في سوريا/ دوما، فقط: آلة القتل تعزف الموسيقا


16 نيسان 2013

من آلات خصّصت لإنتاج الموت، ومواد صنعت لتقتل فحسب، تمكّن من استيلاد الحياة ونفخ الروح فيها. من بقايا مواد لا تنتج إلا السموم والشر خلق فرحاً وموسيقا و شمعداناً يضيء، و موقد غاز يعين السوريين على عيشهم في أحلك اللحظات، محوّلا جحيمهم ولحظة يأسهم تلك إلى فرح مقتنص، وأمل انتظره السوريون كثيرا ولا يزالون. من فوارغ الرصاص والأربيجي و قذائف الهاون التي لم تنفجر أو بقاياها بعد الانفجار وبقايا الصورايخ التي هَدمت البيوت اختار "أبو علي البيطار" المواد الخام لفنّه و"منتوجاته الإبداعية": موقد غاز، متوسيكل أو "مركوب" كما يقول بلغته الدومانية الآثرة، مزهرية من فوراغ الرصاص ( يا للمفارقة!)، أدوات عمل الطبيب، آلات موسيقية... آملا أن يقيم لها معرضا في العالم وفي سوريا بعد سقوط النظام، لا لشيء، إلا ليرفع اسم سورياه الحرة عاليا، وليقول للعالم: انظروا نحن السوريين كيف نخرج الأمل من قلب الألم، والفرح من قلب الحزن، انظروا كيف نشعل "شمعة زغيرة بتضوي عتمة كبيرة" و " كيف من قلب الألم والدمار عم يطلع الفن تبعي"، متابعا "الشعب السوري شعب ذكي، وشعب جبّار وشجاع، والعالم كلو بيشهد لحضارة السوري، نحنا دعاة سلام ولسنا دعاة حرب، ولا متعطشين للدماء".

لم يتوّقع "أبو علي البيطار" الذي لم تعرف يداه يوما سوى مداعبة السيراميك والرّخام أن يكون حكاية تروى. فابن مدينة دوما الثائرة منذ بداية الانتفاضة حتى الآن، كان قبل الانتفاضة ككل أبناء مدينته مشغولا بعمله الذي يعانق من خلاله الحجر ليحوّله إلى رسوم وجمال في البيوت التي قدّر أصحابها قيمة عمله فأصبح معروفا في هذا المجال.

أوّل احتكاك مباشر للبيطار الأب لأربعة أولاد مع النظام، كان حين جاءت البلدية لتهدم منزله الذي بقي عشرين عاما يعمل حتّى تمكن من بنائه بحجة أنه "مبني في أرض زراعية"، رغم أن دمشق وحدها محاطة بحُزم من العشوائيات التي تمّ غض النظر عنها لأن لأصحابها إما صلات مع أبناء النظام وجلاوزته الذين حوّلوا البلاد مزرعة لهم أو " باب" يُدفع من خلاله رشوة تقيه شرّهم. هنا عرف أبو علي ظلم هذا النظام وطغيانه وجبروته. هنا عرف أن في وطنه الذي طالما تغنّى به أبناء ست وأبناء جارية،  وزاد إحساسه هذا من رؤيته لمظاهر البذخ والفساد وهو بالكاد يتدبّر لقمة عيشه التي لم تكن تكفي لدفع فواتير الماء والكهرباء و ضرائب المالية المتصاعدة، مما جعله ككل أبناء جيله مختمرا بانتظار لحظة الانفجار التي أطلّت في الخامس عشر من آذار مع اندلاع الانتفاضة، ليشارك في كل المظاهرات التي جرت في دوما التي كانت من أوائل المدن الثائرة ضد النظام، إلى أن اتهمه النظام بإطلاق الرصاص على عقيد بالشرطة العسكرية، فهرب من بلدته لمدة ثمانين يوما، ليعود إليها ويتابع التظاهر والاهتمام بأحوال اللاجئين والمهجرين الذين بدؤوا يسقطون كضحايا للنظام الذي بات يستخدم العنف بعد أن أدرك أنه عاجز عن إيقاف انتفاضة الكرامة، ليواجهه السكان المحليون بما توفر في أيديهم من سلاح كان ابن عمه "بسام محمد البيطار" واحدا منهم، وهو الذي سقط فيما بعد جرّاء سقوط صاروخ على الحيّ الذي يقطنه، الأمر الذي ترك أثرا كبيرا في روح "أبو علي" إضافة إلى مشهد آخر حفر عميقا في ذاكرته في بداية الانتفاضة و لن ينساه أبدا:" في بداية الانتفاضة، أيّام السلمية، سقط في الجامع الكبير في دوما ثمانية شهداء، اثنان منهما كانا أمامي تماما، كان شعورا مليئا بالانتقام والتحدي، لم يكن وقتها السلاح انتشر وكان القتل غير مألوفا بعد، إضافة إلا أنّي رأيت كيف سحبوا المعتقلين من الجامع إلى الباص حيث جروهم بطريقة قاسية على الزفت مسافة عشرين مترا.. بعدها سقط حوالي عشرة شهداء من عائلتي، عدا عن الإصابات التي تحوّل بعضها عاهات مستديمة مما جعل الانتقام في داخلي ينمو، في البداية لم يكن هناك انتقام لأن هذا الأمر تراكم في داخلي بعد زيادة القتل".

إلا أن أبو علي المصاب (لحسن حظه ربما) بقدمه بسبب إصابة قديمة من حادث دراجة نارية منعته من الالتحاق بـ"المجموعات المسلحة"، انتقم بطريقة أخرى، فـ "فرغت انتقامي بالفن" من خلال تحويل فوارغ الرصاص والصواريخ ومواد القتل إلى آلات موسيقية ومزهريات وشمعدانات وتحف فنية " بتمنى مثّل الثورة السورية فيها برا البلد أو بمعرض ضخم".

الفكرة جاءت تدريجيا حين كان البيطار في بداية الانتفاضة يجمع مخلفات القتل تلك ليوثّق من خلالها جرائم النظام، وحين عرف الأهالي برغبته تلك بدؤوا يجمعون له كل ما تقع عليه أعينهم وقت انسحاب الأمن من المدينة أو هدوء القصف "الجيران عرفوا أنو عندي هواية وصاروا الكبار والزغار يجيبولي هي الفوارغ، ولما صرت روح الجامع كنت لاقي الزغار والشب والشيوخ يجمعو ويعطوني ياها، وصار عندي مستودع وقلت لازم لاقي شغلة تتخلد". وهنا بدأت الأفكار تعمل في عقل أبو علي لينتج من آلات القتل أجنّة للحياة والفرح، حيث باتت معاناة الناس وآلامهم الملهم الأول والأساس له، فإن سمع أن جيرانه بحاجة لموقد غاز عمل مباشرة على أن يصنع منها موقد غاز يستعمله الناس فعلا، أيّ أنه لم يربط عمله بمتعة الفن فحسب بل سعى جاهداً لأن تكون مفيدة أيضا، جامعاً بين شرطي أي عمل فني "المتعة والفائدة" في آن، محاولاً مساعدة الناس على تحمّل مصابهم وعلى تقديم جرعة أمل وفرح لهم وسط هذا الدمار.

أبو علي وعائلته يعيشون اليوم في حالة يرثى لها ككل أبناء مدينة دوما من المساعدات وأموال الإغاثة، الأمر الذي يجعله يوجه رسالة لأصدقاء الشعب السوري وجامعة الدول العربية "يلي كلامهم كلو حكي"، طالبا العون لأن "الوضع كارثي و يرثى له"، مما يجعل إمكانية صرفه على فنّه شحيحة حيث يحتاج مواد لحام وأدوات أخرى لإنجاز عمله، ورغم الظرف الصعب يصرّ على العمل أملا في تخليد الانتفاضة ومجرياتها فنيا، وكي يرفع اسم بلده في معرض ينتظر أن يقيمه في عواصم العالم والمدن السورية بعد سقوط النظام الذي ينتظره بفارغ الصبر، لأن " متى ما سقط النظام رح تجي العزة والكرامة والوحدة العربية يلي عم يتغنى فيها النظام من عشرين سنة ورح ترجعلنا بلادنا وحياتنا"، و كي يعود إلى عمله "في السيراميك والرخام، وكمل فني، وارجع اشتغل لولادي".

هو حلم كل السوريين أن يعيشوا حياة طبييعة هادئة، فهل هذا صعب؟ 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد