الثورة في ذكراها الثالثة: لم أعد أحدا


16 آذار 2014

 

في مثل هذا اليوم، وفي الساعة الثانية ظهرا بتوقيت دمشق من عام 2011 كان الشاعر السوري "عمر سليمان" برفقة أصدقائه وثلة من المجانين/ الشعراء الحالمين بالحرية ( حسام موصلي، عمر إدلبي، محمد حاج بكري، محمد ديبو) ينتظر بعضهم في وسط دمشق بين سوقي الحميدية والحريقة وتمثال صلاح الدين لإطلاق صرخة الحرية الأولى في الفضاء السوري المسجون منذ عقود بفضاء الدكتاتورية، لتبدأ رحلة الحرية التي دخل السوريون في دوامتها "مغامرة تشبه اكتشاف كوكب آخر خارج المجرة بالنسبة لنا كسوريين، والمدهش أن المظاهرة انطلقت من دمشق القديمة، كأنها كانت إعادة انطلاق للحضارة العظيمة التي كبتها الاستبداد والقمع" إلى أن تحول الحُلُم إلى كابوس، واليوم نقف أمام كارثة الحرب الأهلية" كما يقول عمر لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold".

أمام هذا المآل الذي لم يكن عمر وأصدقاؤه يتوقعون أن صرختهم ستكون فاتحة له، يعيش عمر اليوم في المنفى الباريسي بعد أن هرب من القمع، متأملا أحوال بلاد أضحت على شفا الحرية والتقسيم، بعد أن فقد حلمه  صارخا " لم أعد أحدا"، وهو عنوان الفيلم الذي سيعرض بعد أيام (19-21 آذار ) في مهرجان (الأنتروبولوجيا الرقمية) Anthropologies numérique بتوقيع مخرجة الأفلام الوثائقية "إلفينا أتَّالي، في أول فيلم تجريبي لها، ولوحات الفنانة السورية "سلاف عباس"، وترجمة فرنسية لـ "ليونيل دوناديو"، وترجمة إنكليزية لـ "فايزة ونوس"  وكأن التزامن بين زمن عرض الفيلم والذكرى الثالثة للثورة/ الانتفاضة السورية يأتي ليفتح ذاكرة شهية للبوح والحكاية، ذاكرة هزمها حلمها بالحرية، فصرخت بحزن "لم أعد أحدا" كدلالة على الواقع الصعب الذي يختنق فيه حلم السوريون اليوم، دون أن تفقد الأمل لأن "السينما بإمكانها أن تكون سلاحاً فعالاً لنشر الوعي، وأن تكون مرافقاً قويّاً ومشجّعاً على العمل والاستمرار لأية مقاومة عند حدوث الصراع" كما تقول المخرجة الفرنسية لموقعنا، ولأن القصيدة بالنسبة لعمر هي حلقة تعيد " صلتي مع العالم، ليس لأجل أمل ما، بل لأنه ما من وسيلة ثانية لمقاومة الموت اليومي".

https://www.youtube.com/watch?v=qFXJD5vI4GM

بعد وصول عمر إلى باريس هربا من القمع والاعتقال الذي كان يهدده، بقي تحت هاجس أن يقدّم شيئا لسورياه. ولأنه لا يملك إلا قصيدته ولدت "محاولة تجريب وسائل جديدة لإيصال القصيدة، .. كان نوعاً من التجريب بين شاعر قادم من سوريا يستمد منتوجه الشعري من البيئة السورية وبين أدوات سينمائية ذات منتوج أوروبي تجسدها المخرجة" كما يقول عمر الذي أخبر المخرجة "بفكرة إنتاج فيلم عن القصائد، وعندما قرأت القصائد تحمست لاقتراحه، فكلمات عمر عن الحرب والمنفى خفية وقوية بذات الوقت، ولديه صوت حقيقي ورؤية حول ما يجري في بلاده، وأنا فخورة لأنني تعاونت معه" كما تقول المخرجة، لتتلاقى الرغبتان: رغبة المخرجة النابعة "من منطلق تأييدي للثورة العلمانية الديمقراطية السلمية برؤية مستقلة بعيداً عن شركات الإنتاج أو المؤسسات أو الأحزاب السياسية"، ورغبة الشاعر بأن " يُتاح لي كسوري أن أكون شريكاً في عمل فني هنا" لأن هذا "يعني حواراً وتفاعلاً إبداعياً مع ثقافة مغايرة أطمح من خلاله إلى فن فريد، لأنه "ليس الهدف من الفيلم إيصال الثورة السورية بطريقة حضارية إلى الفرانكفونيين، بل إيصال مَن لم يصل منهم إلى ثورته الخاصة، هو امتدادٌ طبيعي للثورة السورية".

بعد الاتفاق والتصميم على إنجاز العمل بدأت رحلة العمل الصعبة في التقريب بين خيال الشاعر المحلّق في قصيدته وحرفية السينمائية التي ستحوّل الكلمات إلى مشاهد، حيث خضع " الفيلم لحوارات مطوّلة مع المخرجة حول فكرة القصيدة وكيفية تحويلها إلى فيلم، ثمة صراع خلاق بين المخرج والكاتب، ريثما تتفق الآراء على إيجاد صيغة ترضي الطرفين، لحظة الكتابة شيء، وتصويرها بالكاميرا شيء آخر، في الكتابة تكون حرَّ الخيال وذاتيه، أما في السينما فإنك تقوم بعملية تنظيم وبلورة لهذا الخيال" كما يقول عمر، في حين كانت المخرجة تتساءل: "هل من الممكن أن تتطابق رؤيتي للفكرة مع رؤية عمر؟، لكن تم حل هذه الإشكالية بالكثير من النقاش وتبادل الآراء خلال عملية خلق الفيلم، وكانت تلك النقاشات مصدر إلهام وإثراء متبادل".

الفيلم لا يعتمد على تقديم حقائق علمية أو رؤية سياسية رغم أنه يأتي " كمساهمة لتقديم رؤية مختلفة للواقع" الذي تصوّره وسائل الإعلام على أنه "صراع بين جماعات مسلحة، أو بين القاعدة والنظام، كل يوم نسمع عن مدينة احتُلت أو تحررت كما لو أنها لعبة شطرنج" كما تقول المخرجة التي تتساءل:" ماذا عن المقاومة بأشكالها المختلفة؟، عن المدنيين؟، سواء قُتلوا من قبل النظام أو من الجماعات المتعصبة؟".

بروشور فلم لم أعد أحدا. المصدر: إيفنت الفيلم على الفيسبوك
بروشور فلم لم أعد أحدا. المصدر: إيفنت الفيلم على الفيسبوك

هذا ما تحاول المخرجة الإجابة عليه من خلال "لم أعد أحد" الذي لا يقوم "على الحقائق بل على الإحساس الشخصي... يتعامل من خلال الحساسية والخيال الذي يُعد هو الآخر وسيلة هامة لفهم الواقع، وقد استطعت رسم هذا الخيال بسرعة خاصة من خلال قصائد عمر الثلاث كما هو مبين في الفيلم. كان يلزمني بعض الوقت لأتفاعل مع الفكرة، فأنا لم أعش الحرب والموت والتعذيب، لم أذهب إلى سوريا من قبل".

"لم أعد أحدا" رغم عنوانه الذي يعكس مرارة قلب الشاعر الذي صرخ للحرية ولم يحظ بها، ورغم "الكثير من الدم والألم والمعاناة" الذين تراهم المخرجة، ورغم أن الشاعر يرى أنه "يكذب إن قلت عندي حلما".. رغم كل هذا، فالأمل يشع من رؤية المخرجة المؤمنة "بشجاعة كبيرة" للشعب السوري، تدفعها لـ  "عدم التخلي عن فكرة الثورة الديمقراطية"، ومن رؤية الشاعر القائلة: "لم يزل لدي عملٌ أقوم به، لدي لغةٌ تنقذني من الخراب".

"لم أعد أحدا" رؤية بين "زمن الثورة الجميل" في البدايات وبين واقعها اليوم، رؤية تطل على ثلاث سنوات ثورة لتقول: لابد من الأمل "كنجمة صبح تتمايل في كأس خمر" يرسمها الشاعر بالريح، كما يقول الفيلم.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد