على مناطق: درعا، التل، الزبداني وغيرها، وحملة " أمل جديد بضحكة عيد" التي تضمنت إقامة حفلات للأطفال في أول أيام العيد في درعا البلد (350 طفل) والزبداني (150 طفل) والتل ( 100 طفل)، شملت رسم على وجوه أطفال ولعب ورسم وقراءة قصص. الملفت هنا ليس فرحة الأطفال ونسيانهم ما يحصل حولهم، بل فرح الأهالي الذين رؤوا أبنائهم يرسمون ويبدعون ويفرحون، حيث قالوا "منذ زمن لم نرى الفرح في عيون أطفالنا"، مطالبين بحفلة أخرى، إلا أن الفريق لم يتمكن بسبب عدم وجود موازنة.

في كانون الأول 2013 حصلت نقلة نوعية في عمل الفريق، إذ كلف "الطبيب" أصدقاءه في بيروت بأن يجمعوا مبلغ عشرة دولار من كل متبرع، ليجمع مبلغ تمكنوا من خلاله من وضع أسس أول مشروع متكامل لهم، ألا وهو "دار غصن الزيتون للتعليم" والذي ضم "روضة ومدرسة ابتدائية ونادي أطفال، وهي اليوم أحسن من المدارس الحكومية حتى قبل الأحداث، إذ تضم الأولى 350 طالب، والثانية 250 والثالثة 350 أي ما يقارب 950 طفل" ليتبع هذا الجهد بتأسيس مجلة "قوس قزح" الخاصة بالأطفال والتي يوزع منها الفريق 1500 نسخة مجانية كل شهر. وهم يسعون اليوم بكامل جهدهم لتأسيس "دار الزيتون لذوي الاحتياجات الخاصة" حيث رصد فريقنا حوالي 250 منهم، ولازال البحث جار عن آخرين لتأمينهم في مدرسة، علما أنه يتم تأمين بعض الاحتياجات لهم اليوم.

أطفال يشاركون في حملة غراس المستقبل. المصدر: الصفحة الرسمية للمجموعة على الفيسبوك
أطفال يشاركون في حملة غراس المستقبل. المصدر: الصفحة الرسمية للمجموعة على الفيسبوك

تركيز النشطاء عملهم على الطفولة والتعليم، لم يمنعهم من الاهتمام بأشياء أخرى، فحين رؤوا أن الأشجار تتعرض لإبادة سواء بفعل المعارك و القصف أو بفعل قطع الناس لها تحت إلحاح الحاجة، أطلقوا حملة "غراس المستقبل" التي تضمنت غرس أشجار الكينا والزيتون، "فهي لا تحتاج مبالغ كبيرة، وتعلّم الأطفال والأهالي الزراعة، وهي نشاط حلو وجميل ونوع من أنواع الثقافة"، إضافة إلى قيامهم بحملة "لا تنسونا الشتوية بلشت" التي تضمنت تأمين حرامات وألبسة شتوية وغيرها لعائلات نازحة من مخيم الوافدين في ريف دمشق إلى الحدود السورية/ الأردنية حيث منعتهم السلطات الأردنية من الدخول كون أصولهم فلسطينيون.

عملية حماية المدارس والأطفال من القصف والمعارك هي النقطة الأصعب لدى الفريق، حيث سعوا لتحصين المدارس قدر الإمكان بالتعاون مع هيئة الدفاع  المدني في درعا، كما قاموا بالتواصل مع المسلحين لعدم الاقتراب من مناطق المدارس وتعريضها للخطر، ومع الناشطين كي يتولوا أمر حماية هذه المناطق ومنع دخول السيارات إليها خوفا من التفخيخ. كما تمكنوا من تأمين باص نقل للمدرسة الأولى يقوم بنقل الطلاب من بيوتهم إلى المدرسة كي يكونوا أقل تعرضا للخطر الذي كثيرا ما دفعهم للتفكير بإيقاف المدارس خوفا على الأطفال، إلى أن حسموا أمرهم أن الأطفال يستشهدون وهم في بيوتهم، فليستشهدوا وهم على مقاعد الدراسة، لأن بقائهم دون تعليم دون موت بطئ لهم.

أطفال طلاب يرفعون جلاءاتهم. المصدر: الصفحة الرسمية للمجموعة على الفيسبوك
أطفال طلاب يرفعون جلاءاتهم. المصدر: الصفحة الرسمية للمجموعة على الفيسبوك

فريق "غصن الزيتون" يقوم بأرشفة كامل عمله، من تسجيل بيانات الطلاب إلى علاماتهم ومستوياتهم إضافة إلى توزيع جلاء مدرسي للطلاب، لأجل إن تم الاعتراف بهذه المدارس لاحقا يكون كل شيء جاهز. وحتى لو لم يتم الأمر، فإن النظام التعليمي في سوريا يسمح للمتقدمين لشهادتي الإعدادي والثانوي أن يتقدموا من خارج المدارس، وعليه فإن مهمتهم تركز على إيصال الطلاب إلى مرحلة يصبحون فيها قادرين على التقدم لهذه الامتحانات لوحدهم، ولهذا هم لا زالوا يدرسون المنهاج الرسمي للدولة السورية، معتبرين أنه "منهاج السوريين لا منهاج النظام، هو سوري مدني يؤمن بكل سوريا، لامسحيي ولا إسلامي هو سوري وفقط " بعد إجراء بعض التعديلات الطفيفة عليه، الأمر الذي جعل من عملهم مؤسساتي رغم كل الظروف التي يحيون في ظلها، فلديهم اليوم حوالي 45 مدرسا متفرغا من أصحاب الشهادات الجامعية،  والأولوية لمن لديه خبرة سابقة، ويحصل كل منهم على راتب يتراوح بين مئة ومئتي دولار، حيث أخّر الناشطون إطلاق مدارسهم ريثما يكونوا قادرين على تأمين هذه الرواتب التي يجمع أغلبها من التبرعات ومنظمات المجتمع المدني، لأجل أن يكون العمل منتظما، لأن تجربتهم الأولى علمتهم أنه ليس المهم إطلاق العمل بل المحافظة عليه واستمراريته، حيث ساعدهم في الأمر وجود نسبة كبيرة في العاطلين عن العمل من جهة، ونسبة كبيرة من المتطوعين الذين يريدون أن يقدموا أي شيء لبلدهم من جهة أخرى.

لم تتعرض المدارس حتى اليوم للمضايقة من التيارات الدينية المتشددة، فهي قليلة أساسا كما أن الأهالي الذين يريدون أن يتعلم أبناءهم يشكلون أكبر درع حماية لهم في وجه الجميع، حيث أن "المجتمع في درعا لازال مدنيا أهليا وبعيدا عن التطرف". إلا أن الصعوبات تأتيهم من موقع آخر، فعدم تساهل السلطات الأردنية مع مسألة عبور السوريين رسميا، تجعل مسألة تأهيل الكوادر وتدريبهم في الخارج ضعيفة جدا، لأن الذهاب نحو دمشق ومن ثم الخارج أمر خطر جدا لوجود حوالي 23 حاجز للنظام يخشى الناشطون الاعتقال عليها، الأمر الذي يحرمهم فرصة التدريب والمشاركة في ورشات عمل.

"غصن زيتون" لا ينتظر اليوم أي مساندة خارجية أو تدخل خارجي أو أي شيء آخر، فهو قرر العمل والاعتماد على الذات، ساعيا لأن يكون عمله هذا حجر أساس لسوريا التي يؤمن بها، والتي ينتظر تحققها حتى يأتي يوم "نكون فيه عم نشتغل بالصومال، وبكل منطقة بالعالم تحتاج مدرسين أو تضرّر أطفالها من الصراعات".

هل أنبل من ذلك؟ سوريون يفكرون بأطفال الصومال، ويشجّرون ما احترق من أشجارهم رغم كل هذا الموت؟

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد